بعد "نساء طروادة" عز الدين المدني من تونس، و"مذكرات أيوب" إلياس خوري/ روجيه عساف من لبنان، يستعد مسرح ال "رون بوان" الباريسي العريق لاستقبال تظاهرة خاصة بالفنون الشعبية والمشهدية في الجزيرة العربية. والمناسبة تدعونا الى تسليط الضوء على تجربة ثقافية استثنائية عاش صاحبها متنقلاً بين المدن العربية، مشاركاً في تأسيس تجارب رائدة، قبل أن يصبح مديراً ل "دار ثقافات العالم" وال "رون بوان" في العاصمة الفرنسية. هذا الشخص هو المسرحي السوري الاصل شريف الخزندار الذي ترصدت "الوسط" محطات أساسية في مسيرته المسرحية. يذكر هواة المسرح أن الجمهور الفرنسي اكتشف ذات مساء في مسرح باريسي، فرقة "مسرح الحكواتي" الفلسطينية حين قدمت "حكاية العين والسن" من اخراج فرنسوا أبو سالم. ويذكرون أيضاً ربما لقاءه بالمغربي الطيب الصديقي "مسرح الناس" المغربي، من خلال مسرحية "كتاب الامتاع والمؤانسة" من وحي التوحيدي، أو بروجيه عساف "مسرح الحكواتي" اللبناني في "أيام الخيام"... لكن قلة من القراء تعرف أن وراء هذا الحضور الثقافي، مسرحي من أصل عربي يكافح منذ عقود في الكواليس، وهو يحتل اليوم مكانته المرموقة على الساحة المسرحية الفرنسية. هذا الرجل هو طبعاً شريف الخزندار مدير "دار ثقافات العالم" في باريس، ثم "مسرح رونو - بارو" الفرنسي العريق. شهد مغامرة البدايات، ورافق مرحلة مهمّة من تاريخ المسرح العربي الحديث متنقلاً بين تونس والمغرب وسورية ولبنان. فالمسرحي السوري الاصل الذي انطلق من دمشق مطلع الستينات، عايش جيل المؤسسين والرواد العرب وشاركهم تجاربهم الحاسمة، قبل أن يستقر في فرنسا، مكرساً حياته للسفر "على دروب ثقافات العالم". وفي قلب "المركز" الغربي الذي تأثر بمناخاته وترعرع في ربوعه، أعاد الخزندار اكتشاف الحضارات البعيدة المنسية، وراح يعمل على تقديمها الى المشاهد الفرنسي: من الهند الى فيتنام، ومن افريقيا الى العالم العربي... تطول لائحة الفنانين العرب الذين قدّمهم خزندار في فرنسا. المسرحي الجزائري عبد القادر علولة الذي سقط قبل أيام، كان واحداً منهم، وكذلك زميله الزياني شريف عياد. ولا ينبغي أن ننسى الفنون الاخرى وأهمها الاغنية. فله يعود فضل التعريف في فرنسا بالعراقي منير بشير، السوري صبري مدلل مدرسة الطرب الحلبي، الحاج عبد الكريم الرايس موسيقى الآلة المغربية... وبين الحين والآخر، كان الخزندار يعود الى حبّه الاول، ذاك الذي تلقنه على يد جان فيلار وفي محترفه، فيُخرج عملاً مسرحياً، كما فعل حين قدّم "حلاج" التونسي عز الدين المدني 1985... وخلال هذه الايام، حوّل مسرح "رونو - بارو" أو ال "رون بوان" الذي سيتوقف آخر الموسم عن ادارته، الى معقل للثقافة العربية: من "طرواديات" سارتر التي أعاد اقتباسها المدني وقدمتها فرقة تونسية - فرنسية مختلطة راجع "الوسط" عدد 111، الى "مذكرات أيوب" التي ينتهي من تقديمها هذه الايام روجيه عساف وممثلوه النص لالياس خوري... ومن المنتظر أن يخصص شهر حزيران يونيو للموسيقى والفنون التقليدية في الجزيرة العربية اليمن، السعودية.... مسرحنا كثير الكلام! كل ذلك يغري بالتعرف أكثر الى هذا الرجل الذي عاش دائماً عند مفترق الثقافات، يحاول مد جسور التواصل بينها - هو المولود لأب سوري وأم فرنسية، والمتزوج من المانية. والاقتراب من تاريخه الفنّي، يقودنا لا محالة الى الرغبة في الاطلاع على نظرته الى المسرح العربي الذي عايشه وخبره: "المسرح العربي يواجه برأيي - يقول الخزندار - مشكلة أساسية: فهو كثير الكلام. ما لفت نظري في معظم المسرحيات التي شاهدتها أو قرأتها خلال السنوات الماضية، هو أن الكاتب يريد أن يقول أشياء كثيرة. والمخرجون يعطون الأولوية للكلام والخطاب على حساب المكونات المسرحية الأخرى. مع أن المسرح فن بصري قبل كل شيء، قائم على التواصل والاتصال، على حركة الجسد وعلى الناحية البصرية. وهي جوانب منسية ومهملة غالباً في مسرح عربي يعتمد ال "كتابة الاذاعية". إنه مسرح للقراءة أو للسماع، لا للمشاهدة. وهذا هو العائق في المسرح العربي اليوم. بين الذين قرأتهم، يبدو سعدالله ونوس أكثر من يملك حس المسرح، ربما لأنه تطرق في حياته الى أمور كثيرة. عنده حس تعددية الأصوات. لكنه هو أيضاً يريد أن يقول أشياء كثيرة". لكن الوصول الى مرحلة "التمسرح" هذه تعترضه مجموعة عقبات ثقافية واجتماعية. أليس كذلك؟ "كل العناصر التراثية الأصيلة كالحكواتي، وخيال الظل... أشكال شبه مسرحية. لكنها قائمة على الشفوي والمحكي، حتى الطقوس الجماعية قائمة على النص. الجسد شبه غائب من الثقافة المشهدية العربية، ولم تقم محاولات لتطوير دوره وحضوره. ولا مفر للخروج من هذا المأزق، من أن ينفتح المسرح على الثقافات الأخرى، فيخرج من ال "غيتو" الضيق الذي حصر نفسه فيه. هناك مهرجانات عديدة للمسرح، وقد يكون من المستحسن أن تنفتح قليلاً، ليس فقط على بعضها البعض، بل أيضاً على بقية العالم. فمهرجان شيراز مثلاً، كان سابقاً مهرجان تبادل بين الثقافة الايرانية، وباقي العالم. جميع المبدعين الكبار ذهبوا الى شيراز: بيتر بروك، غروتوفسكي، بوب ويلسون وموريس بيجار، ومرورهم حرك أشياء كثيرة. هذا هو دور المهرجان. "مهرجان بعلبك" لبنان لعب هذا الدور، في مرحلة مختلفة، وعلى مستوى آخر، وكذلك "مهرجان الحمامات" تونس. و"مهرجان اسطنبول" يلعب اليوم هذا الدور. لكن ليس في العالم العربي اليوم مكان للتبادل والمواجهة على المستوى العالمي". لقاء علي بن عياد وحين يتكلم شريف الخزندار عن هذه الفضاءات العالمية، وعن التفاعل الثقافي، فهو ينطلق من تجربة غنية متنوعة في محطاتها ومنعرجاتها. فعلاقته بالمسرح بدأت في حفلات آخر العام على مقاعد الدراسة في دمشق، لتنضج وتتبلور خلال دراسته "إدارة الاعمال" في الجامعة الأميركية في بيروت بين 1959 و1962. وفي بيروت كانت الانطلاقة الجدية الاولى، حين اشترك مع جلال خوري وأنطوان ملتقى وروجيه عسّاف وثلاثتهم اليوم من رموز المسرح العربي، في تأسيس "المركز الجامعي للدراسات المسرحية": "أذكر أنني قدمت مع جلال خوري مسرحية بيكيت "في انتظار غودو"، وساعدَنا جورج شحاده يومها ببعض الارشادات والملاحظات. وكانت لي نشاطات أخرى في الصحافة والتلفزيون، الى جانب حفلات القراءة الشعرية التي كنت أقدمها بالعربية والفرنسية والانكليزية مع الممثلة تيودورا راسي. واهتمامي بالفن دفع بي الى تنظيم أول معرض للفنانين التشكيليين السوريين في بيروت، لا سيما لأعمال لؤي كيالي وفاتح المدرس". وبعد بيروت، كان من الطبيعي أن تكون وجهة الشاب الذي التقط "لوثة" المسرح هي باريس. "التحقتُ عام 1962 ب "جامعة مسرح الأمم"، حيث تسنّت لي فرصة التدرب على يد جان فيلار في السنة الأخيرة من ادارته للمسرح الوطني الشعبي 62 - 63". هنا سيتعرف الخزندار على زملاء هم اليوم من أبرز مخرجي فرنسا: أمثال جورج لافيلي، الراحل فيكتور غارسيا... وهنا سيلتقي بفرانسواز غروند التي ستصبح زوجته ورفيقة دربه. وفي مسرح الأمم سيلتقي للمرة الأولى بالممثل والمخرج التونسي الراحل علي بن عياد، وكان مدعواً لتقديم "كاليغولا". "عندما عدت الى دمشق - يروي الخزندار - عينت خبيراً لشؤون المسرح لدى وزارة الثقافة، وكنت مسؤولاً عن الفرق المسرحية السورية. في تلك الايام كان المسرح في سورية متمثلاً بفرقتين: فرقة مستقلة مؤلفة من مثقفين وهي فرقة رفيق الصبان، ثم "فرقة المسرح القومي" التي كان يشرف عليها الفنان الراحل نهاد قلعي، ويمضي بها في اتجاه مسرح البولفار. عودتي الى دمشق توافقت مع عودة مجموعة من الشبان درسوا الاخراج في القاهرة، من بينهم أسعد فضة وعلي عقلة عرسان. وكان عليّ أن أشركهم في عملية التجديد. وكان نجاة قصاب حسن الأمين العام لوزارة الثقافة يدعم هذه العملية. بينما كان أورخان ميسَّر مديراً لمجلة الوزارة. وكان الوضع ملائماً جداً، للقيام بشيء ما". مع رفيق الصبان في دمشق مع "الاستثناء والقاعدة" التي تولّى اخراجها، كان بريخت يقدم للمرّة الاولى بالعربية. ومن بعدها أخرج "الجرة المكسورة" لكلايست، لكن الرقابة منعتها، فلم تُعرض! بعد ذلك انتقل من وزارة الثقافة الى التلفزيون ليعمل مع رفيق الصبان وفرقته، وأخرج "الحضيض" لغوركي: "كان المسرح بالنسبة الينا وسيلة لتغيير المجتمع، وادخال افكار جديدة، والدفع بالمشاهد الى التأمل وطرح الاسئلة. لذا رحنا نقول بالالتزام، ونعرّب نصوصاً لبريخت وناظم حكمت. ومرجعنا الاعلى في ذلك الوقت كان مجلة "الآداب الفرنسية" وكتّابها أمثال أراغون. وفي التلفزيون قدمت برنامجاً مشتركاً مع رفيق الصبان عنوانه "شوامخ المسرح العالمي". كان الصبان يقدم شكسبير وموليير وأمثالهما، وأنا أقدم أمثال بريخت وكاتب ياسين وجورج شحادة...". لكن خزندار لم يحتمل طويلاً الاقامة في سورية، فما أن حصل على إذن بالخروج، حتى ركب الطائرة الى باريس: "كان عمري آنذاك 23 عاماً، وكنت أشعر بحاجة الى توسيع آفاقي المعرفية وخبرتي العملية. في دمشق كنت مديراً لفرق مسرحية، وكاتباً ومخرجاً ومعداً لبرامج اذاعية وتلفزيونية، كما كنت عضواً في المجلس الأعلى للفنون والآداب، لكن حصيلتي من التهيؤ والاكتساب كانت محدودة جداً. كنت أخشى الانزلاق الى الرتابة والفقر الثقافي". تلقّى خزندار ذات يوم، دعوة الى "المركز الثقافي" في الحمامات في تونس. فاقترح على سيسيل حوراني، رئيس هذا المركز الحديث العهد، تأسيس جامعة مسرحية على غرار جامعة مسرح الأمم، وكان مرّ زمن على اغلاقها. وبالفعل تم تحقيق ذلك، فاذا به من القيمين على المشروع: "دعونا الشخصيات البارزة في عالم المسرح في تلك الفترة، أمثال بيتر بروك، جان دوفينيو، جون ليتلوود ويان كوت... وكان المسرحي التونسي علي بن عياد موجوداً معنا منذ البداية، فاخترنا أهم المخرجين المسرحيين ذلك الوقت، وكبار الكتاب والمنظرين، وجمعناهم في الحمامات للعمل طوال شهر مع مجموعة من التدربين العرب والأجانب". واذا نظرنا جيداً في قائمة هؤلاء "المتدربين"، سنجد أن بينهم أسماء بعض رواد المسرح العربي لاحقاً. في الحمامات عقدت أيضاً ندوة شهيرة حول المسرح العربي، بمشاركة علي بن عياد، الطيب الصديقي، عبدالقادر كاكي، علي الراعي، أنطوان ملتقى... "في تلك الندوة شكلنا لجنة لوضع "شرعة المسرح العربي". كنا نؤمن بمسرح يغير المجتمع ويتوجه الى الجمهور. بحثنا مثلاً مشكلة غياب النصوص العربية، ودرسنا مسألة تعارض المسرح مع الدين. كما طرحنا سؤال اللغة الفصحى أم المحكية؟، وحسم النقاش لصالح لغة وسيطة بين الفصحى والمحكية...". خلال اقامته في "مركز الحمامات" الذي أصبح مديره، قدم الخزندار مسرحيتي بيكيت "الشريط الأخير" و"آه الأيام الجميلة" بالفرنسية والعربية، وكان يقوم بالتمثيل في الوقت نفسه. كما طلب منه بن عياد أن يقدم عملاً في "المسرح البلدي لمدينة تونس"، فكان عرض "مجنون ليلى" لشوقي 1965: "حاولت مع بن عياد الذي لعب دور قيس ولعبت منى نورالدين دور ليلى، أن أكسر حدّة اللغة الشعرية في الالقاء. وكان العمل يقوم أساساً على براعة الممثل الكبير علي بن عياد". بريخت بالعربية في برلين! وبعد تأميم المركز، انتقل شريف الى المغرب "حيث دعاني الصديقي"، فأخرج "المحطة" لعلي الجندي في المسرح البلدي الذي كان يديره الطيب الصديقي في الدار البيضاء، كما قدم "الشريط الأخير" بالعربية. ومن بعدها لبّى دعوة "البرلينر انسامبل"، فسافر الى المانيا لتقديم "الاستثناء والقاعدة" بالعربية.، وكانت المرّة الاولى التي يُمثّل فيه هذا النص، في معقل البريختية، خارج اطار تعليمات الاب المؤسس! "هيلين فايجل زوجة المعلّم ووريثته كانت ضد العمل في البداية، لكنها عندما رأت النتيجة، طلبت أن تصور المسرحية في نسخ عدة، عربية وفرنسية وانكليزية، كدليل على أن بريخت معاصر ويمكن اقتباس أعماله". بعد التجربة البرلينية، اكتشف المسرحي السوري آفاقاً جديدة للمسرح العربي، مستعيداً اجتهادات الصديقي وبن عياد وولد كاكي أيام الحمّامات: "أيقنت أن على مرحنا أن يراهن على خصوصيته، مخاطباً الجمهور بلغته ومفرداته التراثية. هكذا تنبهت الى ضرورة انفصال المسرح العربي عن المثال الغربي، والى ضرورة ابتكار قواعده الدرامية الخاصة. هذا ما كان يقوم به الطيب الصديقي في تلك المرحلة. فبدأت النضال من أجل مسرح عالمثالثي، ومن أجل مسرح يحتضن الأشكال الثقافية والتقاليد المحلية. ومن تلك اللحظة بدأ اهتمامي بالتقاليد الموسيقية، والأشكال المشهدية أو التعبيرية التراثية أو حتى الحديثة الخاصة بكل بلد. فعلى المسرح الافريقي أن يكون افريقياً، والاندونيسي أن يكون أندونيسياً...". هذا التوجه سيبدو جلياً من خلال سياسة الخزندار الثقافية، عند استلامه ادارة "دار الثقافة" في مدينة رين الفرنسية، وهو ما زال مستمراً بأشكال مختلفة الى اليوم. لكن ذلك لم يمنعه من اخراج أعمال "اختبارية" بتعبيره: "أخرجت "المحرك" لأندريه شديد في تونس عام 1971 تحت عنوان "لعبة كراكوز". وكانت فرصة سانحة لاختبار مسرح الظل مع علي بن عياد الذي كان يمثل هنا آخر أدواره. وآخر مسرحية أخرجتها كانت "الحلاج" لعزالدين مدني. عملت هنا على اختبار الآفاق التي تفتحها الموسيقى التقليدية العربية للمسرح". بعد رين، تابع شريف خزندار نهجه في باريس، من خلال ادارته ل "دار ثقافات العالم" ومسرح ال "رون - بوان"، محاولاً "التعريف بالمسرح الآخر، الذي قد يوفّر للجمهور ولاهل المسرح الغربيين مادة تأمل، ومصدر الهام، وحافزاً للبحث والتجريب. هكذا يسافر هذا المسرحي في البلدان النائية طلباً للمادة الاصيلة، وبحثاً عن أشكال تعبير هي ثمرة ثقافية لبيئتها، عن خصوصية يمكنها تجاوز المحلية لتكتسب بعداً عالمياً. ف "جميع الاشكال المسرحية التقليدية العريقة تتوجه الى الجميع، كما أنها تضم كل الفنون ووسائل التعبير. إنه ما يسمى بالمسرح الكلّي، والذي ما زلت وفياً له".