في اخراجها الاشكالي لمسرحيّة سعد الله ونّوس "طقوس التحولات والاشارات"، ترتمي نضال الأشقر في هاوية اللاوعي، تقوم بتقشير الذات والشخصيّات. والعرض الذي شاركت فيه منى كنيعو مديرة اضاءة ولينا أبيض مساعدة اخراج، يتجاوز فخاخ المعاني، ليجمع بين الضحك والجنون والألم والفكاهة السوداء، في مناخ بلا ضوابط يشوبه بعض الفوضى والارتجال. إنّه يستنفد النص إلى حد لا يترك بعده سوى السؤال. مهما تكن أمانة نضال الأشقر لنص سعد الله ونوّس المسرحي - وهي ليست تامة على كل حال - فإن إخراجها ل "طقوس الاشارات والتحوّلات" حاليّاً على خشبة "مسرح المدينة" في بيروت، إشكالي للغاية. والأرجح أن المسارب التي تركها النص، وإن بدا محورياً، أتاحت حريّة الاخراج. فالنص يستلهم حكايات وأدب ولغة الماضي كنوع من المحاكاة. وتبرير الحكاية بمغزى أخلاقي معلن جزء من تقليد أدبي قديم. إلاّ أن حكاية ونّوس لا تكاد تبدأ من هذا العنوان حتى تفترق إلى أماكن لا يُسبر بعدها. فانحطاط القبضاي إلى علق، وابنة الحَسب إلى غانية، ونقيب الأشراف إلى مجذوب، وقاضي القضاة إلى عاشق. أمور لا يمكن أن تُحسب أمثلة على درس أخلاقي معاد. نحن هنا في الهاوية، في اللاوعي، في الأنا الأخرى، في الأنا الزائفة، في الفصام والاختلاط والهذيان. والنص الذي اعتبره الكاتب المسرحي السوري "تقشيراً" للذات وللشخصيات، وخطوة نحو "العربي"، هو حقاً كذلك إلى الدرجة التي تجعل "مَخبر" النص غير مظهره. بل يجعل من هذا المخبر غليان معان ووساوس ووحولاً. إننا أمام "فصل من الجحيم" إذا استعرنا عنوان أرتور رامبو، وليس "المخبر" سوى انفجار الذات وتشظيها والسباحة في باطن مظلم. نص ونّوس فعلاً من تحت الأرض. وهو هكذا لا يستوفيه الجدل البريختي. إنه كما تصفه نضال الأشقر "شكسبيري"، فتحْت هذا الوضوح والاشراق والامتلاء واكتناز العبارة نجد فخاخ المعاني والهُوّات العميقة، والمصائر المتضاربة والأسئلة الهائلة. والأرجح أن ما يفعله الكاتب هو استنفاد النص إلى حد لا يترك بعده سوى السؤال. تعود نضال الأشقر إلى الاخراج بعد أكثر من عشرين عاماً من التوقف. تضع رصيدها العريض كممثلة ومخرجة، لكن في عملها مع ذلك نضارة الابتداء. فهي لا تغرق في أسلبة صارمة، ولا تخاف من الحشد والمزاوجة بين الأساليب، ولا تخشى قليلاً من الفوضى والصخب واللهو، ولا تمانع في أن تخترق أحياناً جلال الخشبة وصمتها الطقسي بشيء من خفة وعامية شعبيتين. ولم ينقّص هذا من نبض العرض، فأياً تفرّعت المسرحية واستطردت حواراتها واختلطت أساليبها، لا يضيع المتفرج ولا يشرد انتباهه. إختارت المخرجة الأمانة للنص، وأبقت على حواراته الطويلة والأدبية. لكنها أعادت احياءها حركيّاً، وتعاملت معها لا على أساس معانيها فحسب، بل في نبرتها أيضاً. أبقت لهذه القطع الفصيحة المحاكية للقديم شيئاً من روحها وايقاعها الخاص. فبدت كالمشربيات الجدارية التي شكلت أساس الديكور، ذات مسحة غابرة. ظل فيها شيء بعيد من الانشاد والتلاوة، من دون أن تتحول بالطبع إلى تشدّق خطابي. كانت ابتهالات المجذوب حسان مراد والقاء الماسة جوليا قصار، تصلنا جرساً قبل أن تصلنا معنى، متصلة بذلك بديكور المشربيات وأجواء العود والغناء القديم. ويتردد الكلام بين العامية والفصحى من دون حرج، كأنها أيضاً لعبة ايقاع. ف "التلاوات الطويلة" أحياناً هي بين الحوار والانشاد، في منطقة وسطى بين الحوار الدرامي والاحتفال المسرحي. والحقيقة أن المسرحية كلّها كانت في هذه المنطقة الوسطى، وسارت طوال الوقت على خطين. منذ لاحت المشربيات الشاهقة، وبدا الناس من ثقوبها يتخايلون كأنهم ظلال مدينة محجوبة، وتدفقوا على الخشبة ضاجين صاخبين. إنّها المدينة: السلطة والاشراف والتجار والخدم والقبضايات والبغايا والمجاذيب والمثليون. المدينة التي هي جسد الحكاية. إنها الاحتفال الذي ينفصل عنه المنشدون ليؤدوا أدواراً أخرى، ينفصل عن الجوقة المنشد الذي يلعب دور نقيب الأشراف، والراقصة التي تلعب دور الغانية وردة عشيقته. تولد الدراما من الاحتفال ومن ايقاع "يا نور العين"، من الطرب والرقص يتولد الحدث. والحكاية تسير على نحو خيطي لفترة، لكنها سرعان ما تتعدد مستوياتها. فالمدينة في ثقوب المشربيات، وفي مسام الحكاية، ولا تلبث أن تتدفق منها. وننتقل من الدراما إلى الاحتفال غالباً بشكل غير متوقع. ففي اخراج الأشقر دفعة من الارتجال، إذ تقطع لحظات التوتر الدرامي بهيصات واحتفالات وطرب مديد وضجة لا تخلو من نشاز. الخشبة توحي بقدر من الاهمال، إنها استديو أكثر منها خشبة. ثمة من هو متوزّع على أنحاء الخشبة، ومن هو جالس وراء المشربيات أو على جنبها، ومن يتكلّم من طرف الخشبة. وهناك من يأتي صارخاً وراكضاً من الشرفات. المتفرّج يحس دائماً أن العرض يدور في ناحيتين، ويتعاقب مشهدان في آن واحد. واضح هنا أننا أمام تقطيع شبه سينمائي. ربما لذلك بدت الخشبة أشبه باستديو للتصوير. ديكورات في كل مكان. ممثلون وممثلات ينتظرون أدوارهم، مشاهد متوازية ومتواترة... إن ادماج مشاهد الاحتفال في نسيج الدراما يستلهم هذا التقطيع السينمائي، كما أن مشاهد كثيرة صمّمت بشكل يوحي ب "الكادرات". فيما يبدو التزامن والانتقال السريع والسيولة والتعاقب... تقنيّات أقرب إلى الكتابة الفيلميّة. قاسم المفتي أنطوان حجل ينقذ التراتب الاجتماعي حين ينجد عدوه نقيب الاشراف حسان مراد الذي أوقعه الآغا خالد السيد في مكيدة حين جره مع عشيقته وردة كارول سماحة من بستانه، وطاف بهما وهي ترتدي عمامته وجبّته في اسواق دمشق. أما حيلة المفتي فبسيطة، إذ استبدل الغانية بالزوجة مومنة جوليا قصار. تنجح الحيلة لكنها ستشكّل نذيراً رهيباً. إذ برزت في اللعبة الحقائق المخبأة، والنوازع العميقة: حلّت الزوجة محل الغانية لأنها مسكونة بها، ولقي نقيب الأشراف العقاب الذي أطلق الدرويش الذي زرعه أبوه في صدره. وجاءت اللحظة التي كشف فيها القبضاي العفصة حسن فرحات أن تعلقه بعباس زياد سعيد لم يكن حيلة. كانت لعبة خطرة جعلت كل امرىء أمام باطنه. نص سعد الله ونّوس جدلي، ملحمي بالمعنى البريختي للكلمة. والأشقر جعلت النصّ أخف وأيسر تناولاً وأقرب من الجمهور. فعلَتْ ذلك بالرقص والغناء والملابس والاحتفال والاداء الكوميدي، وحتى الفودفيل. خففت من الثقل التراجيدي للنص، وتجنّبَتْ أن تجعل منه بؤرة توتر ومجالاً مكهرباً. جعلت لنص ونوس مذاقاً شعبياً. لم تتجنب المخرجة اللحظات الجدلية التراجيدية الطويلة، لكن ادماج هذه اللحظات في جو اللهو المديني، والصخب المديني، جعلها هي الأخرى أقلّ عصبيّة. وجدنا الضحك والجنون والألم والفكاهة السوداء في مكان واحد، كان هذا غريباً أحياناً، وبلا ضابط، وربما يشوبه بعض الفوضى والارتجال... لكن العرض جاء حياً. نسجت نضال الأشقر رؤيتها الاخراجيّة، انطلاقاً من تفاصيل قد لا تبدو في أساس الفكرة: مغناطيسية الغانية الارستقراطية، شبقية الغانية وردة، رقة القبضاي المموهة وموته أمام الحشد الذي يدير ظهره، دروشة نقيب الأشراف، عناق العفصة وعباس الغريب... أجادت جوليا قصّار، ولو أن دورها في النص الأصلي بقي حائراً، لو قارنّاه مثلاً ب "جميلة النهار" بطلة لويس بونويل في فيلمه الشهير. وأجاد حسن فرحات وكارول سماحة وحسن مراد. وحده أنطوان حجل الذي لم يتحكّم بصوته وبحركته كما ينبغي، أفلت من ادارة الأشقر