الجغرافيا هي الأصل في دراسة الدكتور محمد جابر الأنصاري "تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القطرية" الصادرة عن "مركز دراسات الوحدة العربية". فالمعتاد أن يجد الدارسون القوميون في التاريخ الماضي مثالاً للوحدة، لم يلبث أن آل بعد انفراط الدولة العثمانية وسيطرة الغرب الاستعماري إلى تجزئة كاملة. الانصاري لا يسلم بهذا الوهم، بل يجد أن الصحراء تسبّب بقطيعة مكانية، وجعلت المنطقة العربية التي لا تملك اسماً يدل على هوية واحدة، محل نزاع متصل بين الحضارة والبادية، بين قيم الاستقرار والتراكم الاقتصادي والثقافي وتكوين المجتمع وقيام المؤسسات والدينامية السياسية... وإذا بالمنطقة العربيّة أيضاً، محلّ نزاع بين قيم الحضارة وقيم البداوة: قيم العصبة العشائرية والبطش العسكري وتدمير الاقتصاد وتخريب المدن وتحويل الدولة إلى آلة تسلط وابتزاز منفصلة عن المجتمع. وهذه القطيعة سادت التاريخ العربي كله، من الردة بعد قيام الاسلام إلى استعانة المعتصم العباسي بالاتراك البدو الاسيويين، وخلوص السلطة بعد ذلك إلى قادة العسكر بحيث صارت غريبة عن المجتمع منفصلة عنه، لا يشغلها سوى الاعتداء عليه وغزوه ومصادرة ثرواته وتحطيم مؤسساته المهنية والاجتماعية. أما بعد الاستعمار فقامت في المنطقة العربية كيانات سياسية سرعان ما عادت إليها العصبيات الريفية الضيقة - وهي وريثة البداوة - فجعلت مجدداً السلطة في مكان والمجتمع في مكان آخر. وغدت السلطة مصدراً للمجتمع، بدلاً من أن تكون نتاجاً له، أي انها صادرت الحياة السياسية بكاملها. ويشر المؤلّف إلى خلل عضوي في تاريخنا السياسي، جعله عاجزاً عن انتاج مجتمع وحياة سياسية ودولة عضوية. خلل جعل من كلامنا عن الدولة الواحدة وهماً كبيراً، تختبئ خلفه سلطات تصادر المجتمع وتغزوه. فمعارضتنا الراهن المكروه بتاريخ مجيد وذهبي، ليست سوى أكذوبة. وليس وصمنا الحاضر بالتجزئة سوى أكذوبة أخرى. فالتجزئة والتذرر وسيادة العصبية الأصغر طابع تكويننا الاجتماعي، في نظر الأنصاري. والاستعمار لم يحمل التجزئة، بل خطا بالعكس خطوة نحو دولة عضوية تطابق فيها السلطة المجتمع. وبعد الاستعمار عاد التذرر الاجتماعي إلى الكيانات القطرية بعد أن تسرّبت إليها العصبيات الريفية، وريثة البداوة. ليس التاريخ بالنسبة إلى الأنصاري فردوساً، بل متاهة. وبدلاً من الهروب إلى ماضٍ خرافي كما يفعل الايديولوجيون، يحاول المنظّر البحريني الذي قرأ جمال حمدان بتمعّن، أن يتحصن بالحاضر. حاضر الدولة القطرية التي ليست لعنة ولا ارثاً استعمارياً، بل خطوة نحو انتاج مجتمع ودولة عضوية. خطوة نحو التوحيد.