لم يتغير شيء في مطار الدوحة الدولي، لولا غياب صورة الأمير السابق الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني التي كانت إلى جانب صورة نجله الأمير الحالي للبلاد من صدر صالون الاستقبال. وغابت أيضاً عن كل الإدارات الرسمية بعد المحاولة الإنقلابية الفاشلة. لم يتغير شيء، والهدوء الذي يلف العاصمة القطرية من أولها إلى آخرها، من المطار إلى فندق شيراتون الدوحة، هو الهدوء نفسه الذي كان قبل التغيير في حزيران يونيو 1995 وبعده، والهدوء نفسه الذي كان قبل المحاولة الفاشلة لإعادة الأمير السابق إلى ديوانه، في شباط فبراير الماضي وبعدها. ليس من النوع الذي يسبق العاصفة أو ينذر بها، بل يماثل ما بعدها ولا يشبهه سوى الهدوء الذي يلف أروقة فندق انتركونتيننتال في أبو ظبي حيث يقيم الشيخ خليفة بن حمد وبعض حاشيته وأفراد عائلته... لولا هذه الجلبة لسودانيين كانوا يتوافدون إلى إحدى أكبر قاعات الفندق بالعشرات لإلقاء التحية على شيخ وافد من بلادهم إلى دولة الإمارات، وسط تواشيح دينية ترافقها قرعات دف وطبل. وعندما سألت واحداً منهم من يكون الرجل، قال: "إنه رجل دين ذو بصيرة جئنا نتبرك به". كانوا جيشاً من الرجال يرفلون بجلابيبهم الوطنية البيضاء، تكاد تخالهم من رجال الشيخ خليفة بن حمد لولا عماماتهم البيض. بعيداً عنهم في بهو الفندق كان حراس إماراتيون يقفون أمام مدخل الرواق المؤدي إلى جناح الشيخ خليفة. "لا ينقطع عن زيارته محبوه ومناصروه وأهل بيته من الدوحة. يأتون للسلام عليه ويعودون ولا حرج في ذلك"، قال واحد من أفراد عائلته في الفندق، والعبارة نفسها قالها لي واحد آخر من أهله في الدوحة، مضيفاً أن الإتصالات لم تنقطع بين بعض المقيمين في الديوان الأميري في قطر وبعض المقيمين في الفندق الإماراتي، بل ازدادت إثر المحاولة الفاشلة. وساطة وشروط عندما سألت واحداً من المقيمين في فندق انتركونتيننتال إلى متى تبقون هنا، أجاب: "حتى تتوافر لنا العودة إلى بلدنا". وماذا يؤخرها؟ أليست هناك وساطات؟ قال: "بلى، لكن العقبة في شروط من هنا وشروط من هناك". وطرحت السؤال نفسه على مسؤول إماراتي، فأجاب: "إن المجموعة المحيطة بالشيخ خليفة لا تعارض تسوية الأمر مع الدوحة، لكن بعضهم يعقد الوضع. إن الأمير السابق بدأت ثورة غضبه تهدأ، ويبدو الآن أكثر واقعية، كأنه على استعداد لتقبل الأمر الواقع... لكنه مصمم على عودة مشروطة بإزاحة بعض الرموز في الدوحة، وإلا استمر في إقلاق راحة الحكم هناك وهو قادر على ذلك". وأشار المسؤول الإماراتي عن ملفات خليجية عدة إلى "أن دولاً في المنطقة تتحرك من أجل إيجاد تسوية تقضي بعودة الشيخ خليفة إلى قطر أميراً أباً من دون أن يحكم، وحتى الآن لم يرفض الفكرة ويمكن اقناعه بها إذا وافقت الدوحة على إعادة النظر في بعض الوجوه الحكومية في الوزارة". وأكد قريبون من الأمير السابق أنهم "على استعداد لإقناعه إذا تحقق لهم إبعاد متشددين في الدوحة، وأنهم على استعداد لإبعاد متصلبين عن صفوف الشيخ خليفة أيضاً". وأكد مرجع حكومي قطري كبير ل "الوسط" أن الدوحة رحبت وترحب بعودة الشيخ خليفة إلى أهل بيته معززاً مكرماً ولكن لا عودة إلى الوضع السابق للتغيير. وبدا من كلامه أن ليس هناك استعداد للبحث في أية شروط. ولم يستبعد عودته وتسوية الأمر في النهاية "ولكن ليس في الأمد القريب، فالمسألة تتطلب وقتاً، ولا مجال لتكرار محاولة العودة بالقوة كما حدث قبل شهرين ونيف، ولا قدرة له على ذلك". وسجل المرجع القطري عتباً على دولة الإمارات ودول عربية اخرى، معتبراً أن الترحيب الذي لقيه الشيخ خليفة في جولاته على هذه الدول قبل المحاولة الفاشلة شجعه على التفكير في العودة بالقوة. وأوضح أن حكومة الدوحة "كانت على علم تام بالمخطط قبل محاولة تنفيذه بشهرين وأكثر، حتى أنها لم تتوانَ عن الإتصال بالأمير السابق يوم كان في جنوبفرنسا ناصحة إياه بالعدول عن الفكرة لئلا يتفاقم الوضع، ومنبهة إلى استعدادها لمواجهة أي محاولة، لكن ذلك لم يلقَ أذناً صاغية فحصل ما حصل". وترد أبو ظبي أنها كانت في موقف حرج، وأنها ستواجه لوماً من الدوحة وعتباً إذا استقبلت الشيخ خليفة بن حمد، لكن رئيس دولة الامارات الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان لم يستطع رد طلب صديقه ورفيق دربه الأمير السابق لقطر، علماً أنه أرسل مبعوثين إلى الشيخ حمد بن خليفة ليقطع الطريق على أي فتور في العلاقات بين البلدين، وأبلغه المبعوثان أن الشيخ زايد "لا يمكن أن يتنكر لتقاليده وصداقاته وأن الأمر لا يتعلق بأي مخطط سياسي". في حين تعرف قطر جيداً أن الدول الأخرى التي تعاطفت مع الأمير السابق كانت دوافعها مواقف سياسية نابعة من عدم رضاها على بعض السياسات الخارجية للدوحة. مخطط فاشل وعندما طلبت "الوسط" تفاصيل عن المحاولة الإنقلابية، ردّ المرجع مصححاً: "لم تكن محاولة إنقلاب إذ يفترض من التسمية أن تكون وحدات عسكرية من الجيش أو الشرطة أو الحرس الأميري شاركت في المخطط، وهذا ما لم يحصل. وجل ما جنده المخططون فخذ صغير من إحدى القبائل. وكنا ننتظر من أسابيع وأيام دخول المنفذين وعلى رأسهم الشيخ حمد بن جاسم بن حمد لاعتقالهم لكنهم لم يجرأوا على دخول البلد". ولم ينفِ وجود عدد من المعتقلين والمطلوبين الفارين، لكنه سخر مما كتبته صحيفة عربية عن انتهاك حقوق الإنسان في الدوحة عندما تحدثت عن اعتقال معارضين ونهب بيوتهم وتعذيبهم في السجون، وقال: "العالم كله يعرف هذا الملف الضخم من انتهاك حقوق الإنسان في بلد يحاول النيل منا"! ورأى "أن من إيجابيات المحاولة الفاشلة أنها كشفت لنا أصحاب النفوس الضعيفة الذين يمكن شراؤهم وتجنيدهم ضد مصالح قطر وأمنها واستقرارها". واعترف مسؤول قطري بأن الشيخ خليفة يلقى تعاطفاً في الشارع القطري "ولكن ليس إلى الحد الذي يصوره بعضهم ويتيح له العودة". وأكد "أن مصلحة البلاد كانت تقتضي التغيير الذي حصل قبل أقل من سنة، ذلك أن خطط التنمية والاستثمار في حقل الغاز شمالاً كانت تسير ببطء وتواجه تعقيدات في حين أن مشاريع ضخمة من هذا النوع تستدعي نمطاً مختلفاً واسلوباً أكثر حيوية لإطلاق عجلة العمل. العالم يغير والمطلوب نظرة جديدة وأساليب جديدة وشباب يجارون العصر. علماً أن الشيخ حمد كان لسنتين وأكثر قبل إزاحة والده هو الحاكم الفعلي للبلاد وكان لا بد من إنهاء هذه الإزدواجية لإطلاق عجلة الدولة ومؤسساتها بحرية". واستغرب الموقف الخليجي من التغيير، وذكر بأن "معظم دول الخليج شهد التجربة نفسها في تاريخه الحديث، لئلا نتحدث عن التاريخ القديم". قضية مواقف؟ ويدرك القطريون أنهم تحولوا شغلاً إضافياً إلى مشاغل أشقائهم وشركائهم في مجلس التعاون الخليجي الذين لا يكفيهم هم العراقوإيران وضغوط التسوية ورياح التغيير والتطرف. ولا يخفى على الزائر المتجول في الدوحة أن يلمس أن القطريين العاديين أنفسهم لا يشعرون بالاستقرار، الاستقرار الذي لا علاقة له بالأمن بل بالمستقبل وأسئلته الكثيرة. يدركون أنهم في مرحلة انتقالية أو منعطف مغاير لكل ما تعودوه في سنواتهم الماضية، كأنهم يحاولون التفلت من الحقبة الماضية وليسوا واثقين من الآتي. وهي حالة يعيشها كل أهل المنطقة ولكن بحدة أقل وأسئلة أخف وطأة، فلا انقلاب في السياسات وخروج على المألوف المعتاد في شبه الجزيرة كلها، وهم يشاركون القطريين مخاوفهم من كسر الإجماع الخليجي. بل القطريون أنفسهم لا يجمعون على ما تشهده بلادهم. وعندما استوضحت مرجعاً قطرياً كبيراً عن أسباب اضطراب خيوط الاتصال وتنافرها بين الدوحة وجيرانها، هل هي المشاكل الحدودية أم خروج قطر على الإجماع الخليجي في السياسة الخارجية لأهل المنطقة؟ أجاب: "المسألة تتعدى قضايا الحدود. إنها مسألة مواقف سياسية. نحن نملك الشجاعة الكافية لاتخاذ ما نراه يخدم مصلحة بلدنا، ومواقفنا علنية". وسألته لماذا هذا الإندفاع في اتجاه إقامة علاقات مع إسرائيل، بعد الإندفاع نحو إيران، من دون مراعاة حساسية أوضاع الجيران، ومن دون مراعاة الجو القطري الداخلي الرافض التطبيع الحالي؟ أليس من المصلحة الاستراتيجية لقطر أن تكون في جبهة خليجية واحدة؟ هل تتعرضون مثلاً لضغوط أميركية من أجل التطبيع مع الدولة العبرية؟ أجاب: "يجب التمييز بين إيران وإسرائيل. إن علاقاتنا تاريخية مع الأولى ولم تشبها أية مشاكل منذ أيام الشاه وحتى الثورة الإسلامية، وهي جار لا يمكن تجاهله، ونحن رفضنا الانجرار إلى سياسة الولاياتالمتحدة لاحتوائها. ماذا يحل بنا غداً إذا أعادت واشنطن علاقاتها مع هذه الدولة الاقليمية الكبيرة؟ نسير خلفها خجلين؟ أما التطبيع مع إسرائيل فقصة أخرى يعرفها الجميع. كلهم سيطبعون عاجلاً أم آجلاً ما دامت أميركا ترعى هذا التطبيع وتضغط في اتجاهه...". وقاطعته: لماذا لا تقاوم قطر هنا الضغط الأميركي ما دامت لها قدرة رفض مماشاة واشنطن في سياسة احتواء إيران؟ ولماذا لا تلتزم سياسة بعض جيرانها المتحفظة والمشترطة استكمال التسوية؟ أجاب: "نحن دولة صغيرة ليس فيها ما يشكل مصالح كبيرة للولايات المتحدة كما هي حال دول أخرى في المنطقة تستطيع أن تتباطأ في مسيرة التطبيع". وما لم يقله المرجع القطري تسمعه من أوساط في الدوحة على نحو صريح، وخلاصته "أن التطبيع باب إلى علاقات متينة مع أميركا، الدولة العظمى"... وإن لم يجد هذا المنحى تأييداً في الأوساط الشعبية القطرية التي يعارض معظمها التطبيع، حتى أن قطرياً صاح ببيريز عندما خرج من الفندق إلى أحد الشوارع أثناء زيارته للدوحة: "عد إلى بلادك". للشارع رأي آخر وكانت جريدة "الوطن" القطرية الحديثة الظهور يرأس مجلس إدارتها وزير الدولة في الديوان الأميري الشيخ حمد بن سحيم آل ثاني ويساهم فيها وزير الخارجية الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني نشرت نتيجة استطلاع عشية زيارة بيريز وشمل عينة عشوائية من 600 مواطن قطري، فأيد 31 في المئة التطبيع وعارض 69 في المئة. وسألت المرجع القطري الكبير: لماذا لم تراعِ حكومته هذا الموقف الشعبي خصوصاً أنها سمحت لوسائل إعلامها بقول كلام فيه الكثير من الحرية، كلام كان يعتبر سابقاً من المحرمات، أجاب: "كل شيء مسموح به بلا رقابة. والحقيقة أن كل الشعوب العربية تقف ضد التطبيع، لكن الأنظمة تفاوض وتطبع، المسألة يلزمها وقت. لكن ما أعجب له هذه الحملة علينا من بعض الأشقاء الذين نشاهدهم كيف يرتمون في أحضان مصر مثلاً، وهي أول من وقع اتفاق سلام مع إسرائيل! لماذا يهاجموننا ولم نبخل بشيء أيام الصراع والمواجهة. هل لأننا نعاني ضائقة اقتصادية ولا نملك ما نقدمه إليهم!" واسترسل في صراحة متناهية: "داخل مجلس الوزراء يجري نقاش حر وتتعارض وجهات النظر. لا خلاف في المجلس على موقفنا من إيران أو العراق مثلاً، في حين هناك وجهات نظر متعارضة حيال التطبيع مع إسرائيل. ونحن في النهاية نغلب مصلحتنا الوطنية". وتظل قضية التطبيع في قطر مثار جدل في كل الأوساط، وزادها حدة العدوان الإسرائيلي الواسع على لبنان. وتمتلئ الصحف المحلية بتعليقات وأخبار تنم عن معارضة شديدة للتطبيع، على رغم أن الحكومة أصدرت بياناً يندد بالعدوان على لبنان ويطالب بوقفه. وكتب السيد ناصر العثمان، المشرف العام على تحرير جريدة "الشرق" افتتاحية قاسية تحت عنوان "عدوان إسرائيل والواقع المؤلم" ومما قال: "... لسنا هنا في مجال الولولة والنحيب والشجب والاستنكار، وانما نحن أمام واقع ملموس يستوجب على العرب ان يتحرك الدم في عروقهم بعد أن جمدوه في ثلاجة الهوان والتبعية والانقياد وراء السلام العاجز ووراء الخلافات والتناحر في ما بين بعضهم البعض ان المطلوب من العرب - إن كانت هناك حياة لمن ننادي - أن يوقفوا كل خطوة من خطوات السلام والتطبيع مع اسرائيل، وكفانا تهديدات من اسرائيل بوقف هذه العملية، وكفانا لهاثاً خلف سراب وهرولة كهرولة المفجوع المستميت على أمر ليس له من ورائه سوى الضرر...". وكتب في الصفحة الأخيرة في باب "سريع" عنوانه "مسمار": "آخر زمن... إسرائيل تريد أن تعلمنا... صيد السمك...؟!" سياسة خليجية واحدة؟ وكذلك يظل الحديث عن سياسة خليجية موحدة اسطوانة لا تتوقف. وقال مصدر ديبلوماسي قطري ل "الوسط" دفاعاً عن سياسة بلاده في هذا المجال: "من مصلحة دول مجلس التعاون ألا تكون هناك سياسة خارجية موحدة. ولسنا وحدنا في التطبيع. انظر إلى سلطنة عمان أيضاً. نحن نستطيع أن نفتح أبواباً يفيد منها أشقاؤنا عندما يحتاجون إلى ذلك، فضلاً عن أننا نخفف عنهم ضغوط المستعجلين التطبيع، إذ تستطيع أميركا الإعلان أن ثمة دولاً خليجية تطبع، مما يسهل لها ولحكومة بيريز دفع الاسرائيليين إلى استكمال التسوية على المسارين السوري واللبناني. لا أعتقد بأن جيراننا منزعجون من سياستنا في هذا المجال". لكن مصدراً حكومياً آخر يبدي تحفظاً عن سياسة التطبيع، يرد ويقدم وجهة نظر أخرى منطلقاً من اقتناعه بعدم جدوى الاستعجال لإقامة علاقات مع إسرائيل، أياً كان نوع هذه العلاقات ومستواها. ويميز بين سياسة مسقط وسياسة الدوحة. فالسلطنة، في رأيه، لم تخرج على نهجها القديم منذ وقفت إلى جانب مصر إثر توقيعها اتفاق كمب ديفيد. في حين أن قطر احتضنت قيادات فلسطينية تاريخية منذ نشوء المقاومة وقدمت إليهم وإلى القضية كل الدعم، لذلك لا يمكن أن تدير ظهرها لهذا التاريخ بين ليلة وضحاها. وكذلك ليس من الحكمة أن تشكل سياستها حيال إسرائيل وغيرها أداة إزعاج لجيرانها وضغط عليهم. وإذا كانت الدول الكبرى تسعى وراء مصالحها في المنطقة فإن خيارها الطبيعي والوحيد هو إقامة علاقات مع دول إقليمية أهم وأعظم شأناً من قطر، الدولة الصغيرة. وتساءل: "ماذا يحدث لنا مثلاً إذا أبدى جيراننا ذوو الثقل السياسي والاقتصادي بعض الليونة والمسايرة للسياسة الأميركية في موضوع التسوية الشرق الأوسطية أو حتى بعض التشدد؟ شيء من هذا - إذا حدث - يطيح كل ما نبني عليه سياستنا. أتظن أننا أهم من دول إقليمية كبيرة بالنسبة إلى الولاياتالمتحدة وغيرها من الدول الكبرى، أم أننا نستطيع أن نحل محل المملكة العربية السعودية وموقعها وأن نمثل ثقلها؟ هذا هراء! لذلك من مصلحتنا ألا نستثير شركاءنا في مجلس التعاون وألا نجرهم إلى استعدائنا". ولم يستبعد احتمال إعادة حكومته النظر في سياستها الخارجية في ميادين عدة، معولاً على تنشيط الاتصالات بينها وبين جيرانها بعد "تطبيع" علاقاتها مع مجلس التعاون، وبث الحرارة في علاقاتها مع المملكة. وتذهب أوساط خليجية في تفسير تراجع الدوحة عن رفضها اختيار جميل الحجيلان أميناً عاماً لمجلس التعاون، وإندفاعها إلى تسوية خلافاتها الحدودية مع الرياض، مذاهب شتى. بعضها يعتقد بأن هذا التحول القطري في هاتين المسألتين لا يعدو كونه محاولة لإقامة توازن في السياسة الخارجية ولامتصاص الاستياء الداخلي والمجاور الذي خلفته زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي للدوحة الشهر الماضي... وربما أيضاً لإغاظة بعض العرب الذين لا يزالون يقدمون الدعم إلى الأمير السابق ويزينون له إمكان العودة إلى ديوان الحكم! وبعيداً عن صواب هذه التفسيرات أو عدم صوابها، فإن ما يقوله كبار المسؤولين في الدوحة يختلف تماماً. هو إجماع لا يختلف عليه إثنان. كلام يقال صريحاً بلا مواربة أو ديبلوماسية متحفظة لخصه ديبلوماسي معني بقوله: "نحن نؤمن بأننا لا يمكن أن نقفز فوق التاريخ والجغرافيا، ولا نستطيع ذلك إذا أردنا. ما يربطنا بأشقائنا وشركائنا حقائق وثوابت لا يمكن إلغاؤها وتجاهلها. بل هناك خطوط حمر نعرفها جيداً ولا يمكننا تجاوزها. قيل إن إيران عرضت علينا إرسال 30 ألف جندي لمواجهة محاولة الإنقلاب الأخيرة وحمايتنا من أي محاولة مماثلة في المستقبل، هل يظن عاقل أننا يمكن أن نقبل بذلك؟ هذا خط أحمر لا يمكننا تجاوزه بل لا يمكن أن نفكر في تجاوزه يوماً". وكشف أن وراء تغيير قطر سياستها حيال الأمانة العامة لمجلس التعاون ومسألة الحدود مع المملكة العربية السعودية علاقات ود وصداقة وثقة متبادلة بين الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني وإحدى الشخصيات السعودية القريبة من مراكز القرار في الرياض. ورفض رد هذا التغيير إلى رغبة الدوحة في إقامة توازن بين سياساتها الخارجية حيال أطراف متناقضة متصارعة. واسترسل في الشرح: "نحن مع تنوع سياسات دول مجلس التعاون في المجال الخارجي، تماماً مثلما هي حال دول الإتحاد الأوروبي، ولكن في القضايا الكبيرة والمصيرية لا يمكن أن نخرج على الإجماع الخليجي". وعندما سألته: أليس التطبيع مع إسرائيل قبل استكمال التسوية مسألة مصيرية تستدعي موقفاً خليجياً موحداً على الأقل إذا كان الموقف العربي الواحد متعذراً، أجاب: "إن ما نقوم به في هذا المجال لا يزعج أشقاءنا بقدر ما يخفف عنهم الضغط، علماً أن التطبيع جارٍ بأشكال عدة وعلى مراحل والجميع سينتهون إليه أياً كانت الوسائل ونحن لنا الجرأة في اتخاذ مواقف علنية!" مجلس التعاون والمملكة والحديث عن مجلس التعاون في الدوحة مثل الحديث عنه في أي عاصمة خليجية، وليس أسهل من أن يقول أي مسؤول: "اخرج إلى الشارع واسأل أي مواطن خليجي عن المجلس وماذا قدم. لم يقدم شيئاً. حاله مثل حال الجامعة". وقال المرجع القطري الكبير بأسف: "لو كانت هناك إرادة خليجية واحدة، ولا أقول عربية واحدة، لما كان العالم العربي وصل إلى هذا المستوى من التفكك والضعف، وهذا المستوى من الانفصام بين الشارع والنظام العربي، ولما كانت كل دولة عربية تبحث عن مصلحتها الشخصية وتحاول أن تستلحق لها دوراً ومقعداً هنا وهناك ولو كان ذلك على حساب المصلحة العربية العامة أو مصلحة هذه الدولة وتلك. نحن أمة مهزومة وكل واحد يحاول الخلاص برأسه". وبعيداً عن التحليلات السياسية وتعقيداتها، لا يخفى على المتجول في الدوحة هذا الارتياح الشعبي إلى توجه السعودية وقطر إلى حل المشكلة الحدودية بينهما. إذ أكثر ما يقلق المواطن القطري الحديث عن فتور بين بلاده والمملكة فكيف إذا شاب العلاقات بينهما سوء تفاهم وتوتر. بل يشعر الزائر بأن هذا المواطن مهتم، مثله مثل أي مسؤول قطري وخليجي بالوضع في المملكة، لإيمانه بأن مصير المنطقة برمتها مرتبط بمصير المملكة ارتباطاً محكماً لا يد له فيه. ولا يتوانى المسؤولون القطريون عن التعبير عن تفاؤلهم بحل مشكلة الحدود مع الجارة الكبرى، ويذهب بعضهم إلى القول إن المسألة قطعت شوطاً كبيراً على طريق الحل. وحرص المرجع القطري الكبير على التأكيد أن "المملكة شقيقة كبرى، وعلاقاتنا معها تختلف عن علاقات أشقائنا الآخرين بها فثمة أشياء نشترك فيها معها دون الآخرين". وتوقع أن تعود العلاقات بين البلدين إلى سابق عهدها من الحرارة والتنسيق والتفاهم.