في حديثه الطويل إلى "الوسط" 191 - 193 لخّص محمود درويش، قبل أشهر، موقفه من مفاوضات السلام بين العرب واسرائيل بعبارة شهيرة: "قد أفاوض على كلّ شيء، لكنّني لن أقبل يوماً المساومة على التاريخ". وكان يشير بذلك إلى أن التسوية أو المصالحة لا تعني التضحية بالذاكرة، وتبنّي خطاب المنتصر ونظرته. ولعل أبحاث واجتهادات مجموعة من المؤرخين والجامعيين الشبّان في اسرائيل، تؤكّد صحّة موقف الشاعر الفلسطيني. فهذا التاريخ الصاخب، الدامي، الذي تتخلّله مناطق كثيفة الظلام، يعود إليه منذ سنوات باحثون اسرائيليون، ليخرجوا باستنتاجات لا تخلو من الجرأة والنزاهة. ينتمي هؤلاء إلى جيل تعب من الخطاب الرسمي وراح يبحث في المسلّمات والعصبيّات التي يقوم عليها المجتمع، طارحاً تساؤلات ب "الأسطورة" التي قامت عليها الدولة العبريّة من أساسها. ومن أبرز أولئك الذين يجتمعون تحت تسمية عريضة هي "المؤرخون الجدد": توم سيغيف، آفي شلاييم، إيلان بابي، باروخ كيمرلينغ، بيني موريس وآخرون. وخلافاً لهامشيّي الجيل السابق في اسرائيل ممن كانت تحرّكهم في رفض الأيديولوجية الصهيونية دوافع عاطفيّة، انفعالية، "أخلاقيّة"، أو أيديولوجيّة، فإن أغلبهم من خرّيجي المدرسة الأنغلو - ساكسونيّة، يستند إلى أسس علميّة، ويفني وقته في البحث الميداني وفي دراسة وثائق الأرشيف داخل الدولة العبريّة وخارجها. من هنا الأهميّة التي تكتسيها مؤلفاتهم، والصدى المتزايد في اسسرائيل لأبحاثهم التي تعيد النظر في "الميثولوجيا التأسيسيّة" انطلاقاً من "مراجعة التاريخ". لا ينبغي الخلط هنا طبعاً بين توجّهات المؤرخين الجدد، وبين اجتهادات "المحرّفين" revisionnistes الذين يشكّكون بوجود "المحرقة اليهوديّة الكبرى"، أو بعدد ضحاياها، ويغري خطابهم، للأسف، بعض المثقّفين العرب يبدو أن المفكّر الفرنسي روجيه غارودي إنضمّ أخيراً إليهم. يرفض توم سيغيف مثلاً في كتابه "المليون السابع" 1991 سلوك أقصر الطرق بين "الهولوكوست" وقيام اسرائيل، ويكشف دور الحركة الصهيونيّة المتواطئة مع النازيين، في "تسليم" بعض اليهود إلى المحرقة، وفي التخطيط لاستغلال تلك الجريمة البشعة لتوطيد أساسات الدولة الفتيّة. ويدعو إيلان بابي إلى "تفكيك" الخطاب القومي، والتاريخ البطولي الغيبي الذي يختبئ وراءه. فيما يرى باروخ كيمرلينغ ضرورة اعادة كتابة التاريخ لا من وجهة نظر المنتصر، بل عبر اعطاء الكلمة للضحايا والمقموعين من فلسطينيين ويهود آتين من دول عربية إلخ. أما بيني موريس، حامل لواء التيّار، فيضع الاصبع على الجرح في كتابه "ولادة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين" 1988، إذ يسلّط الضوء على "مسؤولية اسرائيل في التهجير والطرد المنظّم لما يزيد على 700 ألف فلسطيني خلال 1948". في زمن النقاشات الصاخبة من الجانب العربي حول "التطبيع"، حبّذا لو تُترجم مؤلفات وأبحاث المؤرخين الجدد إلى العربية. "بصفتنا الفريق المنتصر - يقول موريس في مقابلة أجرتها معه صحيفة فرنسيّة أخيراً - كان من الطبيعي أن نقوم بالخطوة الأولى، ونبدأ بالانفتاح على الآخر الفلسطيني واعادة كتابة التاريخ...". أليس من علامات تفوّق اسرائيل على العرب - لو طرحنا المسألة من وجهة نظر عربية - أنّها تتّسع لبيني موريس وأمثاله ممن يغامرون بتقويض أساسات الأسطورة الصهيونيّة؟