Tom Segev. Elvis in Jerusalem - Post Zionism and the Americanization of Israel. Metropolitan Books, New York. ألفيس في إسرائيل - ما بعد الصهيونية وأمركة إسرائيل. 2002. 167 pages. يحاول توم سيغيف أن يشرح كيف تطورت الأمركة في اسرائيل حتى كادت تصير أمركة اسرائيل. وهذا، بالأحرى، ما يقوله حرفياً عنوان كتابه الذي يزهو غلافه الجميل بملصقات لألفيس بريسلي يجثو أمامها مع الاعتذار من المسكونين بمطاردة الاستشراق جَمَل. لكن "المؤرخ الجديد" والصحافي الاسرائيلي يذهب بعيداً في تتبع جذور الأمركة هذه، فلا يستثني ثيودور هرتزل نفسه الذي كتب مرةً: "بالتأكيد أميركا ستتجاوز أوروبا، تماماً كما قطعة الأرض الكبيرة تبتلع الأصغر منها". وقد خطّ مؤسس الحركة الصهيونية عبارته هذه رداً على صهاينة زعموا أن اليهود بعد "عودتهم" الى "أرضهم" سيعملون في الزراعة ويتحولون مزارعين. وهي فكرة عدّها صاحب "الدولة اليهودية" خطلاً بحتاً لأن المستقبل، في رأيه، للصناعة. وبكتابة أنيقة ولو أن النص موضوع بالعبرية أصلاً، ترجمه الى الانكليزية حاييم واتزمن، يرصد سيغيف أمركة بلاده في محطاتها الأساسية، الاستراتيجية والسياسية كما الاقتصادية والفنية والثقافية والتعليمية. لكن الكتاب هذا يضعنا أمام مفارقة هي بمعنى ما مفارقة الولاياتالمتحدة نفسها، وجزئياً مفارقة التعاطي معها: فلئن بلغت علاقة أميركا، السياسية والاستراتيجية، بإسرائيل أوجاً لم تبلغه قبلاً بقي أن الأمركة، بالمعنى السيغيفي، هي الذهاب في وجهة غير التي يستبطنها تعميق التحالف بين البلدين. فما تنطوي عليه هذه الأمركة الايجابية إنما هو انتعاش الفردية ضداً على القومية والعسكرية، وصعود الروحية السلمية بديلاً من النزعة الحربية، ووضع الكسب والمتعوية موضع التضحية الكيبوتزية في سبيل الأمة وانتاجها. وفي آخر المطاف قُطعت خطى نوعية على هذا الطريق. فقد ذوت أمْثَلَة العيش في الكيبوتزات، على ما كانت الحال في الخمسينات، لتفسح المجال أمام الرغبة في بيت جميل مجهّز بما تيسّر من خدمات في احدى الضواحي المرفهة للمدن. وهذا وغيره ليسا سوى واحدة من ثمار التأثير الذي خلّفته ثقافة الولاياتالمتحدة وقيمها على اسرائيل المعاصرة، فنجم عن ذلك تغيّر في الطرق التي ينظر الاسرائيليون بموجبها الى أنفسهم والتي يستخدمون الصهيونية تبعاً لها. لا بل تراءى، على الأقل حتى اندلاع الانتفاضة الثانية، أن مركزية عقيدتهم القومية خلخلها شعورهم بأن الدولة أحرزت ما يكفي من أمن يبدد الخوف عليها، كما هلهلها التناقص الذي أصاب اشتراكيتها مقابل التعاظم في أمركتها. ولا يكتم الكاتب عواطفه التي تأتي صريحة وقاطعة. فهو مع ما بعد الصهيونية التي هي الشكل المحلي من وعيٍ ما بعد حداثي، ماضياً في تسجيل الضربات التي كالتها ما بعد الصهيونية للصهيونية الكلاسيكية. ذاك أن الأمركة انعكست على الإعلام والثقافة الشعبية وعادات الاستهلاك ونمط العمل السياسي وجوانب أخرى لا حصر لها. وقد أتت هذه الأمركة بمنافع عدة: فالاسرائيليون، في رأي سيغيف، صاروا أكثر تسامحاً وبراغماتية مما في الماضي، بل باتوا أشد استعداداً لمراجعة تاريخهم ونقد الجيل المؤسس وتحدي الأساطير القومية عن دولتهم. وجاء ما شهده العقد الأخير من فصل بين الهوية الوطنية والايديولوجيا، ليؤشّر الى روحية جديدة تسكنها التسوية والانفتاح. لكن سيغيف لن تفوته، بالطبع، الانتكاسة الكبرى التي مني بها هذا التيار الفردي والمسالم الذي انطلق مع أوسلو لينحسر بانحسار السلام. وهو، في ذلك، يتوقّف عند الحضور المتعاظم للمجموعات الدينية الأرثوذكسية التي تهدد باعادة جرّ البلاد الى حقبة ما قبل الصهيونية حيث تحكّمت الشوفينية القومية والدين. غير ان الكاتب يفشل في تعيين مسؤولية البنى الحديثة الاشكنازية عن الانهيار والانتكاس، وهي البنى التي في كنفها ولدت ما بعد الصهيونية والنزعات السلمية والفردية. فاختيار أرييل شارون رئيساً للحكومة، ومهما بدت المسؤولية العربية عنه واضحة صريحة، يشير أيضاً الى تركيب اسرائيلي لا يختصره الارثوذكسيون اليهود على الاطلاق. وانما هنا ينبغي التركيز والتأمّل من اجل تعيين مكامن الخطر على السلام كما على الديموقرطية و"الأمركة" في اسرائيل. غير أن توم سيغيف يبحث، إبان سرده، عن بذور الصهيونية وما بعدها في التاريخ الصهيوني الذي بات معظم فصوله معروفاً. وفي تكثيف رمزي له، لا سيما لصراع نزعتي الانفصال والاتصال، يستعيد السجال الذي عرفته بريطانيا بين وزيرين يهوديين هما ابنا خالة في مطالع القرن العشرين: هربرت صموئيل وإدوين مونتاغو. فصموئيل كان، في 1917، من أبرز الدافعين في اتجاه اعلان انكلترا دعمها للحركة الصهيونية، وهو ما عُرف لاحقا بتصريح بلفور الذي عرّبناه تآمرياً ب"وعد بلفور". اما مونتاغو فبذل كل جهده لمنع صدور التصريح رافضا الزعم القائل إن اليهود أمة. ذاك ان الاعتراف بهم كأصحاب هوية قومية مميزة يعيق، في نظر مونتاغو، نضالهم كيما يصبحوا مواطنين متساوين في البلدان التي يقيمون فيها. لكن سيغيف في تناوله فصلاً متقدماً وأساسياً من فصول التاريخ القومي والحركي لليهود، يضع يده على موقع المحرقة: ليس فقط في السجال الصهيوني - ما بعد الصهيوني، بل أيضاً في السجال والتحالف الاسرائيلي - الأميركي. فالاسرائيليون، أثناء تأسيس الدولة واستحضار العسكرة والذكورة، أرادوا نسيان تلك التجربة حيث "ذُبح اليهود كالنعاج". وفقط مع خطف أيخمان، عام 1961، ومحاكمته وإعدامه في القدس، أعيد الاعتبار الى المحرقة. لا بل كان أحد العناصر التي دفعت بن غوريون الى إتمام عملية أيخمان رغبته في ان يبرهن عن اكتراثه بالمحرقة، لا سيما وانه كان ماضياً في التقارب مع المانيا الفيدرالية والحصول، من ثم، على تعويضاتها. وفي ما بعد أضافت حربا 1967 و1973 بعض الاعتبار للمحرقة، وإن في سياق الصراع مع العرب والخوف منهم ثم الانتصار عليهم. بيد أن تغير الوعي بتلك التجربة المُرّة عزز ظهور عمليات مماثلة لدى يهود الولاياتالمتحدة. فهؤلاء الأخيرون جعلوها عنصرا مركزيا في هويتهم قبل ان يفعل الاسرائيليون ذلك. وكلما كان الالتزام الديني لدى اليهود الاميركان يتراجع، وكلما كانت علمنتهم واندماجهم في المجتمع يقويان، كان تشددهم في أمر المحرقة يتنامى، حتى غدت الأخيرة أشبه بمكان يلتقي فيه اليهود الأميركان والاسرائيليون. لا بل يكاد اللقاء هذا يكتسب معنى حرفياً، اذ يجتمع آلاف المراهقين والشبان من يهود البلدين مرة كل عامين في أوشويتز. وما يضاعف أهمية المحرقة بالنسبة الى الهوية الاميركية اليهودية ان معظم اليهود الاميركان لا يجيدون العبرية وانهم، من ثم، لا يملكون قناة اتصال مباشر بالثقافة الاسرائيلية. يبقى ان الصحافي و"المؤرخ الجديد" عبّر مراراً عن اعتراضاته الجدية على الانبعاث الصهيوني الأخير ومحموله الرجعي، ودان الانتكاسة التي تحمل، بين ما تحمل، على مراجعة كتب التعليم وتطهيرها من عناصر الرواية الفلسطينية التي كان أدخلها يوسي سريد، الوزير يومها والقطب "ما بعد الصهيوني". وسيغيف لم يتزحزح عن حماسته لقيام دولة فلسطينية لا تكون العمليات الانتحارية الطريق اليها. لكنه لئن بدا مُحيّراً بين تشاؤم سياسي وتفاؤل تاريخي، اختتم كتابه الصغير بالتالي: "في بعض الأوقات يبدو التاريخ كأنه يسير الى الوراء. وهذا ما يستحضر في ذهني إشارة صدرت عن قائد عام بريطاني هو برنارد مونتغمري: "اليهود يقتلون العرب والعرب يقتلون اليهود. هذه هي الحالة في فلسطين الآن، ولسوف تمضي هكذا للسنوات الخمسين المقبلة على الأرجح". ولكن على عكس البريطانيين، فإن الاسرائيليين والفلسطينيين ليس لديهم مكان آخر يذهبون اليه. وفي هذه الغضون فإن الارهاب الفلسطيني أعاد اسرائيل الى الرحم الصهيوني، وهذا ربما مثّل فكرة الفلسطينيين عن الانتقام. لذلك فما بعد الصهيونية لم تعد قويةً الآن، الا أن التطورات الأعمق التي أشّرت الى مستقبل ما بعد صهيوني، كانت برهاناً على شيء بدأ الاسرائيليون يدركونه، وهو أن ثمة حياة بعد الصهيونية".