رواية الكاتب التركي الطليعي أورهان باموك "الكتاب الأسود" صدرت عن دار المدى في ترجمة عربية أنجزها عبدالقادر عبدللي. هنا قراءة في الرواية التي ترسم صورة شاملة لتركيا المعاصرة وقضاياها الكثيرة، بأسلوب يجمع بين الواقعية والفانتازيا. حين صدرت رواية "القلعة البيضاء" بدا كما لو أن الرواية التركية عثرت فجأة على بوصلة جديدة تأخذها في اتجاه جديد. كان اسم المؤلف، أورهان باموك، بدأ يترسخ في الوسط الأدبي التركي كموهبة تختزن طاقة نادرة. ابتعد باموك عن السائد في الرواية التركية. وقف على مبعدة من المثال الرعوي، الريفي، المتجسد في كلاسيكية ياشار كمال. ولكنه وقف أيضاً مسافة من نموذج البطل المديني الصغير الشائع في كتابات الروائيين الأتراك منذ سعيد فائق وأورهان كمال وصولاً إلى فقير بايقورت ونديم غورسيل. بدت "القلعة البيضاء" بمثابة العتبة للدخول في رحابة الاتجاه الجديد للرواية. وعلى مدى أربع سنوات 1985 - 1989 انكبّ أورهان باموك على كتابة رواية أخرى صدرت بعنوان "الكتاب الأسود" قره كتاب. في الحال ظهر أن الأمر لا يتعلق برواية بل بمأثرة. ولم تكن هناك حاجة إلى جرأة كبيرة للقول ان الرواية التركية ظفرت أخيراً بصورتها الضائعة في ثنايا الزمن. في الرواية الجديدة نهضت تركيا كما ينبغي أن تكون: ملتقى الجهات والأمكنة والحضارات والصراعات والفنون والصناعات والأفكار والمخاوف والشكوك. مضى أورهان باموك إلى المدى الأبعد ليتفحص المقولات الراسخة ويعيد النظر إليها ويأخذها إلى فسحة أكثر رحابة وتعقيداً. عادت الفكرة التي كان باموك انشغل بها في رواية القلعة البيضاء. المقصود بالفكرة هو الانشغال بمسألة الهوية، الفردية والجمعية على حد سواء، والتشظي الذي لا نجاة منه. في "القلعة البيضاء" يشكل الخوجا التركي وعبده الإيطالي وجهين متقابلين في لعبة المرايا. كان واحدهما نظيراً للآخر ونقيضه في آن. كان واحدهما هو الآخر. وفي نهاية الرواية يتبادل الإثنان الأمكنة ويمكث كل واحد في موقع الآخر. لم تكن فكرة الهوية، وما يكتنفها من قلق وحيرة، غائبة عن الرواية الأولى لأورهان باموك "جودت بك وأولاده" جودت باي وأوغولاري. كانت هناك حيرة عائلة مدينية وتبددها في ثنايا الانفراط. عائلة تقطن وسط اسطنبول وتتشبث بأطراف المدينة لئلا تضيع. كانت ثمة مخاوف من الفقدان: فقدان الذات والبيت والمدينة. في الرواية الثانية أيضاً، "البيت الصامت" سس سز أف، يهيمن الخوف من فقدان البيت وسط تناحرات مميتة تطفو على سطح المدينة. تناحرات الوجهين المتقابلين في مرآة المسرح السياسي التركي آنذاك: اليسار واليمين المتنازعان دموياً في شوارع اسطنبول. ولكن "الكتاب الأسود"، الرواية، تنزع عن اسطنبول ظرفيتها وتضفي على راهنيتها بعداً زمانياً يمتد في الماضي ويحلق في الأفق المستقبلي. في الرواية يعيد أورهان باموك مساءلة المكان والمنتمين إليه. وهو إذ يفعل ذلك، فإنه إنما يعمق ترتيب الأجزاء لتتكامل في سيرورة دائرية لا تتوقف. لا تعود اسطنبول مجرد مكان بل تغدو كائناً من لحم ودم. تصير مخلوقاً روحياً يحب ويكره ويشتهي. تصير أشبه بكون مصغر تلتقي عنده النهايات. وفي الآن ذاته لا تبقى الرواية سرداً خيطياً لحوادث ووقائع، بل هي تكتسب قوام كتاب جامع يحمل بين دفتيه كثافة الأشياء. الرواية كتاب ولكنه كتاب يسعى إلى تلخيص الكتب كلها. كتاب الماضي والراهن. كتاب الشرق والغرب. كتاب الفرد والمجتمع. كتاب في الرواية وعن الرواية. يهدم باموك الحدود التي تفصل بين الأشياء. هو يأخذ بتلابيب الجهات ويصهرها في بوتقة واحدة: يجمع "ألف ليلة وليلة" مع متاهات بورخيس. ويأخذ العبارة الطويلة، المزخرفة، التي تقطع الأنفاس من ستندال ويربطها مع الجملة القصيرة، الرشيقة لمقال صحافي. كأن الروائي يسعى إلى خلق رواية تختزن الروايات جميعاً. هي رواية ترصد مدينة إسطنبول وتقتفي أثرها المرسوم على رمال الزمن المتحرك. الرواية ذريعة لرصد إيقاع المدينة والإصغاء إلى همهمتها الأبدية. ولكن المدينة بدورها ذريعة كي تشيد الرواية ذاتها عابرة للحدود والأجناس. في الرواية، وفي اسطنبول، يلتقي الشرق الآسيوي بالغرب الأوروبي. يندمج العرفان الصوفي، الشرقي، مع الغنوصية الإغريقية والتنوير الأوروبي. فلمَ لا تسعى الرواية الى أن تجمع الخبر والوصف والشعر والسرد الطويل والحكاية والحوار والتعليق والتقرير الصحافي معاً وفي بوتقة واحدة؟ تمسك الرواية بالقارئ منذ الهنيهة الأولى: يمد ذلك الطعم الذي تحدث عنه إدغار آلان بو: متعة التشويق ودهشة المجهول. غالب، بطل الرواية، ولكن من قال أنه بطل الرواية حقاً؟ يكتشف أن زوجته رؤيا وتعني بالتركية: حلم قد اختفت. في اللحظة عينها يختفي جلال، أخو رؤيا غير الشقيق، وهو، أيضاً، كاتب افتتاحيات صحافية شهير. ينطلق غالب للبحث عن الإثنين. بداية مثيرة لرواية بوليسية. ولكن الأمر ليس كذلك. لا تتعلق الحال برواية بوليسية بل بلعبة. يقوم الروائي بتوريط القارئ. يلوّح له بطرف الخيط. يدفعه إلى ملامسة الطعم، إلى تذوق القليل منه. ويكفي هذا كي يسقط في اللجة. يشرع الروائي بحركته، كذلك بحركة غالب وجلال، في التلاعب بالخيوط وإدخالها معاً في قماشة تضيع في ثناياها الزخارف والألوان. يجوب غالب شوارع اسطنبول ليلاً ونهاراً باحثاً عن رؤيا وجلال. ويقتحم الروائي ميدان السرد العام فيغنيها بسرد داخلي خاص. يصير يتحدث في الرواية والقصة داخل الرواية والقصة. أما جلال فإنه يحضر بافتتاحياته التي كان نشرها في ما مضى. يعود القارئ وكأنه يطلع على أوراقه وكتاباته من كوة سرية. هكذا تلتقي المحاور الثلاثة وتتشابك في ما يشبه الهذيان الدرامي الذي يتصاعد ويتمدد في فراغات النص. لا شيء في الحدث الروائي يقترب من مناخ الحكاية البوليسية. ومع هذا ثمة الفضول الذي يستولي على الذهن ويدفعه إلى السير مع تيار الوقائع بشغف لا نهائي. ذلك هو رهان الرواية: أن يأسر القارئ ويحبسه في شبكة النص ويثقل عليه بأحماله من دون أن تبدر منه معارضة أو تأفف. الحبكة البوليسية هي أداة للإيقاع. من بعدها ينفتح النص على أفق يتجاور فيه التاريخ والفن. في بحثه عن رؤيا الحلم وجلال المثل الأعلى لغالب الذي يصير يقلده وينتحل إسمه ويكتب المقالات الافتتاحية للصحيفة التي لا تلحظ الغياب، فإن غالب يبحث في زوايا التاريخ عن الوجوه الكثيرة لاسطنبول. هو يحفر في قاع المدينة وينقب في طبقاتها المتراكمة ويحدق في الأحفورات عميقاً. البحث عن رؤيا هو بحث عن اسطنبول كمدينة. والبحث عن جلال هو بحث عن اسطنبول كمعنى. ما إن يلوح للروائي أن التعب أدرك غالب، ومعه القارئ، من أثر الرحلة المضنية التي لا تلوح لها نهاية لنتذكر قلعة كافكا، حتى يسرع فيعمد إلى إثارة نقطة الاختفاء واحتمال أن تكون ثمة جريمة. وما إن يبدو لغالب، وللقارئ، أنه بات قريباً من حل اللغز حتى يأتي الروائي فيدفع دفة السرد بعيداً في إتجاه آخر. نجد أنفسنا كمن قذفته الصدفة في مدينة سحرية غارقة في الضباب. مدينة تنتصب على سبع تلال وتغفو على الخلجان والبحيرات ويلتقي شطراها بجسر خرافي مصنوع من خيوط الحرير ويمتد في الفراغ. في النهار نزور الدكاكين والمقاهي والمطاعم وأكشاك بيع الصحف. وفي الليل نتلصص على الحانات والفنادق وعلب الليل. يلتقي غالب بالناس في دأبهم اليومي: الشغيلة والطلبة وسائقي الترامواي والموظفين الحكوميين والصحافيين والوزراء والكتاب والفنانين. هؤلاء يكثفون أنفاس اسطنبول ويؤلفون روحها. بحث غالب يسير بالتوازي مع افتتاحات جلال التي تؤلف مقالات وقصصاً وقصائد وخواطر وتعليقات مستقلة قائمة بذاتها. الرواية نصوص داخل نصوص. داخل الخطين المتوازيين تنهض الذاكرة وتفرغ حمولتها من خزانة التاريخ: مقولات وأفكار وأديان. حب وعشق وجرائم قتل وتوق إلى اللانهائي. كانت اسطنبول كذلك على الدوام. كانت نجمة الشرق السحرية التي تغوي الكهنة والمغامرين والحالمين والمجانين والطامعين في الثروة واللاهثين خلف الشهوة. كانت اسطنبول أشبه بشهرزاد التي تعقد الحكايات وتولدها من رحم المجهول لتصنع بقاءها وتوطد سرّها اللذيذ. مدينة كهذه كانت تبحث عن حكواتي يروي حكايتها الممتدة منذ ثلاثة آلاف عام. أورهان باموك هو الحكواتي الذي انتظرته اسطنبول طويلاً. في "الكتاب الأسود" يروي أورهان باموك حكاية اسطنبول. يسردها من زوايا مختلفة ويقاربها من منظارين متضادين: واحد ينظر إليها كحديقة فيها ألف لون ولون وآخر يراها كجسد يحتضر في طريقه إلى الهلاك. كروائي موهوب، فإن اسطنبول بالنسبة إلى باموك، هي ما هو غريب ومدهش. هي حاضنة الأحلام والأوهام والمسرات والآلام. فيها تتوالد الحكايات وتتشظى إلى ألف جزء وجزء. هي دورة الموت والانبعاث. تدون الرواية سحنات مدينة، ترسم ملامحها، تلاحق معالمها، تحاول أن تصنع هويتها المؤلفة من هويات لا حصر لها. وكمثل أحياء اسطنبول المتجاورة، التي تبدو كمثل سجادات ملونة معلقة على جدار خيالي عملاق، فإن "الكتاب الأسود" يتألف من فصول وأبواب تتداخل وتنفصل في تناوب سردي مضن. يبدأ المؤلف كل فصل وباب، باقتباس من حكماء وشعراء وروائيين وفنانين من الشرق والغرب. كأنه يلخص حكمة الأسلاف من كل مكان ويظهر كيف أن الخيال الإنساني يتحرك في المدى الواسع الذي يحيط بهذا العالم. من العطار وإبن عربي وجلال الدين الرومي إلى دي كوينسي وفلوبير ولويس كارول وريلكه. كأن الرواية سرداب طويل في أعماق الأرض يتفرع إلى دروب ومحاور سرية. في "الكتاب الأسود" تظهر قدرة أورهان باموك على نسج الحكاية بالقدر نفسه الذي تلوح فيه براعته في التلاعب باللغة. كذلك لا يعدم القارئ ملاحظة إطلاع الروائي العميق على التراث الشرقي جنباً إلى جنب غرفه من الفن الروائي الغربي. هو كاتب تجاوز الحداثة وصار يمتلك القدرة، في اللغة والمخيلة، بما يمكنه من صنع رواية تضم الروايات جميعاً. كأنه يردد ما كان قاله بورخيس من أن الروايات إعادة سرد لروايات سابقة. رواية "الكتاب الأسود" تتويج لما كان سبق وكتبه أورهان باموك، ولكنها منهل أيضاً لما كتبه من بعدها. تبدو الروايات الأخرى، سابقها ولاحقها، وكأنها تنويعات على الإيقاع الفريد لهذه الرواية. لم يدون باموك حكاية المدينة فقط بل حكى حكايته أيضاً. لم يكشف عن هوية اسطنبول فحسب بل هو أفصح عن هويته كروائي مقتدر يتمتع بخيال مدهش ومعرفة واسعة.