بعدما استعرضنا الوضع العام للسينمات العربية في حلقة أولى، وخريطة السينما في المغرب والجزائر في حلقة ثانية، نتابع الرحلة فنصل الى تونس التي تشهد منذ سنوات ما يمكننا ان نطلق عليه اسم "المعجزة السينمائية التونسية الصغيرة". خلال ستة عشر عاماً لم يتغير شيء وحدها صالة السينما تغيرت. ففي العام 1978 حين عرض فيلم رضا الباهي "شمس الضباع" خلال مهرجان قرطاج بعد منع طويل، كان زحام المشاهدين واحداً من اكبر ضروب الزحام التي شهدتها السينما التونسية في تاريخها. وفي العام 1994، حين قدم رضا الباهي نفسه فيلمه الجديد "السنونو لا يموت في القدس" في عرضه العالمي الأول، كان الزحام نفسه الفوضى نفسها. ولئن كان جمهور "شمس الضباع" صفق يومها لجرأة الفيلم في طرح المشكلة السياحية في تونس، فإن جمهور "السنونو لا تموت في القدس" صفق أيضاً عند نهاية الفيلم ولكن... لأغنية فيروز التي ختمت الفيلم متحدثة عن مدينة القدس. من "شمس الضباع" الى "السنونو..." كان النظام العالمي الجديد مر من هنا. ولئن كنا اضطررنا في العام 1978 للدفاع عن عرض فيلم سويسري لاسرائيلي يفضح عنصرية الصهاينة ضد اليهود الشرقيين، فإننا انهمكنا في العام 1994 بملاحقة الصحافيين والمسؤولين الاسرائيليين الذين قيل لنا انهم تسللوا الى مهرجان قرطاج لكي يختلطوا بالسينمائيين العرب، والكشف عن حضورهم. كان النظام العالمي الجديد مر من هنا حقاً. لكن هذه حكاية اخرى بالطبع. الحكاية الأساسية، بالنسبة الينا هنا، هي حكاية السينما التونسية. فلئن كان رضا الباهي يمثل حالة استثنائية في السينما التونسية في العام 1978، وسط طوفان من افلام تنتجها سينما كانت لا تزال تبحث عن نفسها. فإن رضا الباهي نفسه تبدى في العام 1994 عادياً وواحداً بين كثيرين يصنعون ما يمكننا ان نطلق عليه، ومنذ اواسط سنوات الثمانين، اسم "المعجزة السينمائية التونسية الصغيرة". النهضة عمل جماعي لئن كان بامكاننا، بالنسبة الى حالة السينما الجزائرية ان نشير الى فيلم لمرزاق علواش قائلين بأن هذا الفيلم هو الذي "اعاد اكتشاف السينما الجزائرية"، فإن مثل هذا الكلام لن يبدو منطقياً ان حاولنا ان نجد له معادلاً في السينما التونسية. فهذه السينما، التي كان من حظها منذ بداياتها ألا تكون وريثة لأي فكر ايديولوجي او لأي تاريخ محدد، كانت لها علامات عديدة على مدى تاريخها القصير. ففيلم "العرس" لجماعة المسرح الجديد، كان على سبيل المثال علامة أساسية، وكذلك كان فيلم "عبور" لمحمود بن محمود علامة، وستكون أفلام نوري بوزيد وفريد بوغدير والناصر خمير بدورها علامات. وحتى فيلم "ظل الأرض" للطيب الوحيشي يمكن اعتباره علامة أساسية. النهضة عمل جماعي على الرغم من العدد المحدود لانتاجاتها، تعتبر نهضة السينما التونسية عملاً جماعياً حقيقياً، شارك فيه مخرجون عديدون، ولكن جزءاً كبيراً من الفضل فيه يعود الى البنى الانتاجية التي تواكبت مع المسيرة التي خاضتها السينما، وهي بنى كانت وريثة للساتباك، تلك المؤسسة الحكومية التي عرفت كيف تكوّن الكادرات التقنية والكادرات الانتاجية ايضاً. وكانت كذلك، ومن ناحية اخرى، وريثة نهضة الهواية السينمائية كما تمثلت في انتشار جمعيات الهواة والنقاد، اضافة الى كونها تواكبت مع حركة النهضة المسرحية بحيث لن يكون من المصادفة ان بعض أفضل ممثلي السينما التونسية هو في الوقت نفسه بعض افضل المسرحيين، وأن أفلاماً عديدة، من "العرس" الى "عرب" الى "شيشخان" أنجزت بفضل مساهمة مسرحيين معروفين. هذا التضافر يعتبر خاصة أساسية من خواص السينما التونسية. بيد انه لا يكفي وحده لتفسير "المعجزة". لتفسير المعجزة علينا كذلك ان نتفرس في الليبرالية النسبية التي طبعت المسار السياسي في تونس منذ عقود عديدة، وفي انفتاح تونس اكثر من أي بلد مغاربي آخر، على المشرق العربي. ولم يكن نادراً ان يستعين مخرجون تونسيون بممثلين من مصر، محمود مرسي ومديح كامل في أفلام رضا الباهي، جميل راتب لدى محمود بن محمود ورشيد فرشيو، وكذلك في انفتاح تونس على الاوساط الاعلامية والسينمائية في فرنسا وغيرها. فإذا أضفنا الى هذا عمق التجربة النضالية السياسية التونسية وارتباطها منذ البداية بالعمل الثقافي، وادارة الدولة لصراع الاجيال، غالباً لصالح الاجيال الجديدة، وللصراع بين الاجناس لصالح المرأة، وانفتاحية المجتمع التونسي المدهشة. اذا اخذنا هذا كله في الاعتبار سوف لن نندهش لأن السينما التونسية حققت "معجزتها الصغيرة" بل لأنها تأخرت في تحقيقها واكتفت بأن تجعلها "صغيرة". التنوع والسير في مناطق الخطر من الناحية التاريخية تعتبر السينما التونسية السينما الأقدم في المغرب العربي، بيد ان السينما الجزائرية، تحت رعاية القطاع العام، عرفت كيف تسبقها في سنوات الستين والسبعين، وكان على السينما التونسية ان تنتظر بعض الوقت، وخاصة تأسيس مهرجان قرطاج السينمائي على يد الطاهر الشريعة قبل ان تنتفض وتبدأ بفرض حضورها. على الرغم من أفلام مثل "العرس" و"شمس الضباع" و"وغدا" لابراهيم باباي، وجهود عمار خليفي ورشيد خرشيو، ظل على السينما التونسية ان تنتظر لحظة تألقها، التي لم تتحقق بشكلها الاكثر تكاملاً، الا مع اواسط سنوات الثمانين، مع أفلام ناصر خمير ونوري بوزيد وفريد بوغدير ومحمود بن محمود والطيب الوحيشي، وصولاً الى منصف ذويب ومفيدة التلاتلي، وربما غدا لكثوم برناز وناديا الغاني وسلمى بكار. من الطبيعي ان من غير الممكن احصاء اسماء كل العاملين في السينما التونسية اليوم، من اصحاب المشاريع التي تحققت او تلك التي لا تزال بحاجة لأن تتحقق. فالسينما التونسية، على الرغم من تباطؤ انتاجها، سينما حقيقية لها اسماؤها وعلاماتها ولحظاتها المضيئة، ولها كذلك خيباتها واحلامها التي لم تتحقق. ولكن لها على وجه الخصوص تنوعها الذي يميزها عن أية سينما عربية اخرى - خارج مصر. والتنوع هو السمة الأساسية من سمات السينما التونسية. ... التنوع والجرأة ايضاً، كما يقول نوري بوزيد الذي يضيف، الحقيقة اننا لولا جرأتنا في طرح المواضيع، لما تمكنا من فرض حضورنا السينمائي. وهذه الجرأة وصلت الى العالم الخارجي قبل وصولها الى العالم الداخلي، فكان ذلك الوصول جواز سفرها الذي مكنها من أن تكون". ونوري بوزيد، الذي يحاول اليوم ان يحقق مشروعه الروائي الطويل الرابع "بنت فاميليا" عن بعض الاوضاع الاجتماعية الشائكة في تونس، كان واحداً من الذين احدثوا ثورة حقيقية في مسار السينما التونسية، حين نهل من تاريخه الذاتي - للمرة الأولى في تونس، وعلى خطى المصري يوسف شاهين - ليرسم حبكة فيلمه الأول "ريح السد" ومصائر شخصياته. كان "ريح السد" الفيلم/ الثورة التي تحتاج اليها السينما التونسية حتى تنطلق. ولعل بإمكاننا ان نقول هنا كيف ان هذا الفيلم عرف كيف يخرق العديد من المحظورات، من محظورات المسألة الجنسية الى العلاقة مع الأب، الى مصير الاقليات في مدننا العربية، وهو خرق لا يزال نوري بوزيد يدفع ثمنه حتى اليوم، دون ان يمنعه ذلك من اعادة الكرة حيث نجده في فيلمه التالي "صفائح من ذهب" يواصل مساءلته لتاريخه الخاص وللخصي الذي تمارسه سلطات القمع على معارضيها. في فيلمه الثالث "بزنس" لم يتمكن نوري بوزيد من الوصول الى النجاح الذي كان حققه في فيلميه الأولين "ربما لأنه خرج فيه عن اسلوب تحري الذات الذي كان اعطاه شهادة نبله في فيلميه الأولين، كما يقول المنتج احمد بهاء الدين عطية، الذي انتج حتى الآن بعض افضل الافلام التونسية". نوري بوزيد، ومن دون ان يعترف صراحة بأن فيلمه "بزنس" حصد الفشل يقول: "اعتقد ان بزنس شكل صدمة حقيقية لمتفرجيه، فهم لئن كانوا في فيلميّ الأولين اكتفوا بأن يتفرجوا على ما اعتبروه رصدي لتاريخي الخاص وربما لتاريخ جيلي، اعتبروا انني في "بزنس" أجابه تاريخهم وأدينه". ويبتسم بوزيد بتهكم وهو يتساءل: "من هنا انتظر بشغف ما الذي سيكون عليه رد فعلهم ازاء فيلمي الجديد الذي اعتقد انه سوف يطال الكثيرين منهم في الصميم". حنين وفكاهة لدى بوغدير نوري بوزيد مخرج مشاكس يحاول ان يؤخر قدر الامكان مجيء اللحظة التي يخشى ان يطاله فيها التدجين الذي يطال ابناء جيله. هذا الخوف لا يشاركه فيه فريد بوغدير الذي ينتمي الى الجيل نفسه، ويعتبر مثله مسؤولاً بدوره عن النهضة التي تعيشها السينما التونسية اليوم، وليس فقط بفضل فيلمه "حلفاوين" الذي يعتبر اكبر نجاح حققته السينما التونسية لدى النقاد ولدى جمهوري الخارج والداخل، بل كذلك بفضل عمله النقدي الذي واصله طوال عقود من الزمن لم يكف خلالها عن التعريف بالسينما التونسية ودفعها الى الأمام. فريد بوغدير منهمك اليوم في تحقيق فيلمه الروائي الطويل الثاني "ذات صيف في حلق الوادي"، وهو، كما يقول بوغدير نفسه "فيلم عن التسامح" أو بالاحرى "عن تونس، وعن العالم العربي عموماً يوم كانت تتعايش فيه الطوائف والأقليات لتصنع مجتمعاً حقيقياً". اذا كان بوغدير صور في "حلفاوين، عصفور السطح" "طفولته" في حي حلفاوين متفرساً في أسس الحياة العائلية واكتشاف طفل للجنس وحزنه لاخراجه من عالم المرأة عبر لغة سينمائية شاعرية وشفافة، فانه في فيلمه الجديد يعود الى صيف العام 1967 ليرسم كيف كانت الحياة في حي حلف الوادي حيث كان يتعايش المسلمون والمسيحيون واليهود، عشية هزيمة حزيران التي قلبت كافة المعادلات و"كانت هزيمة" حضارية واجتماعية بقدر ما كانت هزيمة عسكرية وسياسية لأحلامنا العربية" يقول بوغدير ثم يستدرك "ولكن ارجو الا تعتقدوا بأن فيلمي سيكون سياسياً ايديولوجياً. ابدا رسالته ستأتي من خلال جو الحنين والفكاهة الذي يحمله". في فيلمه الجديد هذا، يقدم لنا فريد بوغدير النجمة الايطالية كلوديا كاردينالي في دورها الشخصي خلال زيارة تقوم بها لمسقط رأسها حلف الوادي في ذلك الصيف الشهير. لا يعرف فريد بوغدير، منذ اليوم، ما اذا كان فيلمه الجديد سيحقق من النجاح ما يوازي نجاح "حلفاوين"، لكنه يعرف، عن يقين، بأن السينما التونسية سائرة في طريقها الى الأمام وبات من العسير عليها ان تتراجع حتى ولو شاءت هي ذلك. هذا الرأي لا تشاركه فيه الناقدة نايلة غربي مسؤولة قسم السينما في صحيفة "لو رينوفو" التي تبدي شكوكها حتى في صحة استخدام تعبير "المعجزة" الحديث عن نهضة السينما التونسية. بالنسبة اليها كان على السينما التونسية ان تكون افضل لو انها استخدمت حقاً كل الامكانات التي اتيحت لها "اعتقد، تقول نائلة غربي، ان ثمة الكثير من المبالغة المقصودة في هذا التضخيم الذي يسبغ على افلام لا تزال بحاجة الى قراءة حقيقية، وتعيش الكثير من ضروب النقص الفادحة" وتعتقد نائلة غربي ان "هذا التضخيم الكاريكاتوري المفبرك من أساسه سيؤدي الى الاساءة الى المبدعين السينمائيين انفسهم، من الذين لم يعد في وسع الواحد منهم ان يتحمل اي نقد يوجه ولو الى مشهد واحد من مشاهد فيلمه". جماليات من جذور عربية ناصر خمير يشارك نايلة غربي هذا الرأي ويقول ان ثمة بوادر انتفاخ حقيقية بدأت تظهر على سطح الحياة السينمائية التونسية فپ"الجوائز وضروب التكريم والاغراق النقدي، كلها امور يكون لها، في النهاية، مفعول ارتدادي سيئ" وناصر خمير يقول هذا قول الخبير، فهو لكثرة ما كتب عن فيلميه الطويلين اللذين حققهما حتى الآن، وهما "الهائمون" و"طوق الحمامة المفقود" لم يعد بإمكانه ان يعثر على الفيلمين في ركام الكتابة والنقد. مهما يكن، من الواضح ان خمير، وخارج اطار موضوعي فيلميه، حقق اثنين من أجمل الأفلام العربية، من الناحية التشكيلية البحتة. فيلمان لا يضاهيهما جمالاً الا فيلم "المومياء" للراحل شادي عبدالسلام. ويسعى خمير اليوم الى تحقيق عمل جديد يفضل له ان يكون مقتبساً من عمل أدبي. في فيلميه الأولين غرف خمير من التراث التشكيلي العربي والاسلامي وغاص في ألعاب التيه والحب وحكايات الف ليلة وطوق الحمامة والجماليات الاسلامية ما طاب له الهوى. اما الآن فيرى انه بات عليه ان يلتفت بعض الشيء الى الموضوع الذي رأى الكثيرون انه ضحى به كثيراً على مذبح الشكل، في الفيلمين الأولين. مهما يكن فإن ناصر خمير لا يفوته ان يقول: "بين أمور اخرى، شئت أن أؤكد في ذينك الفيلمين ان لنا في تراثنا العربي الاندلسي الآسيوي ما من شأنه ان يوفر لنا الاطر اللازمة لخلق جماليات جديدة تغنينا عن، او تتضافر مع، الجماليات التي ورثناها عن الغرب، وفي اعتقادي ان الرسالة قد وصلت". قد لا يكون للطيب الوحيشي وضوح الرؤية النظرية التي يتمتع بها ناصر خمير، ولكنه يشاركه - على الأقل - في ناحيتين: 1 - ارتباطه الوثيق بالتراث العربي الاسلامي كما عبر عن ذلك من خلال اختياره لحكاية مجنون ليلى لتكون عماد فيلمه الثاني "ليلى يا عقلي". 2 - اهتمامه الخالص بالجماليات ولو على حساب المضمون، وهو ما تجلى في بعض اجمل لحظات فيلمه الثاني، ولكن ايضاً في معظم مشاهد فيلمه الأول "ظل الأرض" الذي يعتبر حتى اليوم من اجمل كلاسيكيات السينما المغاربية. في جعبة الطيب الوحيشي اكثر من مشروع، ولكن اياً من مشاريعه لن يقيض له أن يرى النور قريباً، لذلك يكتفي هذا المخرج الشاب بالدوران بين مهرجان وآخر، وبمشاهدة افلام زملائه وتوجيه سهام النقد لها. وهو، في هذا الصدد، يقول "علينا ان نكون صريحين مع بعضنا البعض. فالمجاملة المجانية شيء الى الفن بعد كل شيء". صرخة من اجل المرأة ولكن هل يحب السينمائيون التونسيون الصراحة حقاً؟ حسبك ان تشارك في جلسات مهرجان قرطاج السينمائي، في دورته الأخيرة مثلاً، حتى نلاحظ ان واحداً من الامراض الجديدة التي تطال الحياة السينمائية التونسية، هو مرض المجاملة التي تصل حد النفاق احياناً، لكن هذه المجاملة سرعان ما تنقلب الى هجوم ما أن يبتعد صاحب العلاقة عن الجلسة. "اننا ندخل زمن العالم حقاً، وبسرعة" يقول نوري بوزيد ضاحكاً وهو يعلق على هذه الظاهرة ويضيف "على أي حال، لا بأس باستثراء مثل هذه الظواهر الاجتماعية شرط ان تتماشى مع عمل حقيقي يقوم به الواحد منا حين يخلو الى نفسه ويبتعد عن ضواغط العلاقات الاجتماعية". ونوري بو زيد هو واحد من الذين يعملون وباستمرار. ومن آخر ما حققه حتى الآن مشاركته الأساسية في كتابة سيناريو فيلم مفيدة التلاتلي الأول "صمت القصور" الذي لا يكف عن حصد النجاح إثر النجاح منذ تفجره، لغة وموضوعاً، خلال مهرجان "كان" الأخير، حيث جعل اسم تونس يذكر للمرة الأولى في حفلة الختام. ومفيدة التلاتلي بدورها واحدة من اللواتي يعملن، على حدة وبصمت، وهي بعد عشرين عاماً من العمل في توليف أفلام الآخرين، حققت في "صمت القصور" فيلمها الأول الذي اعتبر واحداً من أفضل الأفلام التي حققتها المخرجات العربيات. فيلم شفاف وميلودرامي، حافل بلحظات الجمال، اضافة الى رمزيته التي يمكنها ان تنعكس على نظرة ما الى التاريخ التونسي الحديث. لا مكان للمشاكسين نجاح "صمت القصور" في كان وفي الخارج بصورة عامة، انعكس في الداخل ايضاً، على الرغم من انه لم يواز، مثلاً، نجاح "حلفاوين". وهو، اي النجاح، من شأنه اليوم ان ينعكس في اقبال متجدد على أفلام تحققها مخرجات تونسيات سلمى بكار، كلثوم برناز، نادية الغاني، وناجية بن مبروك وعلى أفلام تحقق عن قصص ترتبط بالتاريخ التونسي الحديث. وهذا التاريخ الحديث كان افضل المعبرين عنه، على أي حال، المخرج محمود بن محمود، في الفيلم الذي حققه مشاركة مع فاضل الجعايبي: "شيشخان" وهو بدوره واحد من الأفلام - العلامات في تاريخ السينما التونسية، وفيه اكد محمود بن محمود مرة اخرى ما كان تبدى من خلال فيلمه الأول "عبور"، اي كونه واحداً من أفضل تقنيي السينما التونسية، اضافة الى مقدرته الهائلة على ادارة الممثلين جميل راتب في أروع ادواره، وجليلة بكار اكتشاف حقيقي "شيشخان" محمود بن محمود، يحمل الآن في جعبته اكثر من مشروع ابرزها "الافريقية" عن مأساة الاطفال المولودين من آباء مختلطين فرنسيين/ توانسة، اضافة الى مشروع عن فيلم عن حياة "هدى شعراوي" من انتاج حسن دلدول. سينما بوزيد وبوغدير ومحمود بن محمود تحمل الكثير من الطموح، مقابلها نجد سينما ابراهيم باباي التي تشاء لنفسها ان تكون سينما شعبية تسائل التاريخ وقائع السنوات العشر، وسينما رشيد فرشيو المجازية في "كش ملك" عن ديكتاتور مخلوع، وسينما محمد علي العقبي، الشعبية تماماً في "زازدات البلاج" العامر بالحنين، وبين هؤلاء وأولئك تطالعنا حالتان على حدة: حالة الفيتوري بلهيبة في فيلمه المتميز "القلب الشريد" عن الجسد والحب والمحرمات، ثم خاصة حالة منصف ذويب الذي قدم في فيلمه الروائي الطويل الأول "باسلطان المدينة" فيلماً متميزاً عن أسر المدينة لأبنائها واستحالة الخلاص. فيلم أسود ويائس رغم جمالياته، قوي التعبير عرف فيه مخرجه كيف يفرض حضوراً استثنائياً في السينما التونسية، وحضوراً للسينما في تاريخ المدينة. في هذا يبدو ذويب متناقضاً كل التناقض في سينماه، مع سينما رضا الباهي، احد مخضرمي السينما التونسية. ففي حين تبدو سينما ذويب ذاتية عميقة متسائلة وقلقة، تبدو سينما رضا الباهي، ولا سيما في فيلمه الأخير "السنونو لا يموت في القدس"، سينما اليقين الجاهز، والضرب على وتر المنجز السياسي وكليشهات السلام والوئام بين الناس، في عالم لا يبدو فيه مكان للمشاكسين طارحي الأسئلة. وفي هذا السياق يبدو رضا الباهي، احد مؤسسي السينما الكبار، متراجعاً عن اسئلته القديمة وعن ذاتية طبعت افلاماً سابقة له، جعلتها بعض افضل ما عرفه تاريخ السينما التونسية.