في هذا العام يبلغ مهرجان قرطاج السينمائي عامه الثلاثين. وكأن كل ذلك القدر من السنين لم يمض بعد. كأن الاحلام السينمائية التي كانت تخامر اذهان مؤسسيه، وعلى رأسهم الطاهر الشريعة والراحل حمادي الصيد، لا تزال هي هي بعد ثلاثة عقود وخمس عشرة دورة، فاليوم في الدورة السادسة عشرة، تبدو السينما العربية، وكأنها تعود الى نقطة البداية: نقطة الاحلام الكبيرة والبدايات الواعدة بحيث يحق للمرء ان يتساءل عما اذا كان المهرجان، وهو الاكثر طموحاً وتقدماً ودلالة من بين كافة المهرجانات السينمائية العربية، قد حقق، ليس على صعيد استمراريته، بل على صعيد اهدافه في خلق سينما عربية جيدة، كل أو بعض ما كان يصبو اليه في دوراته الاولى. يقيناً، ورغم ما قد يبدو على الانتاج السينمائي العربي الراهن من وهن وتراجع، ان مهرجان قرطاج قد حقق على مدى سنوات حياته، حتى الآن، معظم ما كان يصبو اليه، وفي مقدمة ذلك مواكبته لمسيرة ما يمكننا ان نسميه "السينما العربية الجديدة" هذه السينما التي يمكن لأي مؤرخ منصف ان يعيد بداياتها، كظاهرة، الى تلك السنوات الخصبة، سنوات أواسط الستينات، من دون ان يعني ذلك ان ما - قبل - تاريخها الذي تحمل أفلامه تواقيع يوسف شاهين أو توفيق صالح، محمد الاخضر حامينا أو عبداللطيف بن عمار، صلاح أبو سيف وغيرهم، يمكن اغفاله. فهنا نتحدث عن حركة، وليس عن ظواهر فردية. والحركة التي يمكننا اليوم افتراض وقوفها في خلفية ما عرفته السينما العربية - في مصر وخارج مصر - من ازدهار نوعي في الثمانينات وما حولها، هذه الحركة نمت مع مهرجان قرطاج وواكبته تاريخياً، أو بالاحرى نما هو معها وواكبها، بحيث ان المهرجان تمكن من ان يقدم للمرة الاولى اعمالاً صارت كلاسيكية في ما بعد وحملت تواقيع برهان علوية، ومرزاق علواش وفاروق بلوفة وسهيل بن بركة ورحنا الباهي، ومحمد خان ومحمد ملص ويوسف شاهين وتوفيق صالح ومؤمن السميحي وخيري بشارة وغيرهم. ونحن اذ نذكر هذه الاسماء، نكون ذكرنا اعلام السينما العربية الجديدة. ومن هنا ارتباط مهرجان قرطاج بتلك السينما. ومن هنا، ايضاً، تأتي أهمية التظاهرة التي ستقام في هذه الدورة الجديدة، تحية لسنوات قرطاج الثلاثين... ودوراته الخمس عشرة السابقة. تحية تتضمن عروض ابرز افلام ماضي المهرجان للتذكير والتأمل. وربما للتحسر أيضاً. التحسر لأن الواقع الراهن للانتاج السينمائي العربي، بشكل عام، ليس من شأنه ان يجعل عروض الدورة السادسة عشرة في ما يتعلق بالافلام المنتجة خلال العامين السابقين والداخل بعضها في المسابقة الرسمية، أفضل عروض شهدها المهرجان في تاريخه. بل ان معظم الافلام المعروضة، سبق عرضها في مناسبات اخرى. غير ان هذا لن يمنعنا من الافتراض بأن عرضها، في مهرجان قرطاج، سوف يتخذ دلالة اخرى ونكهة جديدة، حيث البعد واضح وصريح. مهرجان قرطاج هو للسينما العربية، مثيل ما يشكله مهرجان البندقية للسينما الطليعية في العالم. ومن هنا يبدو مناخ العروض اكثر أهمية من العروض نفسها، خصوصاً وان تظاهرات عديدة تقوم، في قرطاج، على هامش المسابقة الرسمية، تعطي للتظاهرة العامة كل دلالاتها. ومن ابرز تظاهرات هذا العام ندوة فكرية حول السيناريو يشارك فيها نقاد وكتاب ومخرجون... ولحد علمنا فإن هذه هي المرة الاولى التي ينظم فيها مهرجان سينمائي عربي، ندوة فكرية حول السيناريو، علماً بأن معضلة السيناريو هي واحدة من المعضلات الاساسية التي اعتادت ان تواجه السينما العربية، وخصوصاً الجديدة منها. ويبدو ان الندوة سوف تنطلق من ثلاثة اسئلة رئيسية هي: ما هو السيناريو؟ هل يمكن تدريس السيناريو؟ وأية آفاق للسينما الافريقية والعربية في الوضع الحالي؟ ومن التظاهرات الاخرى الموازية تظاهرة خاصة لتكريم الفنان نور الشريف، في حضوره على الارجح رغم انشغاله بتصوير فيلمه الجديد "المصير" من اخراج يوسف شاهين بين لبنان وسورية، وسيتضمن التكريم عرضاً لبعض أفضل الافلام التي لعبها نور الشريف خلال مسيرته السينمائية التي تمتد زمنياً، بما يوازي عمر المهرجان التونسي، ومن تلك الافلام "السراب" و"زوجتي والكلب" و"سواق الاوتوبيس" و"مع سبق الاصرار" و"البحث عن سيد مرزوق". وهذه التظاهرة ستتيح لنور الشريف فرصة يلتقي فيها، من جديد بجمهور مهرجان قرطاج الذي سبق ان شاهد عدداً من ابرز افلامه وينظر اليه نظرة استثنائية في عالم التمثيل الذكوري العربي. من افريقيا الشعر الى قاهرة اليوم وبالنسبة الى التظاهرة الرئيسية في المهرجان، أي تظاهرة المسابقة الرسمية، فإن برنامجها لم يكتمل حتى كتابة هذه السطور، وان كان من المعروف سلفاً انها ستضم العديد من الافلام العربية والافريقية الجديدة والافريقية لأن ما يئس عادة بالنسبة الى الصحافة العربية التي تتحدث عن مهرجان قرطاج هو ان هذا المهرجان ينقسم الى قسمين، اولهما عربي والثاني أفريقي، وهنا تكمن بعض أهميته، ولكن غرابته ايضاً، حيث يبقى السؤال قائماً حول ما يربط حقاً، موضوعياً وتاريخياً، بين السينما العربية والسينما الافريقية، حيث لا المواضيع متشابهة ولا المعضلات ولا الثقافات. مهما يكن، من ابرز الافلام الافريقية التي تشارك في مسابقة هذا العام فيلم "شجرة الدم" من اخراج كلورا غوميس، وهو فيلم كان عرض في المسابقة الرسمية في مهرجان كان الاخير، وحاز اسلوبه الشاعري الرابط بين العواطف الانسانية وتقلبات الطبيعة على اعجاب كبير لم ينعكس على أي حال بفوزه بأية جائزة. ومن افريقيا السوداء ايضاً، بين افلام اخرى فيلم "غيمبا، طاغية وزمن" للشيخ عمر سيسوكو، وهو فيلم يخرج الى حد ما عن الاطار السائد في السينما الافريقية، من حيث تعامله مباشرة مع العواطف الانسانية، ومشكلة السلطة والطغيان، من خلال قصة حب متشعبة. أما السينما العربية فيبدو، حتى كتابة هذه السطور، انها ستتمثل في عدد من الافلام التي سبق عرضها في مهرجانات اخرى، فمن مصر يأتي الفيلم الشاعري الجميل "يا دنيا يا غرامي" لمجدي أحمد علي، وهو فيلم يدور حول حكاية اصرار ثلاث فتيات في قاهرة اليوم على العيش مهما كانت الصعوبات. فيلم واقعي في شاعريته، ثوري في علاقته بقضية المرأة، وفر لليلى علوي والهام شاهين، على الاقل، فرصة لتقديم احسن ما عندهما من اداء عفوي. ومن مصر ايضاً فيلم "عفاريت الاسفلت" لأسامة فوزي، الفيلم الذي كان في العام السابق مفاجأة مهرجان القاهرة الحقيقية، في تناوله بجرأة وشاعرية، لبعض اهم المشاكل الاجتماعية التي تطال طبقة محددة من المجتمع المصري، عبر تعريجه على المسألة الجنسية بشكل لم يسبق له مثيل في السينما المصرية. من مصر ايضاً، ولكن خارج المسابقة الرسمية افلام مثل "ليلة ساخنة" للراحل عاطف الطيب، و"البحر بيضحك ليه؟" لمحمد كامل القليوبي، الذي يعرض له "قرطاج" من ناحية اخرى فيلمه التسجيلي "محمد بيومي" الذي يعتبر تحية متميزة لتاريخ بدايات السينما المصرية. فنان تونسي في حي شعبي من تونس، البلد المضيف، يأتي فيلم "السيدة" لمحمد زرين، وهو احدث ما انتج في تونس حتى اليوم، ويدور موضوعه حول "النظرة": نظرة فنان تشكيلي يعيش لحظة انقطاع في قدراته التعبيرية حين يكتشف وجود فتى يبهره، فيظل يطارده حتى يصل الى مكان سكناه في حي "السيدة" الشعبي، ومن خلاله يتصرف الفنان على نمط حياة شعبي لم تكن له دراية بوجوده من قبل. من تونس ايضاً سوف تعرض أفلام اخرى عدة، ربما يكون من بينها فيلم "حبيبة مسيكة" لسلمى بكار، وبالتأكيد فيلم "حلف الوادي" لفريد بوغدير الذي أثار - ولا زال يثير - جملة من النقاشات السياسية والجمالية حيثما عرض. من سورية، سيأتي على الارجح فيلم "اللجاة" لرياض شيا، وهو فيلم متميز يقيناً، وإنما يبقى متفرجه على عطشه من ناحية موضوعه وادارة مخرجه للممثلين. أما من لبنان فبالاضافة الى عدد من الافلام القصيرة التي حققها شبان لبنانيون، من بينهم ميشال كمون وشيلا بركات، وأثارت اعجاباً حيثما عرضت، من المفترض ان يعرض فيلم "حروبنا الطائشة" لرندة الشهال. ويلاحظ على أي حال غياب شبه تام لأي شريط لبناني روائي الا اذا حدث تبدل ما في اللحظات الاخيرة. اما من فلسطين فهناك، بالطبع، "حيفا" لرشيد مشهراوي الذي سبق ان عرض في العديد من المهرجانات وتحدثنا عنه لمناسبتها. ولكن هناك ايضاً فيلم ايليا سليمان الروائي الجديد الذي اعتبره كل من شاهده حتى الآن واحداً من أفضل الافلام العربية التي حققت، أخيراً، ولقد فاز الفيلم الذي صوّر بأكمله في فلسطين، جائزة العمل الأول في مهرجان البندقية. والمرجح ان يأتي من فلسطين فيلم ثالث هو "حكاية الجواهر الثلاث" لميشال خليفي، وان كان من المستبعد عرضه في المسابقة الرسمية. "سلاماً يا ابن العم!" للجزائري مرزاق علواش، هو الفيلم الابرز الذي يمثل الجزائر، وان كان قد صور بأكمله في باريس ليتحدث، بالتحديد، عن ذلك التناقض، في النظرة الى الجزائر والهجرة منها على ضوء احداثها الاخيرة، بين جزائريي الداخل وجزائريي الخارج. فيلم علواش اعتبر بشكل او بآخر استكمالاً لفيلمه السابق "باب الواد سيتي"، وعودة من هذا المخرج الجزائري القدير الى اجواء "عمر قتلته" فيلمه الأول المتميز الذي كان في حينه، وعبر احدى دورات قرطاج السابقة، واحدة من اجمل صرخات السينما العربية الجديدة. فاذا اضفنا الى هذا كله تمثيل حكيم نوري، بفيلمه الاخير، وجيلالي فرحاتي بفيلمه الاخير هو الآخر، للسينما المغربية، يصبح لدينا "بانوراما" شبه كاملة لعروض المسابقة، تلك العروض التي سيكون على لجنة التحكيم التي من بين اعضائها سينمائيون وكتّاب من طينة الجنوب أفريقي برايتن برايتنباخ، والسينمائيتان المغاربيتان فريدة بليزيد ومفيدة التلاثلي، سيكون عليها ان تختار. وفي جميع الاحوال، واضح ان عروض قرطاج هذا العام تقدم صورة حية للانتاج السينمائي العربي، والافريقي، بغثه وسمينه ما يجعل هذا المهرجان مرة أخرى مرآة لسينمات لا تعيش، على أي حال، أفضل سنواتها.