حينما أطلق المسرحي السوري الأصل، شريف الخزندار، ورفيقة دربه الفنّانة والباحثة فرنسواز غروند، "مهرجان الفنون التقليديّة" في مدينة رين الفرنسيّة مطلع السبعينات، كان استقبال الوسط الفنّي والاعلامي فاتراً يشوبه الشك. فماذا بوسع هذا المهرجان أن يضيف، تساءل بعض المشرفين على السياسة الثقافيّة ذلك الحين؟ ما الجديد الذي ستقدّمه التظاهرة، والذي لا يزال مجهولاً لدى الجمهور الفرنسي؟..ومرّت الأيّام، وعمل الثنائي بصبر، عابراً القارات على دروب ثقافات العالم، مكتشفاً أشكال تعبير حقيقيّة، وأصيلة لم يتّسع لها المركز المشبع بنفسه قبل ذلك... عاش المهرجان المذكور عقداً كاملاً، ثم انتقلت التجربة من رين إلى باريس حيث تأسّس "بيت ثقافات العالم". وواصل الثنائي اكتشاف وتقديم المسرحيّات والأعمال الاحتفاليّة وشتّى التجارب الموسيقيّة،موفّراً للجمهور فرصة ثمينة للتواصل مع حضارات عريقة، بعيداً عن النزعة السياحيّة أو الأكاديميّة. من الموسيقى المغربيّة إلى الموسيقى التركيّة والافريقيّة، ومن الدمى الفيتناميّة على الماء إلى الحكواتي التقليدي، مروراً بالكاتاكالي الهندي والنو الياباني وخيال الظلّ. غاص الخزندار في تربات غنيّة خصبة استبعدها التطوّر "الغربيّ" واصطاد مع غروند جواهر فنيّة ثمينة، حريصاً على نقل روح تلك الثقافات التي استبعدها المركز الأوروبي وبعد مرور ربع قرن على تلك الرحلة الخصبة التي لم تتوقّف، صدر مجلّد فنّي فخم، عنوانه "أطلس المتخيّل"، يضمّ وثائق ووقائع المسيرة الصاخبة. إنّه بمثابة "أوراق رحلة" كتب مقدّمتها عالم الاجتماع جان دوفينيو، ويروي التجربة حقبة حقبة بالاشتراك مع بيار بوا وبرنار بينيو، موضحاً خلفيّاتها وأبعادها النظريّة. كما يتضمّن كلّ فصل مقتطفات صحافيّة، ومجموعة من الصور النادرة . وغنيّ عن الذكر أن الموسيقى العربيّة، والمسرح العربي يحتلان مكانهما الأساسي في الكتاب، إذ ساهم شريف الخزندار في تقديم بعض التجارب الاستثنائية إلى الغرب. لنذكر على سبيل المثال لا الحصر: صبري مدلل، منير بشير، عبد الكريم الريّس، المقام البغدادي، العيساوى والكناوى والمولويّة... وعلى صعيد المسرح: الطيّب الصديقي، روجيه عسّاف، فرنسوا أبو سالم، جواد الأسدي، زياني الشريف عيّاد...