لا يمكن أن يؤتى على ذكر "فنّ الحكي"في العالم العربي, من دون أن نستعيد الدور الذي لعبه المسرحي الفرنسي, السوري الأصل شريف الخزندار, مدير"دار ثقافات العالم"لاعادة الاعتبار إلى هذا الفنّ... إستقبل الخزندار في مسرحه الباريسي أبرز المسرحيين العرب الذين اشتغلوا على"فن الحكواتي"والأشكال الاحتفاليّة. من المغربي الطيب الصديقي إلى اللبناني روجيه عسّاف, مروراً بالفلسطيني فرنسوا أبو سالم, والمصري حسن الجريتلي, والجزائري عبدالقادر علّولة. ومنذ ستينات القرن الماضي جال شريف الخزندار ورفيقة دربه فرنسواز غروند على أنحاء العالم النائيّة, في افريقيا وجنوب شرقي آسيا وغيرها, سافر إلى الأطراف البعيدة عن المركز الغربي, نابشاً كنوزاً حضاريّة منسيّة في مجال الفنون الشفويّة, ومكتشفاً أشكال تعبير أصيلة هي من صلب المسرح وروحه وكيانه! وما زال رهان"دار ثقافات العالم"نفسه اليوم, إذ يواصل فريق من المتخصصين على رأسهم ارواد إسبر, مغامرة استقصاء أشكال التعبير الاحتفاليّة البعيدة من المركز من رقص ومسرح وموسيقى, لتقديمها إلى الجمهور الأوروبي. ولعلّ"مهرجان الحكاية والمونودراما"الذي أسدل عليه الستار أمس في"مسرح مونو"البيروتي, حيث أقيم للسنة السادسة على التوالي, يدين بفلسفته إلى تجربة الخزندار, وتوجهاته الجماليّة والثقافيّة: إعادة الاعتبار إلى فن الحكواتي, كأحد العناصر المهمّة في الفرجة المسرحيّة, بما يشرّعه من آفاق على فنّ الممثّل, وتقنيات الارتجال والتأليف الدرامي, إضافة إلى مقدرته على مخاطبة المتخيّل الجماعي الذي يستند إليه في توليد طاقات ابداعيّة دفينة. هذا العام كان برنامج المهرجان واعداً, إذ أعلن عن مشاركة حكواتيين من فرنسا إريك بينتوس, والمغرب حمد بوزين, وكندا بوب بوردون, والجزائر سعيد رمضان, وساحل العاج أداما أديبوجو. أما"سوق الحكي"فأنيط احياؤه بالفنّان السوري نمر سلمون. لكنّ الحدث انتقل قسريّاً إلى مكان آخر. فالمسرح في الشارع هذه الأيّام, حيث أفلت"الكلام"من عقاله, وباتت أشكال التعبير أكثر مباشرة وحدّة. غير ان الخلل في ايقاع الحياة اليومية للمدينة منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري في بيروت, لم ينعكس على"المهرجان الدولي السادس للحكاية والمونودراما". لقد قرّر المشرفون على التظاهرة التي يقيمها"مسرح مونو"بالاشتراك مع"دار ثقافات العالم"والمراكز الثقافيّة الفرنسيّة في بيروتودمشق وحلب، ابقاء مواعيد العروض على حالها, على رغم انحسار الجمهور, وانشغاله بمسائل أكثر صخباً والحاحاً. هكذا قدّمت العروض تحت قبّة"كنيسة القديس يوسف", أما في سورية, حيث يقام"مهرجان الحكاية والمونودراما"للمرّة الثالثة, ويتواصل في مدن عدّة بينها اللاذقيّة وحمص وحلب والسويداء إضافة إلى العاصمة, حتّى الرابع من آذار مارس, ففتح مجال المشاركة أمام مجموعة من المسرحيين الذين لا ينتمون بالضرورة إلى"فنّ الحكواتي"بمفهومه الحصري, أو المتخصص... ضيوف المهرجان جاؤوا - كل من تجربته الخاصة - لاعادة الصلة بين الجمهور السوري ومتعة القصّ... أو عالم الحكاية. إلى جانب نمر سلمون, الكاتب والمؤلف والمخرج السوري المقيم في اسبانيا والذي روى قصص"سندريلا"و"علي بابا"و"ليلى والذئب"... يلتقي الجمهور حكيم مرزوقي, الكاتب التونسي المقيم في دمشق حيث أسس فرقة مستقلّة هي"مسرح الرصيف". وربّما تفاجأ جمهور المسرح التقليدي الذي شاهد في السابق عروضاً مثل"اسماعيل هاملت"أو"عائشة"اخراج رولا فتّال, وهو يستمع إلى مرزوقي في"لون آخر", وهو يحكي القصص التي كانت أمه ترويها له كي ينام. وربّما أمكن فهم عالمه المسرحي أكثر, في ضوء تلك المصادر الذاتيّة الحميمية. ويروي محمد خير كيلاني, وهو حكواتي وممثل سوري قدّم أعماله في سورية ولبنان والكويت, قصة عنترة بن شداد, بطل الأسطورة الشعبية وقد جعلها تشتبك مع العصر الراهن. ويكتشف الجمهور السوري الفنّان كفاح الحص الذي شارك في مسرحية الكويتي سليمان بسام"مؤتمر هاملت", وعمل مع جهاد سعد وآخرين... قصص الحصّ تدور حول الصراع الأزلي بين الخير والشر ومحاولة الشر بسط سيطرته المطلقة على العالم, وكيفية تشكل ظاهرة الليل والنهار كما جاءت في الأساطير القديمة. أما الحكواتي الفرنسي إيريك بينتوس, فلفت الأنظار بتقنياته ومهارته, إذ تناوب على تجسيد عشرات الشخصيات الطالعة من حكاياته... ومثله فعل أداما أديبوجو الآتي من ساحل العاج حيث التقاليد الشفاهيّة لا تزال حاضرة في الثقافة اليوميّة الحيّة للناس, وحيث يحتلّ الحكواتي موقعاً أساسياً في حياة الجماعة. يشتغل أديبوجو الذي لقّب ب"تاكسي - حكواتي"على جماليات الحكاية, ساعياً إلى فهم تطور المجتمعات الأفريقية المعاصرة. ويعمل على مواصلة تلك التقاليد العريقة, ناقلاً الذاكرة الشعبيّة إلى الأجيال الجديدة.