على مدى ثلاث حلقات نشرناها في الأسابيع السابقة، تجولنا مع الفنان عادل امام في طفولته ومسرحه وسينماه، وتلامسنا مع معاركه ومع اختياراته الفكرية والفنية، وهنا في الحلقة الرابعة والأخيرة نواصل السير مع "نجم النجوم" في مشوار حياته وعمله وفكره، هو الذي بات اليوم رمزاً وظاهرة اضافة الى كونه فنان مسرح وسينما تتبع الجماهير العربية أعماله من المحيط الى الخليج. هذه الجاهير التي يحصيها بالملايين هي التي يدافع عنها عادل امام، في أفلامه وفي مسرحه، ولكن كذلك في هذا الحوار الذي تعمدنا في بعض اجزائه ان يكون استفزازياً فيه من التحدي واستثارة المواقف ما فيه. وكما يرى القارئ كانت استجابة عادل امام للتحدي كبيرة. والنتيجة صورة جديدة غير معهودة لفنان مشاكس ومناضل نتصور دائماً اننا نعرف عنه كل شيء فإذا به في كل مرة يفاجئنا من جديد. عندما دخل عادل امام بخطواته السريعة وابتسامته العريضة، قاعة الاحتفال الرئيسية في مبنى الاوبرا، يوم الحفل الختامي لمهرجان السينما القومية، كانت مفاجأة للكثيرين، من الذين يعرفون عن عادل امام استنكافه عن حضور أي مهرجان وعدم رغبته في خوض أي منافسة من أي نوع كان. ومن هنا ساد الهمس بأن عادل لم يأت مصادفة، وادرك الكثيرون ان ثمة تكريماً ما في الأفق. وبالفعل ما ان بدأ الاعلان عن جوائز مسابقة السينما القومية، حتى بات من الواضح ان جائزة كبرى سوف تعطى لعادل امام. واعطيت له جائزة افضل ممثل عن دوره في فيلم "الارهابي". وعرضت ابتسامته أكثر فيما كان يندفع من الصالة حيث يجلس الى فوق خشبة المسرح حيث ينال براءة الجائزة. في العادة جرى العرف على ألا يتوجه الفائزون بأي خطاب أمام الحضور. غير انه كان من الواضح ان المناسبة "الامامية" هذه المرة خاصة، يشهد على هذا التصفيق الحاد الذي اندلع في الصالة واستمر برهات من الزمن ملفتة. ومن هنا وقف عادل في وسط المسرح واستأذن الحضور بالكلام بكل أدب وتهذيب وقد بانت على ملامحه امارات الجدية وقال: "عندما انتقدت الارهاب للمرة الأولى في واحد من أفلامي، حدث ان جرت محاولة لاغتيال مسؤول في الدولة، وحين وصلت ذات يوم الى البيت قالت لي زوجتي خائفة: ارجوك ألا يمكنك ألا تفعل هذا، من أجل أولادنا؟ كنت خائفاً مثلها بالطبع لكني كابرت واصررت على اكمال دوري في الفيلم. بعد ذلك جاء في فيلم ثان من النوع نفسه، وفيما كنت أحضر لتصويره جرت محاولة اغتيال مسؤول آخر في الدولة. فأتتني زوجتي مرة ثانية لتقول لي: ما بلاش يا عادل، بلاش هذا الفيلم من أجل أولادنا. أصررت وأنا ارتجف خوفاً بالطبع ثم ان فيلم "الارهاب والكباب"، وفي الأيام الأولى للتصوير، جرى اغتيال مثقف كبير، فإذا بزوجتي تأتي اليّ قائلة: ما بلاش يا عادل، بلاش الفيلم ده، من أجل اولادنا. فأصررت مرة أخرى. طبعاً تعرفون ان زوجتي سيدة وطنية وشجاعة، لكنها ام وزوجة وانسانة في نهاية الأمر. المهم، بعد ذلك حين اتفقت على تحقيق فيلم الارهابي، اغتال الارهابيون الطفلة شيماء. وحين وصلت الى البيت، جاءتني زوجتي كعادتها، لكنها في هذه المرة قالت لي: عادل، أرجوك، اصنع هذا الفيلم… من أجل اولادنا". انا واحد من الغلابة طبعاً، هذه الحكاية المؤثرة والمعبرة رواها عادل امام بطريقته المازحة بين الكوميديا والتراجيديا، بين الجد والمزاح، لكنها أتت في النهاية، وكما تلقاها الحضور، آية في التعبير عن انسانية الفنان ومسؤوليته في آن. بالنسبة الى عادل امام من المؤكد ان مسؤولية الفنان كبيرة، تجاه فنه، تجاه شعبه وجمهوره وتجاه زمنه. وهو ربما لهذا السبب كان ولا يزال يحب الرئيس الراحل جمال عبدالناصر. فالبنسبة اليه، وعلى رغم كل ما يمكن ان يقال عن عهد عبدالناصر، فإن الرجل نفسه كان فناناً، وكان يتحمل مسؤوليته كفنان أمام شعبه وأمام جمهوره وأمام زمنه وأمام العالم. ومن هنا يقول عادل بكل بساطة انه "من عشاق جمال عبدالناصر" وأنه أحبه لأنه كان نصير الغلابة "وأنا كنت واحداً من هؤلاء الغلابة". ويبدي عادل حزنه لأنه لم يقيض له ان يتعرف على عبدالناصر عن قرب، لكنه يستدرك قائلاً: "مهما يكن، فلقد اسعدني الحظ بلقائه، لكنه كان لقاء مصادفة. حدث ذلك في العام 1966، وكنت لا أزال في بداياتي واصبت بعض الشهرة بسبب الدور الذي لعبته في مسرحية "انا وهو وهي" مع فؤاد المهندس. وكنت كعادتي في تلك الأيام، انتهز أية ساعة فراغ تتاح لي حتى أخرج الى الشارع فأتمشى لأرى ما إذا كان الناس في الطريق سوف يعرفونني. وذات يوم كنت أتمشى وأكاد أيأس بسبب قلة عدد الذين تعرفوا عليّ، حين مرت بالقرب مني سيارة فيها شخصان ما ان رأياني حتى مدا يديهما بالسلام. فرحت، وقلت وأخيراً تعرف عليّ أحد. ولكن ما ان عبرتني السيارة حتى ادركت ان راكبيها انما هما جمال عبدالناصر وعبدالحكيم عامر. فوقفت دامع العينين، صامتاً من فرحتي". غير ان عادل امام اذ يستعيد ذكرى لقائه العابر ذاك مع الرئيس الراحل، يسارع الى التنبيه بأنه يفضل ألا يتوقف عند لحظة التاريخ ويجمد عندها. ويضيف: "اسمع، يا عزيزي، لعل واحداً من أكبر عيوبنا، نحن العرب، هو تعاملنا مع التاريخ وكأنه لم ينقض، وتعاملنا مع ذكرى ابطالنا وكأنهم عائدون الينا ذات يوم. ولعلك لاحظت انني اركز على هذا الأمر في مسرحية "الزعيم" وخصوصاً في المشهد الختامي حيث ادعو الشعب الى نبذ فكرة انتظار عودة البطل، واستبدال ذلك بالاعتماد على الذات. وانني واثق ان اهم ما علمتني اياه قراءتي للتاريخ هي ان الأبطال لا يأتون لكي يحلوا لنا مشاكلنا، بل لكي يكونوا لنا قدوة في حلها. اما الحل فعلينا نحن ان نقوم به ونبتكره. ومن هنا أقول لك بأن اسوأ ما حدث في سنوات العصر الذهبي في الخمسينات والستينات، هي اننا اتكلنا على عبدالناصر وسلمناه كل زمامنا وطلبنا منه كل الحلول، في الوقت الذي كان يجب علينا فيه ان نسانده ونساعده ونعمل معه جنباً الى جنب. مشكلتنا أننا نضع كل أمالنا في ابطالنا، ناسين انهم بشر مثلنا يعملون ويخطئون ويموتون ذات يوم. مشكلتنا اننا اعتقدنا ان عبدالناصر باق معنا الى الأبد، ومن هنا اعتبر كثيرون من ان موت عبدالناصر كان نهاية تاريخنا". من تعني حين تقول "كثيرون منا" و"اعتقدنا"؟ - اعني الجمهور بشكل عام. ولكن اعني كذلك المثقفين. وخاصة ذلك النوع من المثقفين الذين لا يثقون بالناس وبالجمهور. فلا يكفون عن التحدث عما يسمونه الاسفاف والتخلف وما الى ذلك. اذن انت لا تعتقد ان هناك اسفافاً ما… - اسفاف أيه يا ابراهيم؟ ان المثقفين الذين يتحدثون عن الاسفاف انما يعبرون بذلك عن كراهيتهم للناس وللشعوب… طيب انت كمثقف، ألا يحدث لك ان تلقي نظرة نقدية على عدد كبير من افلامك، منها ما حقق نجاحات جماهيرية كبيرة، لكن المرء يمكنه ان يكتشف بكل بساطة انه… لنقل، ضعيف من الناحية الفنية؟ - افهمك، الكلمة التي تخطر في بالك ليس "ضعيف من الناحية الفنية" بل "منحط فنياً"… وهنا اخالفك تماماً، ليس هناك شيء يحبه الجمهور العريض ويمكن ان يكون منحطاً فنياً. الجمهور لا يخطئ. الاسفاف والانحطاط هما في صفوف المثقفين المنفصلين عن الشعب كلياً. لقد قرأت مقالات عديدة تهاجم فيلمي الأخير "بخيت وعديلة" فقل لي بربك: اذا كان الفيلم رديئاً الى هذا الحد لماذا يتدافع الملايين لمشاهدته. هل يمكن لهذه الملايين التي أحبت الفيلم في لبنان ومصر وفي غير لبنان ومصر ان تكون على خطأ؟ طيب… ما هو تفسيرك لهذا التناقض بين موقف المثقفين وموقف الجمهور؟ - لست أدري. دي مسألة جديرة بالدراسة. اشعر انه ما دامت هناك سلطة وفلوس، ستظل هناك طبقة مثقفين طفيلية تستخدم أي كلام. على العموم، أنا لا افهم كل المثقفين. لا أحب العموميات". على فكرة، ألا تعتبر نفسك مثقفاً أنت الآخر؟ - يضحك… على طريقتي طبعاً. الرئيس الراحل جمال عبدالناصر كان مثقفاً ايضاً، كان مثقفاً كبيراً. ومع هذا استمع الى خطاباته لترى كيف كان يثق بالشعب ويتحدث اليه بلغة البساطة والتفاهم. في القاهرة، يعرف الشعب البسيط ان عادل امام يمر بسيارته في شارع من الشوارع، من خلال الحراسة الدائمة المؤمنة له. فهذا الفنان الشعبي المندفع يعتبر واحداً من المحكوم عليهم بالاعدام من قبل بعض الجماعات المتطرفة. غير ان عادل يقول دائماً انه يفضل ألا تكون معه حراسة ولا يحزنون، على رغم ان صراحته ولسانه الطليق لا يضمنان له هدوءه وسلامته. عادل، نلاحظ ان لديك قدراً كبيراً من الجرأة. في افلامك نراك تهاجم المتطرفين بقسوة قلما نجدها عند أي فنان آخر. وفي مسرحك تهاجم الفئات الطفيلية والسلطة الديكتاتورية، بكلام يصل الى حدود المباشرة المزعجة والمخيفة. فمن اين تأتيك هذه الجرأة؟ - اجبتك سابقاً على هذا السؤال واجيبك عليه مرة أخرى. وأحب ان تطرحه عليّ مرات ومرات لأنه يريحني ويعطيني بعض القوة: استمد جرأتي من الله تعالى، ومن الشعب، من انتمائي الى امة لا يمكن ان تجمع على خطأ كما كان الرسول ص يقول… انت تقول انك في فنك، اذا كانت هناك رسالة ما او دعوة ما، فإنها دعوة الى التبصر والوعي والديموقراطية. فهل تعتقد ان ثمة ديموقراطية في مصر الآن؟ - لو لم تكن هناك ديموقراطية، هل كان في وسعي ان اقدم مسرحية مثل "الزعيم". على اي حال انا اعتقد ان وجود الديموقراطية هو السبب الأساسي الذي يدفع ممولي التطرف الى تمويله. فهناك اطراف في هذا العالم لا تريد لمصر ان تعيش بسلام وديموقراطية، لأن وصول مصر الى تحقيق التوازن بين الحرية وسد احتياجات الناس، يشكل قدوة للوطن العربي ككل، وللعالم الثالث كله. وهناك اطراف يريدون ان يحولوا دون هذا مهما كلف الأمر. ومن هنا فانني اعتقد ان المعركة الاساسية معركة موجهة ضد الديموقراطية في مصر. وطالما ان المعركة شرسة والارهاب قوي يمكننا ان نفهم ان الديموقراطية حقيقة قائمة ويمكنها ان تزعج. على أي حال، ألا تلاحظ معي ان الارهاب ليس وقفاً علينا هنا في مصر، حيث نراه منتشراً شرقاً وغرباً، وأن الديكتاتورية ظاهرة أساسية من ظواهر العالم الثالث؟ لماذا نكره انفسنا؟ هل تعتقد ان ثمة، خارج مصر، آمالاً، في الوصول الى الديموقراطية في عالمنا العربي. أريد جواب الفنان الذي يرصد ردود فعل جمهوره، لا جواب العالم المنظرّ؟ - أنا فنان… فمن أين تريدني ان آتيك بجواب العالم المنظر؟ حسناً، سأقول لك ان وطننا العربي مليء بالتراث الحضاري والفكري المزدهر منذ قديم الزمن في الفكر والعلم والهندسة والفن. ووطننا العربي يملك مواد خام استراتيجية. وهو قادر على انتاج زراعات تكفي العالم كله. ولديه معادن وفوسفات وبترول وحديد وذهب. وهناك القوى البشرية الهائلة 300 مليون انسان. ومع ذلك ها نحن في تأخر متزايد. انه أمر لا استطيع له فهماً. ولم أجد جواباً عليه في أي بلد عربي من البلدان. الجواب الوحيد الذي وصلت اليه حتى الآن هو: غياب الديموقراطية. وكراهيتنا لانفسنا… لقد تجولت في عدد كبير من البلدان العربية، كما قلت أمام عرب مقيمين في الخارج. أين شعرت ان الجمهور يفهمك أكثر ومتجاوب معك بوعي وادراك؟ - الشعوب العربية لا تختلف عن بعضها البعض، فلا تحاول ان توقع بيني وبين الأمة العربية. يبدو انك مدسوس عليّ لهذه الغاية. يضحك اعجبتني عبارة قلتها في حديث سابق لك مع "الوسط" حين سألتك عما إذا كنت تريد ان تترشح لمجلس الشعب فقلت ان عندك برلمان هو أكبر من مجالس النواب كلها، هو برلمان الشعب… - طبعاً، ودي عايز كلام؟ انا حين اعرض فني فانني اعرضه على ملايين المتفرجين. بل وربما عشرات الملايين. ومع هذا انا ما عنديش حزب. حزبي هو جمهوري وفني. وأنا لست مستعداً للانضمام الى أي حزب لأني حتى لو وجدت ذات يوم حزباً التقي معه كلياً، من الناحية الفكرية، سيتوجب عليّ أن أكتفي بتنفيذ سياسته من دون أن يمكنني أي خروج عن خطه. وهو ما لا يمكنني أن استسيغه. انك تلاحظ طبعاً انني على خشبة المسرح اخرج عن الخط كما أشاء، أعبر كما أشاء، أتجاوب مع الجمهور كما أشاء، حزبي حزب الناس الكثيرين... هل تخيفك ثقة الناس بك؟ - لنقل ان ثقتهم هذه تقلقني وتجعلني في اضطراب دائم. انك تتحدث عن فنك وعن جمهورك بشكل يبدو معه في بعض الأحيان انك مولود من العدم، وان عادل إمام كان هو البداية في الفن وربما سيكون هو النهاية أيضاً... - أبداً... مش صحيح. ربما كانت نوعية الأسئلة هي التي تفرض علينا توجهاً معيناً، أما في الحقيقة فإنني اعتبر نفسي جزءاً من مسار فني عربي ومصري طويل، ولا اكتمك انني أشعر في كل لحظة بانتمائي إلى فنانين يملأون حياتنا من أيام يعقوب صنوع وجورج أبيض، حتى محمود المليجي واسماعيل ياسين وعبدالحليم حافظ. انني جزء من هذا التراث، تأثرت به وأجده دائماً يعيش في داخلي، وكل ما آمله هو أن يأتي من بعدي ومن بعد زملائي الذين يشاركوني فنون وهموم مرحلتنا الصعبة هذه، ان يأتي جيل يكمل المشوار، شرط أن يكون أكثر تطوراً منا، وأكثر وعياً... هل يمكن لابنك، مثلاً، أن يكون واحداً من أبناء هذا الجيل...؟ - سؤال يشغل بالي منذ فترة، اصارحك بأنني سوف اصاب بحيرة شديدة لو جاءني ابني يوماً ليقول لي إنه يريد أن يصبح فناناً. ألن توافقه على ذلك؟ - لست أدري. ربما لن اترحب كثيراً بالأمر... ولكنك تنظر نظرة ايجابية إلى مسارك الشخصي؟ - نظرة ايجابية... صحيح. ولكني انا ابن ظروف وعصر مختلفين عن ظروف عصرنا الحالي هذا. ومن المؤسف ان الحياة الفنية تبدو أصعب وأكثر تعقيداً، وفي أيامنا كنا نوافق القدر الذي يجعل مسيرتنا بطيئة، فننتظر سنوات قبل أن يوضع اسمنا على الأفيش. وسنوات قبل أن نعطى دوراً يؤكد ويبرز امكاناتنا. كما نرضى بهذه القسمة. وكان الواحد منا يعتبر فترة الانتظار فترة صالحة للاشتغال على الذات والقراءة. كنا نشعر أن أمامنا وقتاً طويلاً لن ينتهي أبداً. ومن هنا كان الفنان يأخذ كل وقته حتى يتكون ويصبح فناناً حقيقياً. أما الآن فكل الناس يبدون مستعجلين، فإن لم تأت الشهرة والنجاح بين ليلة وضحاها، تباً للفن وللناس وللجمهور... وهنا يصمت عادل كأنه يفكر ملياً في ما قاله، ثم قبل أن أبادر بطرح سؤال جديد، سؤال أخير يقول كما لو انه يخاطب نفسه وهو ينظر إلى آلة التسجيل: - الثقافة يا عزيزي ليست التعالي على الجمهور واحتقار الناس. سأروي لك قصة اعتقد أنها ذات معنى مهم. مرة كان صديقي هادي الجيار يشتغل معنا في مسرحية "مدرسة المشاغبين"، وذات يوم طلع على التلفزيون في مقابلة أجريت معه، فكان كلما طرح عليه مقدم البرنامج سؤالاً، يروح فاقعاً كلاماً من كلام المثقفين اياه... كلاماً كبيراً مليئاً بالايديولوجيا والعبارات الطنانة، من نوع "انما" و"حينما" وكل تلك العبارات التي لا يفهمها أحد. بعده، كانت هناك بالمصادفة مقابلة مع استاذنا نجيب محفوظ، فإذا بالرجل يتكلم بكل بساطة، ويجيب على الأسئلة بهدوء وروية بكلام يفهمه الناس جميعاً، بكلام عميق وهادئ. في اليوم التالي التقيت هادي الجيار، فقلت له: ايه يا هادي، انت ليه متحذلق قوي. انت، على الشاشة، تتكلم مع ناس طيبين وطبيعيين وعاديين فليه كده، من فين جبت كل العبارات الكبيرة الطنانة دي؟ فذهل هادي ونظر إليّ ساهماً وقال: مش فاهمك؟ قلت له: ألم ترَ كيف كان نجيب محفوظ يتكلم؟ فقال: آه... ايوه صحيح. انا كنت بتكلم كده ليه؟ عزيزي، ده واقع المثقف العربي. المثقف العربي، في النهاية انسان طيب ينتمي إلى هذا الشعب. فقط هو يعقد الأمور لاعتقاده أنه كلما تعقدت الأمور كلما بدا أمام الآخرين أكثر تميزاً. مرة حين كنت عضواً في حزب شيوعي، حدث ان وزعت علينا اسماؤنا الحركية. فزعلت أنا قوي... ليه؟ لأنهم اختاروا لي اسم عادل وهو اسمي. كنت اريد اسماً غريباً غامضاً وسرياً فإذا بهم يعطونني اسمي. وهكذا هو المثقف العربي بشكل عام أنه يريد أن يدخل قالباً لا يود الخروج منه. انا في حياتي لم أكن أسير نظرية محددة. كنت اخطئ واخطئ ثم أصحح واصحح... من دون ثوابت... وصمت عادل إمام، كان واضحاً أنه يشعر بأنه قد قال كل ما كان يود أن يقوله وبقي أخيراً سؤال تقني أخير كان لا بد ان اطرحه عليه: عادل... مسرحيتك "الزعيم" هل ستعرضونها في بلدان عربية أخرى خارج مصر؟ وصمت، ونظر بعينين ماكرتين، كان من الواضح أنه يقول في ذهنه، لو كان في الامكان عرض "الزعيم" في البلدان العربية، لكان وطننا العربي بألف خير. غير أنه لم يقل هذا بل أجاب جواباً أتى تقنياً بدوره: - لا اعتقد، ان كلفة نقل الديكور والممثلين والفنيين كبيرة. لذلك ربما سأكتفي بعرضها في مصر. فليأت العرب للتفرج عليها هنا. انني، بعد كل شيء، اريد ان اشجع السياحة في مصر. واستغرق في ضحكة مجلجلة.