لا تعتبر الجرأة، بذاتها، معياراً نقدياً لتقويم الفنون، فالكثير من الكتّاب يوظفها، على نحو مجاني، بغرض لفت الانتباه أو إثارة إشكاليات زائفة. في حالة المسرحي السوري الراحل سعد الله ونوس (1941 1997م) تتحول هذه السمة قيمة فنية وجمالية، وخصوصاً، في نصه المسرحي «طقوس الإشارات والتحولات» الذي قدم على خشبة دار الأوبرا في دمشق، بتوقيع المخرج الفرنسي السوري وسام عربش. تتناول المسرحية، التي كتبها ونوس في سنواته الأخيرة لدى مصارعته المرض، مسائل اجتماعية حساسة، وهي ذات «مناخ شكسبيري» تغوص في دواخل شخصيات مركبة، تتورط في القيام بأفعال وممارسات يندرج الكثير منها تحت خانة «المحظورات الاجتماعية». فالنص يكشف خبايا المجتمع، ويزيل أقنعته المتعددة، في سعي للوصول إلى حقيقة ما تضمره النفس البشرية من أهواء ورغبات ونزوات طارئة، ونفاق ومكر. ومن زاوية أخرى، يلمح هذا النص إلى تواطؤ بين المؤسسة الدينية والسلطة السياسية. ونظراً لاقتحام النص فضاء «التابوات» الراسخة، فإن صعوبات تكتنف تجسيده على الخشبة، وثمة، دائماً، رقابة تخشى الطارئ، المختلف فضلاً عن قيم اجتماعية مكرسة لا ترحب كثيراً بمثل هذه النصوص المشاكسة. هذه الجرأة «الاستثنائية» هي التي حالت، إذا، دون تجسيد هذا النص على خشبات المسارح السورية، إلى أن تشجع الأوربيون، أخيراً، واختاروا هذا النص كي يقدم في دمشق ومدن سورية أخرى، عبر الدعم الذي قدمته بعثة المفوضية الأوربية والمركز الثقافي الفرنسي في دمشق، وبرعاية وزارة الثقافة السورية ومديرية المسارح والموسيقى، ويأتي هذا النشاط في إطار الشراكة الأوروبية المتوسطية لتنمية المسرح السوري. يتكئ ونوس في هذا النص على حكاية تعود إلى القرن التاسع عشر يرويها فخري الباردوي في مذكراته. وعلى رغم التوثيق التاريخي للحكاية، إلا أن ونوس يوضح في مستهل مسرحيته بأن «أبطال العمل ما هم إلا ذوات فردية، تعصف به الأهواء والنوازع، وترهقها الخيارات، وأنه من سوء الفهم الكبير ألا تقرأ هذه الشخصيات من خلال تفردها وكثافة عوالمها الداخلية، وليس كرموز تبسيطية لمؤسسات تمثلها».. المسرحية، في هذا المعنى، تتخذ من الواقعة التاريخية ذريعة لطرح العديد من الإشكاليات ضمن قالب حكائي سلس ومشوق. فبعدما ضُبط نقيب الأشراف (سعيد لوستان) لاهياً في صحبة غانية (ناندا محمد) ثار الرأي العام، وبدت «السلطة الرسمية» محرجة ومرتبكة. حاول المفتي (كفاح الخوص) درء الفضيحة عبر اللجوء إلى حيلة لتضليل الرأي العام، إذ اتفق مع زوجة نقيب الأشراف (حلا عمران) كي تقبل الدخول إلى السجن بدلاً من الغانية، وهكذا سوي الأمر، إذ سجن من كشف الحقيقة بدلاً من المنافقين. لكن جوهر المسرحية يبدأ من هذه الشرارة الأولى، ذلك أن هذه الأحداث تعصف بدواخل الشخصيات، وتقود إلى تحولات جذرية حادة. مؤمنة زوجة النقيب، التي اشترطت الطلاق ثمناً لقبولها لعب دور الغانية، اختارت اسم ألماسة، وتحولت، فعلاً مومساً، وراحت تتحدث عبر حوار فلسفي، غير مألوف، لاسيما عندما تخاطب المفتي: «يُخيل إلي أنه، وفي لحظة سقوطي، سينبت من مسامي ريش ملون... وسأحلق في الفضاء كالطيور والنسائم وأشعة الشمس. أريد أن أقطع الأمراس الخشنة التي تحفر لحمي، وتقمع جسدي. أمراس مجدولة من الرعب والحشمة والعفة ومشاعر الدنس والقذارة... ينبغي أن أتحلل من وصاياكم، كي أصل إلى نفسي، ينبغي أن أتجاوز خطر الانتهاك كي ألتقي جسدي، وأتعرف عليه». أما زوجها عبد الله، نقيب الأشراف، الذي يعشق حياة اللهو والمجون، فيستقيل من منصبه ويتحول زاهداً تحت وطأة الحادثة، وبتأثير من طيف والده (تيسير ادريس) الذي تراءى له في المنام يقول له: «أتلفتَ ظاهرك، فتدارك باطنك وانقذه من التلف». المفتي، بدوره، يحاول خطب ود زوجة النقيب، وهو يتستر وراء الدين لإخفاء ازدواجيته، بينما يقدم الشاب الشاذ (سيف أبو اسعد) على الانتحار، فهو سعى إلى التصالح مع ذاته، غير أن المجتمع، المثقل بقائمة طويلة من الأوامر والنواهي، رفضه ونبذه. وتبلغ التراجيديا مداها الأقصى في المشهد الأخير حين يقدم شقيق مؤمنة (أسامة حلال) على قتلها غسلاً لعار جلبته على عائلتها المحافظة. في موازاة هذه الطروحات الشائكة، وإزاء هذه البلاغة الفنية الهادفة إلى تحريض الشخصيات على المكاشفة والبوح، فإن مَسْرحة هذا النص الزاخر بأشكال الفرجة المسرحية، تتطلب مقترحات بصرية مبتكرة، وتستلزم حلولاً إخراجية ذكية، ويبدو أن المخرج عربش الذي لم يخفِ إعجابه الشديد بهذا «النص العالمي»، وفق وصفه، كان مستعداً للقيام بهذه المهمة. لا يأبه عربش للخشبة كثيراً، لكنه يصوغ سينوغرافيا نابعة من فضاءات النص، فهو يبني ديكوراً خاصاً يكاد يكون منفصلاً عن خشبة قاعة الدراما التي احتضنت العرض، وهو ديكور أشبه بمتاهة مؤلفة من طابقين، وفي كل طابق ثمة متسع لأربعة أمكنة مختلفة تظهر للمشاهد لدى تحريك كتلة الديكور الضخمة هذه، والتي تدور حول محور دائري يصل بين الأمنكة المختلفة في صورة بدا معها العرض أشبه بلعبة المرايا المتعاكسة، تماماً كما هي النفوس المضطربة التي تشعر بالفزع عندما ترى صورتها العارية، الممتحنة في مرآة الذات. ويلجأ المخرج، كذلك، إلى الاعتماد على ثنائية الخفاء والتجلي، إذ يعمد، أحياناً، إلى وضع ستارة شفافة فاصلة بين الجمهور والممثلين، وهذه الستارة، فضلاً عن الجمالية البصرية، تخلق فضولاً نحو معرفة الأسرار في عتمة البيوت والحانات، وكذلك في عتمة النفس البشرية، وتجعل السمع رهيفاً، مهيّأ للإصغاء إلى ما يدور من همسات ودسائس خلف الأبواب المغلقة. لم يسعَ عربش، الذي يرى في هذا النص «تغييراً من دون ثورة»، إلى صوغ مشهدية بصرية مبالغ بها، بل غاص في تفاصيل النص الذي يحرّض الشخصيات على أن تهب نفسها لحقيقتها البشرية المؤلمة، المخفية وراء حجب سميكة، وإزاء هذه الحقيقة تتكشف هشاشتها وضعفها واستسلامها. على أن ونوس لا يدين شخصياته بقدر ما يخلق تعاطفاً معها بالنظر إلى ظروفها القاهرة، والى واقعها المأزوم. وقد جسد عربش هذه الفكرة بأدوات إخراجية بسيطة، إذ وفق في التعبير عن خلاصة الأفكار المطروحة من دون أي ادعاء أو افتعال، ونجح كذلك في إدارة الممثلين الذي قدموا، وفق إيقاع منضبط أداء مقنعاً، على مدى أكثر من ساعة ونيف، وهي مدة العرض الذي أعاد إلى المسرح جمهوراً كبيراً بات يفتقده المسرح السوري.