إذا سارت الأمور في محكمة مدينة هامبورغ العليا على النهج ذاته الذي يعتمده القضاة حالياً فإن الفلسطينية سهيلة اندراوس المتهمة بخطف طائرة لوفتهانزا عام 1977 واجبارها على الهبوط في مقديشو ستقضي لا محالة بقية حياتها وراء القضبان. والتهم واضحة ومعدة بشكل دقيق، بحيث إذا اسقطت واحدة تحول جميع القضاة الى أخرى... لكن مع كل ذلك فإن الفدائية السابقة تشكل عبئاً كبيراً على العدالة الالمانية نظراً الى التداخلات القانونية الكثيرة فيها، واحتمالات ارتكاب أخطاء. من حيث المبدأ فإن المحاكمة كلها فقدت قيمتها الحقيقية، أو معظمها بسبب التقادم والتراكمات الزمنية، اذ لا يتوقع من محاكمة تتم بعد حوالي عشرين عاماً أن تكون ملمّة بجميع تفاصيل القضية الحية وجزئياتها. وأمام القضاة قضية معقدة ينبغي عليهم النظر فيها ومعالجتها من دون الاضطرار الى تجاوز القانون الدولي من ناحية، وبشكل يحقق الرضا لذوي الطيار الالماني يورغن شورمان، الذي قُتل اثناء العملية. ومن حيث المبدأ لن تكون مثل هذه المهمة عملاً روتينياً يسهل حسمه، اذ يعلق خبير في شؤون القضاء على الموضوع بالقول انه كان من حظ الفلسطينية سهيلة اندراوس ان تنجو من مصير محتوم لقيه جميع رفاقها الذين كانوا على متن الطائرة الالمانية، عندما نفذ فريق الكوماندوس الالماني خطته الهجومية، وقد احترمت المانيا في حينه القوانين الدولية، واذعنت الى قرار الحكومة الصومالية بمحاكمة اندراوس في مدينة مقديشو وادانتها ثم سجنها وبعد ذلك اطلاق سراحها واسدال الستار نهائياً على هذه القضية، اما اعادة فتحها بعد تراكمات الزمن ومضي عشرين عاماً عليها، فلن توصل الى خيط مفقود من العدالة، قدر اسهامها في تسخين قضية لم يعد لالمانيا أو لمصالحها الاقليمية والدولية أي فائدة محتملة منها. بعد اقتياد الفدائية الفلسطينية على احدى الطائرات الالمانية الى مطار هامبورغ، كانت الصدفة وحدها، قد لعبت دوراً في إبراز التناقض والخلل السياسي في النظر الى العملية كلها من ناحية، والى القضية الفلسطينية، من الناحية الأخرى، ففي حين كان مجلس مدينة هامبورغ يعقد جلسة استثنائية لتكريم الرئيس ياسر عرفات، بعدما كان طيلة يومين سابقين محط حفاوة وتكريم أبرز رجال الدولة الالمان، كانت على الجانب الآخر عربة خاصة بسجن التحقيقات في المدينة تنتظر لاقتياد الفلسطينية سهيلة اندراوس. وحاول مراقبون فهم امتعاض سهيلة من هذه النظرة المزدوجة، فياسر عرفات كان "ارهابياً" من وجهة نظر الغرب عندما كان يؤمن باستخدام القوة بكل أشكالها لتحرير فلسطين، وعندما قبل صفة الرئيس وتخلى عن النضال عبر "الكفاح المسلح"، تخلى الغرب من جانبه عن نظرته السابقة اليه. اما "الفدائية" الفلسطينية السابقة، فهي من عموم أبناء فلسطين الذين استجابوا لقياداتهم بالدعوة الى "النضال والكفاح"، وعرفات واحد من هذه القيادات المسؤولة. ومحاكمة اندراوس، لا يمكن أن تكون جزائية مطلقة لصدور حكم قضائي سابق في شأنها، وتنفيذه في حينه، حسب قناعة السلطات المعنية في البلد المعني وهو الصومال. وإزاحة القضية الجزائية عن الوجود يدخل القضية برمتها في عنق القضية السياسية البحتة، وهنا مكمن التعقيد الذي يواجه القضاء الالماني. من الجانب الانساني تؤكد المعلومات ان الناجية الوحيدة من حادث الطائرة الالمانية حاولت على طريقتها الخاصة التوصل الى لقاء تصالح وتسامح مع ذوي الطيار القتيل، حتى يمكن التسوية، حسب الطريقة العربية التي لا تعتبر غريبة تماماً في المجتمعات الغربية، لكن أرملة الطيار رفضت الاستجابة الى مثل هذا الطلب التصالحي. فأصبح الأمر يدور في اطار حلقة الانتقام والثأر. وهذا هو بالذات مكمن الحالة الصعبة التي يتعين على المحكمة التوصل الى حل مقبول لها يرضي ذوي القتيل من ناحية، ولا يعرض سمعة القضاء الى الاساءة بسبب فتح صفحة جنائية أسدل الستار عليها منذ عشرين عاماً، من دون اعتراض من المانيا على ذلك في حينه. ومنذ الجلسة الأولى للمحاكمة تكشفت جوانب خفية من الاستعدادات المتخذة لاتمام المحاكمة، حيث وجهت اندراوس لوماً قوياً الى المحققين الالمان واتهمتهم بممارسة ضغوط قوية عليها كي تدلي بافادة لا تتطابق مع قناعتها وارادتها، وهو حق يكفله القضاء الالماني، فتحدثت، على سبيل المثال، عن الطلب اليها بالاساءة الى الالمانية المعتقلة منذ عام، مونيكا هاس، على أساس انها هي التي زودت الفريق الفدائي الذي قام بالعملية بالأسلحة التي ظهرت في الطائرة. وتقول انهم وعدوها بحكم مخفف اذا استجابت لرغبتهم. والمعروف ان دوائر التحقيق روجت بعد فترة وجيزة من اعتقال اندراوس بأن الالمانية هاس وفرت بالفعل الأسلحة المطلوبة للخاطفين، وهو أمر تنكره الأخيرة بشكل قاطع، كما تنفي وجود أي علاقة لها بسهيلة التي أكدت عدم تجاوبها مع رغبة المحققين بالادلاء بأقوال كاذبة ضد الالمانية هاس "لأنني لا يمكن أن أساوم على المبادئ". وليس مستبعداً ان تحمل قضية الفدائية الفلسطينية سهيلة اندراوس السايح مفاجآت أخرى بعدما وجهت المتهمة لوماً آخر الى مترجمها باساءة نقل افادتها في البيان الذي قدمته في بدء المحاكمة، حيث نقل أن اندراوس تشعر بجانب من المسؤولية والذنب في عملية قتل الطيار الالماني، وهو ما نفته لاحقاً.