محمد جابر الانصاري العرب والسياسة : أين الخلل ؟ - جذر العطل العميق دار الساقي، بيروت - لندن 1998 - 240 صفحة ما زلت منذ مدة أتتبع آثار المفكر الاستاذ محمد جابر الانصاري، وفي كتابه الجديد، كما في اي كتاب آخر، لا بد ان يقف القارىء بدهشة عندما يرى موجة عراك جديدة مع المفكر العربي الحاضر او لنقل مع الاوضاع الراهنة. والفكر ليس اكثر من شهادة على العراك. قد يبدو من نافل القول التحدث عن صياغة فعل اثبات يشخّص به الواقع المرير الذي يعاني منه العالم العربي والاسلامي، وتالياً الهروب من انعكاسات هذا الواقع على الفكر. لكن اللافت مع ذلك هو السعي الحثيث لتشخيص هذا الواقع والسعي ايضاً لايجاد، او لاستشراف، حلول له. مع ذلك فان ما يغلب على النصوص التي بين أيدينا الطابع النقدي الذي يحاول تلمّس المشكلة. او لنقل الذي يعاني منها كما نعاني جميعاً لكن دون الغوص في تحليل متماسك عميق او كلي لها. يبدأ المؤلف كتابه ببعض الاستشهادات المتفرقة التي تركّز في معظمها على بؤس الواقع السياسي تاريخياً، وعلى ذمّ السياسة عملاً وتعاملاً وعلى فضيلة الرضوخ للأمر الواقع وعدم جواز الخروج على السلطان والامتثال لما هو قائم، والسعي الى نوع من خلاص فردي واسقاط او اهمال ما يرتبط بالجماعة. هذا الى جانب بعض التوصيفات الاخرى التي تتعلق باوضاع بعينها، كالوضع في لبنان او في سواه مما يماثله حيث توصف الولاءات المتعددة ويهمل الولاء اللازم للدولة وللسلطة التي يفترض ان تكون شاملة التمثيل للرقعة الجغرافية التي تمثل وطناً ما، وللمواطنين باختلاف مشاربهم وطوائفهم وقبائلهم. لا يعالج الكتاب بالطبع وضعاً معيناً، بل يعكس حالة معينة. حالة الشرذمة وضياع الافق. ففي باب اول ومن عدة فقرات يتساءل المؤلف عن السبب الذي جعل ويجعل الاوضاع تتردى باستمرار، حتى ليخيل الينا ان علينا انتظار المزيد من المآسي، طالما اننا وفي تاريخنا المعاصر ما زلنا ننتقل من مأساة لاخرى، ولا نكاد نخرج من صراع حتى ندخل في آخر، إن لم يكن في هذا القطر ففي الذي يجاوره. ومن التقرير الى التشخيص، يضعنا الانصاري ازاء آراء على جانب من الاهمية، لكنه لا يتوسع كثيراً ولا يفند. ومع ذلك فهو لا يفعل كما يفعل آخرون وهم كثر. انه لا يلقي بالاسباب على الغير، بل على كاهل المواطنين المعنيين بالازمة، او الذين تقع الازمة عليهم حتى لو كان ذلك دون وعي منهم. فهو يشير الى عجز القدرة القيادية العامة عن بناء المؤسسات، كما يشير الى عجز المواطنين عن تفهمهم لاوضاعهم وكأن لا علاقة لهم بما يدور حولهم. ان الهم السياسي هو آخر هموم المواطن. وبالتالي يظل التخلف السياسي هو السمة السائدة. وهو وضع يستفيد منه صاحب السلطة الذي لم يتغير الا بالترتيب التاريخي. بمعنى آخر لا وعي سياسياً عند اصحاب الشأن. لماذا ينجح الانقلاب على الدولة ويعجز الانقلابيون عن بناء الدولة؟ ثمة امثلة يعطيها المؤلف من افغانستان الى الجزائر الى حركة سعد زغلول ومصطفى النحاس وسواهم. والامثلة هذه يمكن ان تتضاعف، اذا ما أضيفت اليها كل الانقلابات العسكرية التي جاءت لتغير اوضاع ما بعد هزيمة 1948 لتنتهي بهزيمة 1967. ثمة قصور سياسي لا ينفع معه القول ان سببه هيمنة الاستعمار، والمؤلف يؤكد ذلك تكراراً. بل انه يشير الى تحسن ملحوظ في الوضع السياسي في ظل الانتدابات المتعددة، تحوّل فقراً وتراجعاً مع مراحل الدول المستقلة. والقصور هذا سياسي يعود اولاً الى الاخفاق في العمل الجماعي. فالعربي ينجح فرداً ويخفق جماعة. وفي الاسباب: يظل الانتماء الاقوى هو الانتساب الى جماعة مسلّم بالانتماء اليها، او لا مناص من الانتماء اليها: عشيرة، قبيلة، طائفة. لذلك حين تبرز الخلافات الداخلية تظهر هذه الانتماءات القديمة وتختزل كافة اشكال الانتماء الاخرى، وتعود الى الذاكرة صورة العصور الاولى، العصور الذهبية، وننسى وراثتنا لعصور من الانحطاط ومن الحكم الاجنبي الذي بدأ مع استقدام الخلفاء لجيوش اجنبية والاستقواء بها لتكون اداة السلطة وعنصر التسلط على الناس وعلى المؤسسات حتى لو كان الرداء الاول رداءً دينياً او مقدساً الى حدٍ ما. هنا وفي أماكن اخرى متشابهة ان لم نقل مكررة، يطالعنا الباحث بصورة خلدونية للتاريخ. او بتفسير خلدوني للاوضاع. الحضارة والمدنية والثقافة والمؤسسات الحضارية هي من صنع المدن. المدينة هي التي تصنع السياسة بما فيها من طبقة وسطى وبما تمثل من ازدهار صناعي وعلمي. الا ان هذا لم يطّرد او لم يكن متاحاً دائماً. بل كان ظهوره متقطعاً. وفي أماكن متباعدة. فالدول المتعاقبة منذ بدء الاستعانة بالاتراك كانت تمهد الانتصار لمجتمعات رعوية غازية دخيلة على المدينة بما تمثل وبمن تمثل. لذلك لم تعش الدولة الاسلامية عصراً ذهبياً يكون التغيير فيه من داخله. بل كل تغيير حاصل كان تغييراً يصيبها من الخارج: كان حركة غازية، كان انقلاباً لا ثورة. ولا أدري اذا كان هذا التحليل وحده كافياً للتبرير، ولكنه مبرر في كل الاحوال. وفي الباب الثاني نجد توسعاً اكثر دقة لذلك واستعانة اكثر وضوحاً بابن خلدون الذي يؤكد ان الصراع جبلة في نفوس المتصارعين. والمصارعون عنده قبائل وغزاة باستمرار. الا ان الانصاري يرد ذلك الصراع الى عدم الانتظام في كيان سياسي يعرف معنى السلطة والحكومة ويقوم عليها. في الصراع بين البداوة والحضارة ظلّ الانتصار للبادية وظلت الهوية الجمعية لصيقة بالكيان القبلي. وفي ملاحظة ثاقبة يشير الانصاري الى تباعد مفهوم الدولة عند العربي عنه عند الاجنبي. فالدولة هنا يُصار الى التأكيد على الطابع الزائل لها. اما عند الغرب فهي ذات مفهوم استاتيكي ثابت يتوجب الحفاظ عليه. بكل الاحوال لا تطالعنا الدراسة بتصورات واسعة عن معنى الدولة تصوراً وواقعاً ولا عما يرتبط بذلك من مفاهيم، كمعنى المواطنة والمواطن الخ... هل من سبيل للخروج من الازمة؟ اقتراح الانصاري علمي. اما جدته فتكمن في قلب بعض المفاهيم. الخروج من التجريد والتقرير انطلاقاً من دراسة سوسيولوجية معمقة حتى لو كان ظاهرها او اطارها تاريخياً في جزء منه. ولذلك يسارع الى استرجاع ابن خلدون مجدداً مع بعض التفصيل ليؤكد على السمة الرعوية للمجتمعات العربية التي تشكلت وباستمرار نتيجة غزوات متعددة. ولا ينسى ان يعطي العامل الجغرافي فسحته في ذلك. فالحواضر في معظمها محاطة بالصحارى وكانت على الدوام عرضة للاجتياح وللتبدل بتبدل الغزاة. ما لم يتغير، وهذا ما يوضحه الانصاري وان كان زمن الاجتياح قد صار بعيداً، هو غلبة الريف على المدينة واخذ المجتمع المديني طابعاً ريفياً في علاقاته وفي مؤسساته، او لنقل في شكل ادارته لمؤسساته، ما يعطي الانطباع بفشل محاولات متعددة حتى ما كان ثورياً منها في يوم من الايام. ومع ذلك فلا يمانع الانصاري في ان يكون هذا التكوّن مقدمة او علامة على حضور اقطاعي ربما مهّد او كان مؤشراً لتغيّر في بنية الدولة على المدى الطويل، بمعنى ان تتحول الدول القطرية على تعددها مع الاخذ بعين الاعتبار بنيتها، من مجتمع اقطاعي الى دول تمثل شكلاً رأسمالياً اكثر تقدماً. لا يوسع الانصاري هذه الافكار اذ أحال الى توسّعها في كتابات اخرى. لكنه أبدى وفي اكثر من موضع عدم تقبله لاشكال تطور اخرى: الشكل الماركسي مثلاً، مذكراً بما آلت اليه الامور ومباعداً بين تكوين المجتمعات العربية والاسلامية وتكوين المجتمعات الاخرى كاليابان او الصين مثلاً. هذا لم يمنعه من اعطاء بعض التفاصيل عن التطور السوسيولوجي للدولة الاسلامية وصولاً الى الدولة او الدول القطرية والقومية الحاضرة. لا يغيّب الانصاري ملامح اخرى عن تحليله السوسيولوجي وان بدا ذلك احياناً مكملاً لما يريد، وهو الخلدوني بامتياز، او بارادته وهذا افضل، كالاشارات المتكررة الى العوامل الاخلاقية في بناء الدولة، كالتسامح مثلاً، او اتخاذ حلول وسطى والقبول بمراحل واتمام الامور الى غايات مدروسة. ولا ينسى ان يعقب على معنى الديموقراطية ومدى ابتعادنا عنها حتى لو صرخنا ملء الافواه بالعمل بها وصية ونهجاً. فهو هنا، ومن منطلق اجتماعي، يؤكد ان للديموقراطية ارضية معينة، صناعية واقتصادية واخلاقية. فهي صنو تطور مجتمعي معيّن لم نبلغه بعد ولا يمنع ان يكون ذلك غاية وسبيلاً. وهو لا ينسى ايضاً ان ينتقد الحركات القومية وما رافقها من رومانسية ومن مبالغات ومن اخفاقات. هل يكفي الاقرار بصوابية تحليل ما ليكون الحل المرتقب منه ناجعاً او لنقل ممكناً؟ محاولة الانصاري دعوة لذلك وهي لا ترسم حلولاً مع سعيها اليها. في تقريرها للواقع تصدمها تجربة معمر القذافي المقرّ بغلبة الصراع القبلي والقابل له. هل يعني ذلك امكانية تعميم للتجربة؟ الانصاري لا يقول ذلك ولا سواه في ما اعتقد. ولكن ذلك قد يكون نقطة في الطريق. على العموم يظل كتاب الانصاري كتاباً طموحاً. ربما انه لا يعالج هماً مقيماً ليزيل الهم، لكنه لا يتغافل عنه. والكتاب موحٍ من عنوانه فهو لا يطرح الحل بل يشخص الخلل وان اتخذ التشخيص جانباً معيناً. ومع ذلك لا بد من القول ان سمة الكتب الدارجة المكونة من فصول متقاربة يغلب عليها الجانب الصحافي والعاطفي تكون ذات مردود أقل من الكتب الموثّقة والمكرسة لمشكلة وترقب حلول لها. لا يخفف ذلك من فكرة الكتاب ولكنها نقطة لا بد ان تثار.