سيطر القلق في 13 تشرين الثاني نوفمبر الماضي عندما تم تفجير مبنى البعثة الأميركية لتطوير الحرس الوطني السعودي في حي العليا في جوار مكاتب "الوسط" وذهب ضحيته سبعة أشخاص وجرح كثيرون. وظل الحادث الأخير يشغل الناس ويطرح اسئلة كلما تطرق الحديث اليه إذ لم يكن هناك من يعرف شيئاً عن نتائج التحقيقات الواسعة التي أجرتها السلطات الأمنية السعودية طوال خمسة أشهر سوى هذه السلطات ذاتها التي اختارت أول يوم من أيام عطلة عيد الأضى المبارك لاذاعة خبر اعتقال الجناة واعترافات منفذي التفجير على شاشات التلفزيون ليتنفس السعوديين والمقيمون في المملكة الصعداء بعدما أعلن الأمير نايف بن عبدالعزيز وزير الداخلية السعودي عن القاء القبض على الجناة الأربعة اعتماداً "على خبرات رجال المباحث العامة وكفاءتهم من دون أي عون من الداخل أو الخارج". وعلى رغم أن السلطات السعودية تكون بذلك قد أغلقت ملف الحادث إلا أن هناك من يتوقع في الرياض ان يؤدي ذلك الى فتح ملف "الأفغان السعوديين" وهم الشبان السعوديون الذين شاركوا في منتصف الثمانينات مع جنسيات اسلامية كثيرة في الجهاد الافغاني ضد الاحتلال الروسي. وعاد معظم هؤلاء الشباب الى بلادهم بعد انتهاء الجهاد واغلاق المعسكرات التي تدربوا فيها لينخرطوا مجدداً في الحياة المدنية، فيما بقي بعضهم في افغانستان مقحماً نفسه في أتون الحرب الأهلية المستعرة هناك بسبب الصراع على السلطة، وهي حقيقة صدمت الكثيرين من الشبان في ما كانوا يعتقدونه جهاداً شرعياً، وانطلق بعضهم ينشد "الشهادة والجنة" في ساحات جهادية أخرى، كالبوسنة والشيشان. لكن ما علاقة هؤلاء بالارهاب؟ يقول مصدر مطلع أن مجموعة قليلة من هؤلاء الشباب، ومنهم منفذو حادث العليا، وهم السعوديون عبدالعزيز فهد المعثم ورياض سليمان الهاجري ومصلح عائض الشمراني وخالد أحمد السعيد، تأثروا بأفكار متطرفة مصدرها نشرات المعارضين السعوديين محمد المسعري وأسامة بن لادن ومؤلفات أبو محمد المقدسي. وهذا التأثر يلفت النظر الى أهمية المستوى الثقافي والمرحلة العمرية للمتهمين الأربعة الذين تتراوح أعمارهم بين 24 و28 عاماً، ما يعني أنهم عندما ذهبوا الى افغانستان ربما كانت أعمارهم تتراوح بين 15 و20 سنة، وهي مرحلة مراهقة وتكوين فكري كثيراً ما تستغلها الجماعات المتطرفة التي تتدثر في عباءة الدين لتحقيق أهدافها والوصول الى السلطة عن طريق العنف. ففي هذه السن عاش هؤلاء الشباب سنوات عدة في المعسكرات الافغانية في منتصف الثمانينات في أجواء مشبعة بالقتال والعنف والجهاد وتدربوا على الأسلحة الخفيفة والثقيلة الى جانب الخبرات العملياتية المتنوعة اضافة الى تلقيهم جرعات مكثفة من الأفكار المشوشة التي تركز على استخدام القوة والعنف للتعبير عن الآراء وإحداث التغيير المطلوب وهو أحد الاستراتيجيات التي تستند اليها فلسفة الجماعات الاسلامية المتطرفة. ويقول عالم نفس ل "الوسط" ان هؤلاء الشباب عندما أقدموا على تنفيذ عملية التفجير لم يكن يراودهم أدنى شك في أنهم مجرمون أو أن ما يفعلونه يعتبر عملاً غير أخلاقي بسبب عملية غسيل الدماغ التي تعرضوا لها في هذه السن المبكرة في معسكرات التدريب الأفغانية وسط أجواء الحرب، وهذا حال الكثيرين من "الأفغان العرب" وغيرهم من ضحايا الأفكار المتطرفة لجماعة التكفير والهجرة. لقد تعددت التفسيرات بعد انفجار الرياض وسرت اشاعات عن هروب الجناة الى الخارج واحتمال تورط جهات استخباراتية معادية للسعودية في العملية وغير ذلك إلا أنه "قلما تكون هناك قضية مقيدة ضد مجهول في السعودية" كما ذكر الأمير نايف بن عبدالعزيز قبل يومين فقط من اعلان القبض على الجناة، حيث قال أيضاً: "لا بد أن يوجد في كل مجتمع بشر لهم أفكار أو تصورات معينة، لكن هذا شيء يخصهم أما ان يمارسوها على أرض الواقع فنحن نقول لا ثم لا". وتكشف اعترافات الجناة مدى خطورة تغلغل الأفكار المتطرفة في أعماق هؤلاء الشباب ما جعل الكثيرين من العلماء يطالبون بضرورة مواجهتها بالطرح الفكري السليم الى جانب المواجهة الأمنية حفاظاً على الأرواح والممتلكات. تحذير الشيخ بن باز وسألت "الوسط" الشيخ عبدالعزيز بن باز مفتي عام السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء عن طريقة حماية المجتمع من الأفكار المشوشة التي ينادي بها أمثال هؤلاء المتطرفين فقال: "يجب محاربتها بالدعوة الصحيحة الى الله وبيان الحق للمسلمين وارشادهم الى أسباب النجاة وتحذيرهم من التطرف". وأضاف الشيخ بن باز في حديث هاتفي من مقر اقامته في مكةالمكرمة انه "يجب على الدولة القيام بكل ما يمنع هذه الأمور وعليها أن تحارب كل الأفكار المتطرفة التي تدعو الى الشر والفتنة". ويقول عبدالله المعثم شقيق الجاني عبدالعزيز ان أخيه ترك دراسته الثانوية للتفرغ للعلوم الدينية ومجالسة الاسلاميين من الشباب في حلقات التلاوة والدرس التي يقيمونها يومياً في المسجد حتى تغيرت أفكاره وأصبح متشدداً في أمور الدين والدنيا وعزل نفسه عن الأهل والأصدقاء ورفض الالتحاق بأي وظيفة حكومية لأن ذلك يتطلب استخراج صور شخصية له وهذا كان في رأيه "حرام"، ويضيف ان شقيقه المعتقل آثر "التجارة في التمر والعسل والملابس". وذكر المتهم خالد السعيد انه استخدم خبرته في تركيب المتفجرات التي تدرب عليها في افغانستان لتفخيخ سيارة الميتسوبيشي - بيك آب بمتفجرات من مادة تي إن تي أحضرها من اليمن، كما قام بتجهيز ساعة التوقيت لضبط لحظة التفجير بعدما تمكن مع شريكه رياض الهاجري من ادخال السيارة الى مواقف السيارات التابعة لمبنى البعثة الأميركية في شارع الثلاثين في حي العليا. الحدود اليمنية وتعيد الطريقة التي اتبعها الجناة في ادخال الأسلحة الى السعودية الى الأذهان ملف عمليات التهريب على الحدود بين السعودية واليمن حيث توفر المناطق الجبلية الوعرة والممتدة من ساحل البحر الأحمر الى صحراء الأحقاف قرب مدينة نجران السعودية منافذ كثيرة لتهريب الأشخاص والبضائع وأحياناً الأسلحة، كما حدث مع الجناة الأربعة ما يدفع الى ضرورة ان تفرض السلطات اليمنية اجراءات تنظيمية ورقابية أكثر على الاتجار غير المشروع بالسلاح داخل أراضيها. ويقول خبير أمني خليجي: "إذا كان اقتناء الرجل بندقية أو مسدساً هو أمر مفهوم ومبرر اجتماعياً حسب التقاليد اليمنية، فليس من المعقول أن تزخر أسواق اليمن بأنواع الأسلحة المختلفة خصوصاً المتفجرات نظراً الى الانعكاسات الخطيرة على الأمن اليمني نفسه، وأكبر دليل على ذلك احداث منطقة رصد التي جرت فيها اشتباكات بين أبناء القبائل استخدمت فيها الأسلحة الثقيلة وكذلك تفجيرات عدن في العام الماضي وغيرها. ويعترف المتهم عبدالعزيز المعثم بأنه سافر مع شريكه مصلح الشمراني قبل موعد التفجير بحوالي شهر الى مدينة نجران حيث تسللا بمساعدة أحد اليمنيين الى سوق السلاح داخل الأراضي اليمنية واشتريا متفجرات من نوع تي. إن. تي. وأربعة رشاشات كلاشينكوف وخمسة مسدسات روسية مع كل منها 70 طلقة وأدخلا هذه الأسلحة عن طريق التسلل والتهريب الى السعودية. واتصلت "الوسط" هاتفياً من الرياض بالسيد محمد الهبوب رئيس مصلحة الجمارك اليمنية في صنعاء لتسأله عن جهود بلاده لمكافحة التهريب على الحدود مع السعودية فقال ان "المنطقة الحدودية بين البلدين طويلة وواسعة ونحن نسعى جاهدين لضبط عمليات التهريب عبرها ولا بد من التنسيق والتعاون مع الجانب السعودي لتحديد المنافذ التي يتسلل من خلالها المهربون واغلاقها وضبطها". ونفى الهبوب أن تكون أجهزة الجمارك في بلاده احبطت في الماضي القريب أي عملية لتهريب السلاح الى السعودية، ولفت الى استحالة ضبط منافذ التهريب على الحدود ما لم يكن هناك تعاون وتنسيق أمني وجمركي بين البلدين، وقال: انه "رغم وجود مشروع للتعاون الاقتصادي وقّعه وزيرا المالية في البلدين في العام الماضي يندرج تحته التنسيق الجمركي، إلا أنه لم يحدث حتى الآن أي لقاء بيننا كسلطات جمارك يمنية وسعودية". وأضاف: "نحن في انتظار أن تنبثق عن تلك اللجنة الوزارية لجان مصغرة منها لجنة جمركية لما في ذلك من فوائد عظيمة للبلدين". وأكد رئيس مصلحة الجمارك اليمنية على وجود أسواق يمنية لبيع السلع المهربة بمختلف أنواعها، غير أنه أضاف قائلاً: "ليس لدي علم إذا كانت تباع فيها أسلحة أم لا وان كنت لا استطيع أن أنفي وجود مثل هذا الأمر إلا أنني لا استطيع في الوقت نفسه أن اؤكد وجوده". وعن الجهود التي بذلها اليمن لمحاربة الأسواق غير المشروعة لبيع السلاح قال الهبوب: "ليست لدينا أسواق للسلاح بالطريقة الخيالية التي يتصورها بعضهم فنحن دولة لها قوانينها وأنظمتها الأمنية الصارمة وإذا كان هناك من يتاجرون بالسلاح فإن ذلك حتماً يتم بطرق خفية وفي مناطق سرية بعيدة عن أعين السلطات الرسمية". ولدى سؤاله عن المصادر التي يحصل منها التجار اليمنيون على الأسلحة أشار الهبوب الى أن كثيراً من دول القرن الافريقي التي تعيش أوضاعاً أمنية مضطربة ويتكدس فيها السلاح، تقع بمحاذاة السواحل اليمنية والسعودية كالصومال مثلاً. وقال: "ربما يكون هذا البلد أحد أهم مصادر الأسلحة التي تدخل الى بلادنا". وتكشف اعترافات الجناة عن المكان الذي اختاروه لاخفاء المتفجرات الى حين تنفيذ مخططهم مدى حيطتهم وحذرهم، حيث ذكروا أنهم أحضروا المتفجرات داخل حوض سيارة وأخفوه داخل حوش مملوك لأحدهم وهو الشمراني. ومن يعرف هذه المنطقة التي تقع غرب الرياض يدرك مغزى اختيار الجناة لها مكاناً لاخفاء أدوات الجريمة وعقد الاجتماعات للتخطيط للحادث، فهي منطقة شبه مهجورة يتخذها سكان الرياض من محبي الهواء والرمال منتجعاً لهم حيث تنتشر فيها الاستراحات التي يقصدها المواطنون عادة في عطلات نهاية الاسبوع هرباً من ضجيج المدينة وزحامها. ولوحظ أن التلفزيون السعودي كرر اذاعة التفاصيل الكاملة لعملية التفجير في اعترافات على لسان منفذيه الأربعة الذين استخدموا الخرائط والرسومات التوضيحية ما أزال من أذهان المتابعين للحادث الغموض، وهي بادرة جيدة يقول المسؤولون انها تسجل لمصلحة الاعلام السعودي. ولعل السعوديين الذين تابعوا الاعترافات لحظة بلحظة فوجئوا بكون جميع الجناة من أبناء البلد الأمر الذي أحدث لهم "صدمة" عنيفة، ليس لأن السعوديين يشككون دائماً في غيرهم بل لأن هذا السلوك كما يقول أحد الكتاب السعوديين "غريب على طباعنا ولا يشبه سلوكنا". واللافت ان بيان وزير الداخلية السعودي الذي حرص على توجيه الشكر والتقدير لرجال المباحث العامة ومديرهم الفريق أول صالح طه خصيفان على "الانجاز الذي حققوه" نفى وجود علاقة حتى الآن بين التفجير وعملية تهريب المتفجرات التي ضبطتها سلطات الجمارك السعودية في مركز الحديثة على الحدود مع الأردن نهاية الشهر الماضي، كما لوحظ أيضاً ان اسم الشاب السعودي حسن السريحي الملقب بأبو عبدالرحمن والذي اعتقل في باكستان وأحضر الى السعودية على متن طائرة خاصة في أوائل شهر شباط فبراير الماضي بسبب "قضية مقامة ضده جاري التحقيق فيها" لم يرد في بيان وزير الداخلية ولا في اعترافات المعتقلين الأربعة ما يدل على عدم صلته بهذه المسألة على رغم أنه كان قد شاع الاعتقاد على نطاق واسع بأن السريحي متهم في حادثة انفجار العليا. وأصبح واضحاً الآن ان اعتقال أبو عبدالرحمن وهو أحد "السعوديين الأفغان" الذين حاربوا ضد الروس له علاقة بقضية أخرى لم يكشف عنها النقاب حتى الآن.