كما في فيلمها القصير "فاطمة 75"، عادت التونسية سلمى بكّار لتثير الضجة من حولها مع فيلمها الروائي الطويل الأوّل "حبيبة مسيكة". مع "فاطمة" أثارت غضب السلطة في عهد الرئيس السابق بورقيبة، ومع "حبيبة" استفزّت المثقّفين العرب الواقفين ضد التطبيع، بسبب دين هذه المطربة التونسيّة الكبيرة التي يدور حولها الفيلم، علماً أن بكّار تعمل على هذا المشروع منذ عقد كامل أي قبل أن تسود في الأوساط الثقافية العربية "بارانويا التطبيع". أما ذهاب هذه المخرجة إلى "مهرجان حيفا"، فمسألة أخرى تستحقّ النقاش... وتجدر الاشارة إلى أن مخرجة "حبيبة مسيكة" حضرت مهرجانات دولية عدّة منها القاهرة، حيث شارك الفيلم في "مسابقة نجيب محفوظ" الخاصة بالأعمال الأولى. في نوادي الهواة التي كانت تؤلّف شبكة غنيّة في تونس، وأفرزت معظم المخرجين المعروفين حاليّاً، تعرّفت سلمى بكّار إلى السينما، وحقّقت شريطها القصير الأوّل في العام 1964 بعنوان "اليقظة"، قبل أن تسافر إلى باريس استكمالاً لدراستها. لدى عودتها إلى بلادها عملت مساعدة مخرج مع عدد من السينمائيين، ثم حقّقت "فاطمة" 1975 الذي أثار ضدّها غضب السلطة آنذاك، ما أدّى إلى تضييق الخناق عليها. ولم يعد لها من متنفّس سوى العمل في الانتاج وفي مساعدة الاخراج، حتى عادت إلى الوقوف خلف الكاميرا في العام 1985 مع شريط وثائقي بعنوان "من الصوف إلى الخيوط الذهبية". ويلاحظ المراقب أنّ غالبيّة أفلامها تعكس هاجساً واحداً، يتمحور حول قضايا المرأة ومشاغلها وهمومها. في القاهرة إلتقتها "الوسط" خلال المهرجان، وكان هذا الحوار الذي يعكس ما أثاره الفيلم من نقاشات صاخبة. كيف ترين الفارق بين مهرجاني القاهرة وحيفا؟ - في حيفا كنت حالة خاصة جدّاً واستثنائيّة، فأنا عربية في مهرجان اسرائيلي. دارت حوارات عدة، مع المثقّفين والمشاهدين من دون أن يسمعوني أو يناقشوني في فيلمي أو في السينما بشكل عام، فهذا لم يكن الهمّ الأساسي لمعظم محاوريّ. بدا لي أنهم يحاولون تغيير فكرتنا عنهم، أن يغيّروا صورة "المغتصب" التي تلازمهم. كنت أتمنّى أن يعرض فيلم "حبيبة مسيكة" تجاريّاً هناك، لكنّ أسواقهم مغلقة بوجه كلّ شيء إلا السينما الأميركية، تماماً كالأسواق المصريّة المغلقة بوجه أي سينما غير الأفلام المحليّة أو الأفلام الاستهلاكيّة المستوردة من أميركا. لقيت طبعاً في مصر حفاوة نقديّة واهتماماً من قبل أهل المهنة والجمهور المتخصّص، وأثار فيلمي ردود فعل إيجابيّة أو سلبيّة. لكنّ المسألة تتوقّف هنا، فالمشاهد العادي لن يشاهد العمل. يعلّلون ذلك هنا بحاجز اللهجات، لكن لو أخذنا مثلاً فيلم "شيشخان" محمود بن محمود، الفاضل الجعايبي الذي دُبلج إلى اللهجة المصريّة كي يوزّع في مصر - علماً أن بطله هو الممثّل المصري القدير جميل راتب الذي بذل جهداً رائعاً كي يمثّل بالعاميّة التونسيّة! - ولو أخذنا فيلم "قيس وليلى" الناطق بالفصحى عن قصة وثيقة الصلة بالذاكرة الجمعية العربية، لوجدنا أنّهما لم يوزّعا في القاهرة. قبل لومنا على الذهاب إلى حيفا افتحوا لنا أسواق القاهرة. قد لا تكون الدبلجة هي الحلّ الأمثل لهواة الفنّ السابع، خصوصاً أن العاميّة التونسيّة عربيّة مثل اللبنانيّة أو المصريّة شرط أن يألفها المشاهد، لكنّنا قبلنا بالدبلجة ما دامت الحلّ. فلتدبلج الأشرطة التونسية إلى العاميّة المصريّة، لكن لتُترك لنا فرصة أخذ موقعنا إلى جانب الفيلم الاميركي والفيلم الهندي. يهود تونس توانسة هناك أفلام تونسية عدّة تثير غضب البعض هنا، بسبب شخصياتها اليهودية. هل للأمر صلة بالتمويل؟ - هذا الكلام مخجل وسطحي ومجحف بحقّ الثقافة العربيّة التي هي أبعد ما يكون عن العنصريّة. أوّلاً قبل فيلمي عن هذه المطربة التونسيّة التي يعتزّ بها ويحبّها كل تونسي، لا أعرف إلا فيلماً واحداً لنوري بوزيد فيه شخصيّة يهوديّة، وهي جزء من التاريخ الوطني ومن الذاكرة الجماعيّة. أليست هناك شخصيّة يهوديّة في فيلم يوسف شاهين "إسكندريّة ليه؟"؟ هل هذه آخرتنا، أن نصنّف الأفلام ونقوّمها في ضوء أديان شخصيّاتها؟ ولعلمك فيلمي الآن أمام القضاء في فرنسا. فجزء من التمويل فرنسي، والمموّل رفض توزيعه على الشاشات الباريسيّة في الموعد المقرّر الخريف الماضي، ويرفض دفع ما هو متوجّب عليه إلا إذا قمت بالتركيز الزائد على الهوية اليهودية لحبيبة. أنا أرفض طبعاً، لا لشيء إلا لكون ذلك الترويج الخارجي السهل لا يعنيني، ولا ينسجم مع رؤيتي الفنيّة. هكذا لم أستطع دفع أجور بعض زملائي الفنانين. قبل باريس ذهبت إلى المغرب، فلم تعجب البعض صيغة المرأة العربية الباحثة عن حريتها، وهناك من طالب بالتخفيف منها، تماماً كما لم يتحمس بعض الممولين الغربيّين لهذه الصيغة معظم التمويل جزائري. هذه الضجّة المجّانيّة متعبة ولا طائل تحتها، بدأت مع "ريح السد" لنوري بوزيد، وكنت عملت عليه كمساعدة. موّله تونسي فرنسيّ الجنسية. هناك من ينسى أو يتناسى ربّما أن الجالية اليهودية كبيرة في تونس، وأنّها جزء فاعل في تراثنا الفني، وذاكرتنا الوطنيّة، وأن معظم أفرادها رفض الهجرة إلى إسرائيل، في حين أنّنا ساهمنا في الخطأ نحن التوانسة حين وجدنا فيهم ضحيّة سهلة، وانتقمنا منهم بعد نكسة 1967. يهود تونس توانسة مثلي. حبيبة مسيكة تقولها صراحة في الفيلم: "أنا تونسية قبل أن أكون يهودية"، ولن تلحظ ديانتها إلا في منتصف الفيلم. في اسرائيل ناقشوني فقط حول مسألة حرقها على يد قريبها، بعدما رفضت الهجرة معه... هذه الفنّانة هي، بالنسبة إليّ، ممن حافظوا على تراثنا الفني العربي كجزء من وطنهم وذاكرتهم. إستمع إليها تغني العديد من الأدوار المصرية التي انقرضت عندكم. وأهم ما في المسألة، أنّها باحثة عن حريتها - كما أبحث أنا - وتدفع حياتها ثمناً لذلك. لماذا الذهاب إلى حيفا إذاً؟ - صحيح أننا في تونس لم نحارب اسرائيل، لم نتشرّد ولم نذبح ولم نسكن الخيام، لكنّنا وقفنا مع القضيّة الفلسطينيّة ومع الشعب الفلسطيني المكافح من أجل استعادة أرضه وكرامته وحقوقه. وعندما قرّر هذا الشعب أن يدخل في عمليّة السلام كان لا بدّ أن نحترم هذا القرار. لكنّني سأقول لك السبب المباشر لقبولي الذهاب إلى حيفا. هناك صحافية تونسية مقيمة في باريس، عاشت مع أطفال من غزة، وحقّقت صوراً حول تجربتهم الانسانيّة والفنيّة. عرضت هذه الصحافيّة حصيلة معايشتها للواقع الفلسطيني في مدن غربية عدة، وأرادت عرضها على هامش مهرجان حيفا. هنا اعترض الاسرائيليون، وقالوا "الصور فقط، لكن من دون الاطفال". وجرت المقايضة إذ تعهّدت باقناعي بالمجيء مع فيلم "حبيبة مسيكة"، في مقابل السماح للاطفال بالحضور. وهكذا كان، إذ حضر الاطفال مع أسرهم ومسؤولين من منظمة التحرير الفلسطينية. العصر الذهبي إشكالية المرأة تتكرّر في أعمالك منذ "اليقظة"، مروراً ب "فاطمة 75"، وحتى "حبيبة مسيكة"؟ - صحيح. قصتي الأساسية عن امرأة أحبها كثيراً. لكن هناك رجالاً عديدين حولها أحبهم أيضاً. قد تكون شخصياتهم غامضة، هذا طبيعي لأنني أقرب إلى عالم المرأة. لكنّني لست مأسورة في خندق، بل أسبح في اشكالية متسعة. "فاطمة 75" قد يكون "نسويّاً" FIMINIST أكثر من اللزوم، فأنا لم أعد أعترف به اليوم. تجاوزت هذه المرحلة، إنّما كان يجب أن أمرّ بها. بطلتك حبيبة مسيكة، المطربة التونسيّة التي لا يزال يحبّها الناس إلى اليوم، تبدو سابقة لعصرها... - إن مرحلة الثلاثينات في تونس، بصفة عامة، كانت تموج بالأفكار الحرّة المجنونة. كانت هناك حرية في الابتكار والابداع والتطوّر. وحبيبة ابنة هذا العصر الذهبي ورمزه، لذا ستجدها متحررة قبل سفرها إلى أوروبا، كانت تلقائية، وقامت بأدوار رجال، وغير ذلك. لكنّ التخلف عاد فاحتوى الحلم وحطّم ذلك الانسجام، عندما أحرقها قريبها. أردتُ كسر الاسطورة فأفقدتها واقعيتها، وصوّرتها بشكل رمزي. ألم تحمّليها رؤياكِ الذاتيّة؟ ألم تسقطي عليها أفكارك الخاصة؟ - الفنّان يلاقي نفسه، ويعبّر عنها من خلال فنه. كلّ الأفكار التي آمنت بها، كلّ عناصر ذاكرتي، ستجدها في أعمالي. عناصر الفيلم مني أو ليست بعيدة عنّي، من دون أن يعني ذلك أنّني حوّرت في الوقائع الموضوعيّة. الطفلة الصغيرة عاشقة الموسيقى وحبيبة هي أنا، العمة عزيزة قريبة من قريباتي تمتعت بتحرر نسبي وكانت تعشق الفنون. كلّها أشياء أحملها في داخلي، لست مؤرخة أو مصلحة اجتماعية. أنا انسانة منشغلة بالأسئلة، بالتأسيس لطريقة تفكير مختلفة، وبإلقاء نظرة جديدة على الأشياء. هذا دوري ببساطة كمخرجة. وكيف استقبل الفيلم في تونس؟ - فاجأني اقبال الشباب تحديداً. فكرة البحث عن الحرية شدّت المشاهدين، مع أن البعض يطالبنا بالحديث عن الحاضر. احتلّ "حبيبة مسيكة" المرتبة الثانية في الايرادات بعد "الحلفاويين"، فيلم فريد بوغدير الذي عرّف الجمهور التونسي بسينما أخرى، بعد أن كان مستلباً بنوع معيّن من الأفلام المصريّة، ناهيك عن الأفلام الأميركية والهندية. الفيلم التونسي الجيد لا تقلّ مدة عرضه اليوم عن سبعة أو ثمانية أسابيع. ومع ذلك فأنا مؤمنة أنه لا توجد حتّى اليوم سينما تونسية، لكن هناك أشرطة تونسية احتلّت مكانها في بلدها ووصلت إلى بعض الشاشات في الغرب، ولا يكاد يخلو منها مهرجان. وماذا عن المرأة في السينما التونسية؟ - المرأة عنصر ديناميكي في الأحداث الدرامية، وليست مجرد آلة. من يعتبر أفلامنا إباحية، لم يرَها كما يجب أو لا يحسن التمييز بين تحفة فنيّة في متحف عالمي، ومجلّة صور استهلاكيّة. لي حق الاختيار كمخرجة، وهذا ليس بسيطاً! بعض الأوروبيين يسألني دائماً عن الصعوبات التي أواجهها "كمخرجة أنثى في مجتمع عربي"، فأجيب - بكل صدق - أنّها الصعوبات نفسها التي يواجهها زملائي الرجال. بل بالعكس بين الرجال نزاعات ومنافسات، أمّا نحن فيساعدوننا ويفرحون بنا. أنا ومفيدة التلاتلي صاحبة "صمت القصور"، ونادية بن مغلوب صاحبة "الشامة" الذي منعه المنتج البلجيكي من العرض منذ العام 1981، وأخريات... فيلمك المقبل بطلته إمرأة أيضاً؟ - نعم. امرأة عادية، في الاربعينات، حين كانوا يسقون الأم مخدراً شعبياً لتتحمل آلام ما بعد الوضع، ولينام الطفل. إمرأتي أدمنته ونزلت إلى القاع. من هنا عنوان الفيلم: "الجحيم".