مسار السلام السوري - الاسرائيلي، الذي عاد اليه النشاط أخيراً بعد جمود دام شهوراً عدة، دخل حسب مصادر ديبلوماسية عربية ودولية معنية بمتابعة العملية السلمية في الشرق الأوسط "مرحلة اللا رجوع". فالجانب السوري أثبت مرة أخرى ان "خيار السلام" بالنسبة اليه هو "قرار استراتيجي ثابت لا تراجع عنه"، كما نجح مجدداً في تأكيد مقدرته على "الانتظار وعدم الاستعجال حتى تتوافر الظروف والمعطيات الملائمة للتوصل الى سلام عادل وشامل لا يكون مفروضاً أو يتم على حساب المصالح الاستراتيجية الحيوية لسورية في المنطقة". والجانب الاسرائيلي بقيادة شمعون بيريز قرر بعد انتظار ان "التكتيكات التأخيرية التي كان رئيس الحكومة السابق اسحق رابين يفضل اتباعها على ما يبدو مع دمشق لا جدوى منها، وان الأفضل هو الدخول في مساومة فورية وشاملة على الصعيدين الأمني والسياسي على أمل التوصل الى تسوية مرضية مع سورية قبل فوات الفرصة السانحة حالياً. أما الجانب الاميركي فاعتبر ان توافر هذين العنصرين على الجانبين السوري والاسرائيلي في حد ذاته "عامل كاف لدفع المفاوضات الى الامام وتحقيق الانجاز التاريخي الذي يأمل الرئيس كلينتون في إحرازه على صعيد السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وتحديداً في الشرق الأوسط، قبل حلول موعد الانتخابات الرئاسية الاميركية المقبلة". توافر الظروف والعناصر الملائمة والايجابية واتسام المفاوضات بالجدية شيء، والتوصل الى اتفاقات محددة والتفاهم على المسائل الاساسية والتفصيلية شيء آخر. وحتى الآن، فإن المصادر كافة تجمع على وصف المرحلة الجارية حالياً من المفاوضات في منتجع "واي بلانتايشن" في ولاية مريلاند الاميركية بالقرب من واشنطن بأنها تتحلى بپ"الجدية والايجابية". إلا ان المصادر نفسها تشدّد في المقابل على أن هذه المفاوضات لم تصل بعد الى النقطة التي يمكن الحديث فيها عن إحراز إنجاز أو اختراق مطلوب في اتجاه التسوية المنتظرة. وقد يستغرق الوصول الى نجاح جوهري كهذا وقتاً، كما ان هناك العديد من النقاط الحيوية التي يتوقع ان تكون مدار نقاشات تفصيلية طويلة ومعقدة بين الجانبين. لكن الأسس التي يرتكز عليها التفاؤل الحالي المحيط بالمفاوضات باتت معروفة، في حين ان المؤشرات الدالة على الأجواء الايجابية التي تجري هذه المفاوضات فيها باتت بدورها كثيرة. واللافت ان الأطراف الثلاثة المعنية مباشرة بالعملية، أي سورية واسرائيل والولاياتالمتحدة على حد سواء، تبدو متفقة على "نقطة انطلاق" أساسية وهي ان "الفرصة الآن سانحة ومشجعة للدخول في مفاوضات جدية وجوهرية في العمق"، وبالتالي فإنه ينبغي الاستفادة منها واستغلالها بهدف التوصل أقله الى تفاهم مبدئي يتناول أسس التسوية ومستلزماتها السياسية والأمنية، وحتى الاقتصادية المستقبلية. وفي المقابل، فإن الأطراف نفسها أصبحت متفقة أيضاً على ان "من شأن تفويت هذه الفرصة ان يؤدي ربما الى ضياع احتمالات التسوية برمتها، أو أقله تأجيلها حتى إشعار آخر" في صورة قد ينتج عنها بروز احتمالات مضادة يصعب على الجميع التحكم بمسارها وعواقبها، ناهيك عن عدم رغبة أي من الأطراف أو استعداده للظهور في مظهر الرافض أو المعرقل للسلام الشامل في المنطقة، ومن ثم تحمل التبعات السياسية الباهظة التي لا بد وان تترتب على موقف سلبي كهذا. مسار التقدم وفيما شكلت "نقطة الانطلاق" المشتركة هذه الركيزة التي استندت اليها الجهود التي أدت في النتيجة الى إعادة تحريك المفاوضات وإحياء الآمال بامكانات نجاحها، خصوصاً في أعقاب اغتيال رابين و"الآثار العميقة" التي خلفها ذلك الحدث لدى الجانبين السوري والاسرائيلي على حد سواء، حسب تعبير مصدر ديبلوماسي غربي رفيع المستوى صادف ان اجتمع خلال الفترة التي تلت مقتل رئيس الحكومة الاسرائيلية السابق بمسؤولين كبار في كل من دمشق وتل ابيب، فإن المصادر الديبلوماسية في واشنطن، وكذلك أوساط رسمية في عواصم عدة في أوروبا والشرق الأوسط، تتفق على تلخيص ما تحقق حتى الآن، وما لم يتحقق، بالآتي: - أدت "الجولة الاستكشافية" من المفاوضات التي أجراها الجانبان السوري والاسرائيلي بحضور الوسيط الاميركي في "واي بلانتايشن" خلال الأسبوع الأخير من كانون الأول ديسمبر الماضي الى "تكريس الاجواء الايجابية الجديدة" التي باتت تميز مسار المفاو ضات، و"تأكيد جدية الجانبين ورغبتهما في التوصل الى تسوية سريعة"، وذلك انطلاقاً من "الاقتناع بأن السلام يشكل مصلحة مشتركة للبلدين اذا ما تم على أسس عادلة ومتبادلة". وعلى هذا الاساس تصف المصادر تلك الجولة بأنها "نجحت في تحقيق هدفها اذ أنها وضعت المفاوضات في اطار جديد يختلف نوعياً عما سبقه منذ بدء العملية السلمية قبل سنوات، وهو ما كان مطلوباً منها أصلاً". شكلت الجولة الأولى "تمهيداً ملائماً جداً" للجولة الثانية التي تلتها، والتي اتفقت المصادر السورية والاسرائيلية على السواء على وصفها ب "الحاسمة"، اذ بدأ الجانبان فيها ببحث "القضايا الجوهرية" المتعلقة بالانسحاب وترتيبات الأمن ومفاهيم السلام والية التسوية، وتبادل وجهات النظر والمواقف في شأنها، ريثما يقوم الجانب الاميركي بتجميع هذه الوجهات والمواقف وغربلتها ومحاولة التوصل الى قواسم مشتركة مقبولة لدى الجانبين فيها. - سيتولى وزير الخارجية الاميركي وارن كريستوفر ومنسق عملية السلام دنيس روس ومساعدوهما مهمة عرض خلاصة الموقف المتجمع لدى واشنطن نتيجة مفاوضات "واي بلانتايشن" على المسؤولين السوريين والاسرائيليين خلال الجولة التي سيقوم بها الوزير الاميركي في المنطقة هذا الأسبوع. ولم تتردد مصادر ديبلوماسية غربية في وصف هذه الجولة بأنها "فاصلة"، وفي القول بأن من شأن النتائج التي ستسفر عنها ان "توضح ما إذا كانت العملية السلمية بين سورية واسرائيل مرشحة للاستمرار بجدية، أو الدخول مجدداً في مرحلة تجميد قد تمتد الى ما بعد الانتخابات الاسرائيلية العامة والانتخابات الرئاسية الاميركية أواخر هذا العام". وتضيف المصادر ان نجاح الوزير كريستوفر سيعني "تحديد مرحلة أولى من المفاوضات الجوهرية بين الجانبين تهدف الى الاتفاق على الأولويات التي سيتم بحثها، والجدول الزمني الخاص بكل منها، على ان يلي ذلك على الأرجح الاتفاق على الارتقاء بمستوى المفاوضات سياسياً وأمنياً وتحويلها الى إطار دائم قد يكون مركزه واشنطن، أو ربما تم الاتفاق على موقع آخر لها في مكان ما أقرب الى المنطقة كإحدى العواصم أو المدن الأوروبية". كما ان المصادر لا تستبعد ان يصل مستوى هذه المفاوضات عندئذ الى وزيري خارجية البلدين على الصعيد السياسي ورئيسي أركان قواتهما المسلحة على الصعيد العسكري. أما في حال عدم تمكن الوزير كريستوفر من إحراز تقدم ملموس في جولته المنتظرة، فإن ثمة اجماعاً على ان "المسار السلمي بين دمشق وتل أبيب سيكون مرشحاً للعودة برمته عندئذ الى نقطة البداية"، الأمر الذي تصفه المصادر بأنه سيشكل "تطوراً بالغ الخطورة في المنطقة". ايجابيات أساسية لكن الأمر المهم واللافت ان المصادر تتفق للمرة الأولى منذ بدء المسار السوري - الاسرائيلي في العملية السلمية على ان "فرص النجاح باتت تفوق احتمالات الفشل، بعد ان ظلت تلك الفرص والاحتمالات متكافئة طوال السنوات الخمس الماضية". وهي تتحدث في هذا المجال عن عدد من "المؤشرات الاساسية" التي تدل على ذلك، وأهمها: - الحملة الايرانية المفاجئة على السياسة السورية والتي استخدمت فيها وسائل الاعلام الناطقة بلسان السلطات في طهران تعابير قاسية لم يسبق لايران ان لجأت إليها من قبل في حق دمشق، خصوصاً فيما يختص بعملية السلام والعلاقات السورية - الاميركية والتصور الاميركي لدور سورية الاقليمي في مرحلة ما بعد التسوية، وتزامن ذلك مع الاعلان عن تأجيل زيارة نائب الرئيس الايراني الدكتور حسن حبيبي التي كانت مقررة الى دمشق حتى موعد آخر لم يحدد. وتقول أوساط سياسية مطلعة على الشأن الايراني ان "طهران لم تكن لتدخل وطيس مواجهة اعلامية مكشوفة كهذه مع حليفتها دمشق لو لم يكن لديها ما يكفي من معطيات تشير الى مدى الجدية التي باتت تتسم فيها احتمالات نجاح التسوية بين سورية واسرائيل، والانعكاسات التي قد تنشأ عن ذلك على صعيد السياسة السورية ودورها لا على صعيد الصراع العربي - الاسرائيلي فحسب، بل وعلى مستوى المنطقة ككل". وتضيف هذه الأوساط ان "رد فعل طهران وبطابعه المتشنج يعكس قلقاً شديداً يتجاوز في اعتباراته التسوية في حد ذاتها، وموقع ايران ونفوذها في لبنان، ليصل الى ما هو أبعد من ذلك. اذ أن القيادة الايرانية باتت تخشى فعلاً نشوء وضع اقليمي جديد لا تستطيع التأثير عليه أو التلاعب بمجرياته نتيجة انعزالها عن آخر الحلفاء المتبقين لها في المنطقة، أي سورية بالذات. وهذا أمر سيترك انعكاسات على السياسة الايرانية ومصالحها في مواقع حيوية بالغة الأهمية بالنسبة الىها لا سيما في الخليج، وايضاً في ما يتعلق بمستقبل الوضع في العراق حيث يبدو ان هناك تفهماً أميركيا واضحاً لاعتبارات السياسة السورية ومصالحها الاستراتيجية هناك". - اشتمال المفاوضات التي دارت في "واي بلانتايشن" والأحاديث الرسمية التي أدلى بها الجانبان السوري والاسرائيلي خلالها وفي أعقابها للمرة الأولى على المواضيع المتعلقة بمستقبل التعاون الثنائي بين البلدين والمياه والمصالح الاقتصادية المتبادلة، بل وحتى الحديث عن "المشاريع المشتركة" التي سيكون ممكناً الدخول فيها بعد التوصل الى السلام بينهما، وهو ما وصفته المصادر بپ"أمر فريد من نوعه بالنسبة الى البلدين ويعكس من دون شك النقلة النوعية التي أصبحت تميز المرحلة الحالية من مفاوضاتهما على خلاف ما كان الأمر عليه بينهما حتى الآن". - الحلحلة الواضحة التي يبدو انه تم التوصل اليها فيما يختص بعقدة "الترتيبات الأمنية" التي كانت شكلت في الماضي عائقاً جوهرياً أمام امكانات احراز تقدم سياسي في المفاوضات. وتفيد المعلومات التي توافرت لپ"الوسط" في هذا الشأن ان "المساعي الاميركية التي بذلت خلال الاسابيع الماضية نجحت في إقناع القيادة الاسرائيلية بالتخلي عن مطلبها القديم الذي كان يصر عليه رئيس الحكومة السابق اسحق رابين، وهو الاحتفاظ بمحطات انذار أرضية على الجانب السوري من حدود ما بعد الانسحاب الاسرائيلي من الجولان". واستناداً الى هذه المعلومات، فإن الاميركيين باتوا يفضلون الآن استخدام تعبير "التعويضات الأمنية" التي ستحصل عليها اسرائيل في مقابل انسحابها، عوضاً عن "الترتيبات الأمنية"، وذلك للدلالة على "ما عرضت الولاياتالمتحدة على الدولة العبرية تزويدها به من أنظمة دفاعية واستراتيجية رادعة تغنيها عن الحاجة الى محطات إنذار أرضية كانت دمشق ترفض حتى مجرد البحث بها". وستشتمل هذه الانظمة، التي سيقوم وزير الدفاع الاميركي ويليام بيري ببحث تفاصيلها مع المسؤولين السياسيين والعسكريين الاسرائيليين خلال جولته الحالية في المنطقة، على طائرات رصد واستطلاع وإنذار استراتيجية متطورة من طراز "ج - ستارز" التي استخدمتها القوات الاميركية في رصد التحركات العسكرية العراقية خلال حرب الخليج، وهي تعد الأكثر تطوراً على الاطلاق في الترسانة الاميركية، وصواريخ جوالة كروز بعيدة المدى من طراز "توماهوك" يصل مداها الى 2500 كلم، ما يتيح لاسرائيل قدرة هجومية نووية أو تقليدية رادعة ضد أهداف في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط، والمزيد من الطائرات المقاتلة القاذفة من طراز "اف - 15 اي سترايك ايغل" الهجومية البعيدة المدى، الى جانب توفير احداثيات الأقمار الاصطناعية الاستطلاعية الاميركية العاملة في أجواء المنطقة للقيادة العسكرية الاسرائيلية في صورة دورية دائمة ومتفق عليها، وصولاً ربما الى التوقيع على معاهدة تعاون استراتيجي وأمني ستكون أول حلف دفاعي رسمي يتم انشاؤه بين الولاياتالمتحدة واسرائيل منذ قيامها. وتقول مصادر "الوسط" ان مثل هذه "المغريات الاستراتيجية الاميركية كانت كافية لإزالة الحجة الاسرائيلية بالمطالبة بمحطات الإنذار الارضية، وكانت كفيلة بالتالي في إزاحة اللغم الذي كاد ان يهدد بنسف المفاوضات من أساسها نتيجة الرفض السوري المطلق لتلك المحطات في حال إصرار اسرائيل عليها". - الإقرار الاسرائيلي الضمني والعلني أحياناً بالمصالح السورية الاستراتيجية والأمنية الحيوية في لبنان، والاعراب عن "عدم معارضة أي دور سوري متميز" هناك، شريطة ان يكون ذلك مقروناً بما تصفه المصادر بپ"ضمانات أمنية وسياسية سورية تكفل أمن حدود اسرائيل الشمالية في حال انسحاب القوات الاسرائيلية من الشريط الذي تحتله في جنوبلبنان". العودة الى "الثوابت" وأمام هذه المعطيات الايجابية المهمة، يبدو واضحاً الآن ان الأمور عادت لتستقر على الحاجة الى بت المسألة التي تفضل دمشق دائماً تسميتها "الثوابت"، أي "الانسحاب الاسرائيلي الكامل والشامل من الجولان في مقابل السلام الكامل والشامل معها". وهنا بالذات سيكون محور المفاوضات الجوهرية المرتقبة. فالمصادر السورية الرسمية لا تزال تؤكد على ان "لا أهمية على الاطلاق لأي تصريحات يطلقها المسؤولون الاسرائيليون حول استعدادهم للانسحاب طالما ظلت تلك التصريحات في اطار الكلام الاعلامي وخارج نطاق المفاوضات الرسمية". وتشدد هذه المصادر تالياً على ان "أي حديث اسرائيلي ذي مغزى في هذا المجال يجب ان يكون واقعياً ومثبتاً على جدول المفاوضات وفي محاضرها"، مؤكدة في الوقت نفسه على ان "لا تنازل عن ضرورة انسحاب اسرائيل حتى حدود الرابع من حزيران يونيو 1967". وفي مقابل هذه "الثوابت" السورية، يبرز الموقف الاسرائيلي الذي يصرّ على "ضرورة تحديد دمشق رسمياً وتفصيلياً لمفهومها المتعلق بالسلام الكامل والشامل، والبنود العملية التي سيشتمل عليها هذا السلام - أمن، حدود مفتوحة، انسحابات متبادلة، علاقات ديبلوماسية، فتح سفارات، خطوط جوية، تبادل زيارات... الخ - قبل ان يصبح في الامكان إصدار أي التزام اسرائيلي رسمي حول خطوط الانسحاب ومداه". كما يبرز في الوقت نفسه فارق جوهري بين المفهوم السوري للانسحاب الكامل، أي الى حدود 4 حزيران يونيو 1967 التي تعني عودة سورية الى ضفاف بحيرة طبرية ومنابع نهر الأردن عملياً، وبين المفهوم الاسرائيلي الذي يتحدث عن "الانسحاب حتى الحدود الدولية"، أي حسب الخطوط المرسومة في أعقاب الحرب العالمية الأولى، ما يعني الانسحاب من حوالي 98 في المئة من الأراضي التي تعتبرها دمشق رسمياً "أراضي سورية تحتلها اسرائيل منذ حرب 1967". هل سيكون ممكناً التوفيق بين الموقفين السوري والاسرائيلي في شأن هذه "الثوابت" لتصبح الطريق مفتوحة نحو توصل الجانبين الى التسوية المنشودة، وليكون عام 1996 عندئذ "عام السلام" على حد تعبير المصادر السورية؟ لعل الإجابة على هذا السؤال ستكون ممكنة بعد جولة الوزير كريستوفر وفي ضوء ما ستكشف عنه الخطوات الحاسمة التي ستشهدها الأسابيع المقبلة. فإما الفشل والتأجيل حتى إشعار آخر، وإما ان يصبح في الامكان القول من دون مبالغة ان السلام الشامل في المنطقة بات فعلاً على الأبواب.