الفيشاوي مقهى في القاهرة يتوسط حي الجمالية ويجاور جامع الأزهر الشريف ومسجد الحسين والحي التجاري "خان الخليلي". وللفيشاوي ذكريات جميلة في وجدان الفنانين والمثقفين من جيلنا، وله أثر في حياتنا. وفي أحد برامجه، طلب مني تلفزيون القاهرة أن اختار مكاناً أريد أن أتحدث فيه، وأتحدث عنه للمشاهدين خلال احدى السهرات، فاخترت مقهى الفيشاوي. ركبت سيارتي وسرت كالدليل أمام سيارة مقدمة البرنامج، ثم سيارة التلفزيون، إلى رحاب الحي العتيق. وكما يعرف القراء، فذلك الحي يمثل القاهرة كما بناها المعز لدين الله الفاطمي عام 969، شمال مدينة الفسطاط التي كان عمرو بن العاص بناها قبل القاهرة بأكثر من ثلاثمئة سنة، وتعرف اليوم باسم "مصر القديمة". في مقهى الفيشاوي جلسنا نشرب الشاي، المخرجة والمقدمة والمعدة. لاحظ نسبة النساء في العمل التلفزيوني اليوم، وتذكّر - إن كنت في مثل سني - اليوم الاول الذي استمعنا فيه الى نشرة الأخبار ونحن طلبة، بالصوت العذب والمنطق السليم للمذيعة الاولى في اذاعة القاهرة السيدة صفية المهندس. وبينما المصورون يثبتون كاميراتهم في مواضعها، كان الفيشاوي صاحب المقهى الشاب يسألنا: من أنتم؟. فلما قالت له المخرجة من نحن، تفضل علينا بأخبار كثيرة، منها ان التلفزيون الالماني والانكليزي والفرنسي صوروا افلاماً في المقهى أول الصيف. وأخبرنا أن التلفزيون الالماني يصور فيلما عن نجيب محفوظ وأن الأخير أتى إلى المقهى وطلب الشيشة، ولكنه تظاهر فقط بتدخينها "مثل الاستاذ" وأشار اليّ... وكنت استكملت الصورة بالشيشة التي أعرف أني لن أدخنها، مفكّراً في سرّي أنني كالممثلين، ربما شربوا الكوكاكولا وهم يتظاهرون في السينما بشرب الكونياك الفرنسي الغالي، او يدخنون السجائر فلا يبتلعون الدخان لانهم من غير المدخنين في الواقع. تلفت حولي وتمنيت لو عادت إلى بصري وسمعي تلك الصور القديمة التي اتحدث عنها للكاميرا وفي النفس منها بعض من اعز الذكريات. في تلك الناحية كان يحب أن يجلس الشاعر الكبير كامل الشناوي، في وقت متأخر من الليل وبعد نهاية يوم عمله الذي يمتد الى ما بعد منتصف الليل. وكان من جلسائه في العادة بيرم التونسي وأحمد رامي والشاعر المنسي اليوم مصطفى حمام. والحديث عادة عن الشعر وعن أخبار سقوط وتعيين الوزارات. ومع تغيّر الأحوال ومرور الزمن أواخر الخمسينات، انضم إلى مائدة كامل الشناوي أحمد بهاء الدين - وكان اول من ينهي سهرته ويذهب الى بيته - ومحمود السعدني وأنيس منصور وكمال الملاخ وفتحي غانم وسعيد سنبل ويوسف الشريف والعبد لله... وتغير الحديث تماشياً مع الزمان والظروف من السياسة الى الادب ومن الشعر القديم الى الادب الحديث والأغنية الجديدة. وكان لحمدي غيث ناحية يحب ان يجالس فيها تلاميذه، ولم يكن آنذاك نقيب الممثلين كما هو اليوم، وانما كان رئيس اتحاد خريجي معهد التمثيل الذي انشأه زكي طليمات في الاربعينات. وكان قادماً من بعثة دراسية في باريس، تتحلّق حوله شلة من طلبته الذين يحبون حديثه عن الفن في مصر وفي فرنسا، ويشاركونه الامل في نهضة مسرحية يحققها الشباب. ومن بين تلاميذه كان عبدالله غيث وكرم مطاوع ومحمد الدفراوي وعبدالعزيز غنيم، ومن بين زملائه عبدالرحيم الزرقاني ومحمود عزمي... وكنت انضم اليهم أيضاً من حبي للمسرح وحديث المسرح. وفي تلك الناحية كان ركن الشعراء المجددين، ويتصدره صلاح عبدالصبور ومعه محمد الفيتوري وأحمد عبدالمعطي حجازي. ولم يكن يفوتني الالتحاق بهم وادعاء المواطنة في مملكتهم. ولكن الركن المخيف والمهيب، كان يضم النقاد والصحافيين المنشقين والمتمردين على حال الشعر والفن والصحافة. ومنهم محمد عودة ولطفي الخولي وكامل زهيري... وكان صخبهم وكانت آراؤهم القاطعة وسياق حديثهم الكثير الاشواك والمرصع بعبارات من أدبيات اليسار، يجذبنا كما يجذب الضوء الفراشات. وكانت تستهوينا دعوتهم إلى التجديد، وتزعجنا مطالبتهم بوضع قيود على الفن والتزام ما يلزم حيناً، وما لا يلزم احيانا. ولكن لندع المثقفين وثرثرة الليل في الفيشاوي، ونجول بنظرنا في الأشياء التي علّقها المعلم والحاج الفيشاوي في سقف مقهاه، من تماسيح محنطة ومصابيح أثرية من الفن الاسلامي تتآكل من الصدأ... لنتوقّف قليلاً عند المرايا الكبيرة المعلّقة على الجدران. وعند المدخل تطالع الزائر تلك الكنبة المغطاة بالسجاد، تعلوها صورة الحاج الفيشاوي في شبابه الباكر وهو فوق الفرس الابيض... وفوق الكنبة يرقد صاحياً الحاج الفيشاوي العجوز، يرمي عليه الزبائن وهم داخلون السلام ويرده عليهم بصوت متهدج يغالب الشيخوخة. يمر علينا عم محمد بائع الكتب الضرير فإذا ناديته لتسأله "ماذا عندك اليوم؟"، حطّ حمله على الطاولة وراح يقدم لك كل كتاب بعنوانه: "ألف ليلة وليلة"، "أيام" لطه حسين، "سيرة عيسى بن هشام"، ديوان المتنبي، "بخلاء" الجاحظ، "المقامات"، و"سعد زغلول" للعقاد... ونحن نعجب كيف يميز الكتب وهو ضرير. الحي اليوم يملأه السياح الأجانب، فيما كان أيام زمان عامراً بالمثقفين وقد اضفى عليه الازهر عمقاً روحانياً دينياً، فانتشر فيه الدراويش وطلاب الازهر وباعة الكتب الدينية والادبية والتراثية. كما أن مقهى الفيشاوي كانت تحيط به خيرات الدنيا: أفضل باعة الفول والعسل والقشطة والكباب والنيفة والفطائر الحلوة والجبن الدمياطي. فأي حديث لا يطيب للمرء، في ذلك الجو الحافل بالملذات الحسية والروحية والفكرية؟ وكم هي غزيرة النقاشات والأفكار، الأحاديث والمعارف التي تدفّقت علينا من مقهى الفيشاوي ذلك الزمان، لتؤثر في حياتنا حتى هذه اللحظة... الأماكن كالناس، والأزمنة أيضاً، تتفاوت مقدرتها على التأثير، وقوة حضورها وفعاليتها. وهذا المقهى الصغير كان أثره كبيرا في جيلنا وربما بعده، وما زال يترك بصماته على الورق الذي نكتب عليه، ويلقي ظلّه على فننا الحديث وثقافتنا المعاصرة وهوانا الفكري والوجداني. فشكراً للتلفزيون الذي أعادني الى مكان استثنائي من معالم الزمن السعيد. * كاتب ومسرحي مصري