النقطة المركزية التي يشدّد عليها مراراً القيادي الفلسطيني فيصل الحسيني، عضو السلطة الوطنية الفلسطينية المسؤول عن شؤون القدس، هذه الأيام، ضرورة العمل من الداخل، وفي الداخل، لتحسين أوضاع السلطة الفلسطينية، وتمكينها من القيام بمهماتها ومواجهة أعباء الوضع في الأراضي الفلسطينية، بدلاً من الاكتفاء بتوجيه الانتقادات، واسداء النصائح، وابداء الملاحظات "من بعيد"، على حدّ تعبيره. "ادخلوا بطن الحصان" يقول الحسيني في نداء يوجهه الى الفاعليات الفلسطينية التي فضلّت، حتى الآن على الأقل، البقاء في الخارج، وتجنب خوض التجربة التي يمر فيها الفلسطينيون حالياً، في سعيهم الى ارساء أسس ادارتهم الذاتية، وسلطتهم الوطنية، تمهيداً لبلوغ هدفهم النهائي: اقامة دولتهم المستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة. و"الحصان" الذي يقصده فيصل الحسيني هو اطار السلطة المتمثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية وقيادتها الحالية التي شبهها في حديثه الى "الوسط" بپ"حصان طروادة"، اذ يقول انه لو لم تكن اسرائيل مقتنعة بأن منظمة التحرير أضحت أشبه بحصان طروادة فارغ من الداخل لما قبلت يوماً ادخالها الأراضي المحتلة. والآن بات يتعين على الفلسطينيين ملء هذا الفراغ وتعبئته حتى لا تتحقق هذه الرغبة الاسرائيلية الدفينة. لا يتردد الحسيني في توجيه الانتقاد الى طريقة عمل السلطة الفلسطينية وأدائها، ويشمل بانتقاداته الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات. لا يحاول الحسيني "تبرير" نقاط القصور في أداء السلطة الفلسطينية منذ قيامها حتى الآن، لكنه يبذل الكثير من الجهد في شرح ذلك القصور وتفسيره ووضعه في حجمه السليم. ويتوسع في هذا السياق، فيورد العديد من الأمثلة والتفاصيل، لكن نقطته الأساسية تبقى ان "على الجميع ان يتذكروا ان الفلسطينيين يبدأون الآن من نقطة الصفر، بل ربما دون الصفر". هذه القضايا وغيرها كانت محاور مقابلة شاملة اجرتها "الوسط" مع الحسيني. فيما يأتي نصها: السلطة والانتقادات الانتقادات الكثيرة التي توجه الى السلطة الفلسطينية، والى تجربتها في ادارة مناطق الحكم الذاتي، وما يحكى عن إنفصام بين فلسطينيي الداخل والخارج، أين تقف منها؟ - دعني أبدأ أولاً بالحديث عن هذه القضية التي تظهر بين الحين والآخر، اي قضية فلسطينيي الداخل والخارج. في اعتقادي الجازم ليس هناك انفصام، او خلاف، او قطيعة بين الداخل والخارج، بل ربما علينا ان نعيد تحديد ما نقصده بالداخل وبالخارج. هناك العديد من الفلسطينيين في الداخل يفكرون ويتصرفون كفلسطينيي الخارج، والعكس ايضاً صحيح. المسألة الحقيقية في نظري ليست جغرافية بل نفسية وسياسية، فهي بين الفلسطينيين المستعدين للعمل والكفاح داخل الأطر القائمة، من أجل تطويرها والارتقاء بها مهما كان ذلك صعباً، وبين أولئك الذين يفضلون الجلوس بعيداً والبقاء خارج اطار العملية ككل بمبرر هذه الحجة او تلك. اما عن نقاط التقصير، والانتقادات، والملاحظات، فأعتقد ان الكثير منها صحيح، ونابع حتماً من نيّة صادقة، وحسنة. لكن علينا ان نتذكر - أولاً - حجم الصعوبات، والعراقيل، والعوائق، ومحدودية الموارد المتوفرة. علينا ان نتذكر اننا تسلمنا وضعاً ادارياً واجتماعياً واقتصادياً صعباً في غزة وأريحا، حيث لم يكن يوجد شيء نبني عليه اطلاقاً. لم تكن هناك أي بنية أساسية. لا ادارة، ولا خدمات، ولا خطط… لا شيء. كان علينا منذ البداية ان نبني من الصفر. وبطبيعة الحال، عملية كهذه لا بدّ من ان تتعرض لأخطاء، وتأخير، ونكسات من هنا وهناك. لكنها مستمرة، وستستمر. فهناك وضع الأراضي المحتلة نفسها، وافتقار منظمة التحرير الفلسطينية الى الخبرات، وحاجتها الى اكتساب هذه الخبرات الادارية والتنظيمية بالتدريج، في مناخ يختلف كثيراً عما اعتادته في الماضي. وهناك العراقيل التي تضعها اسرائيل، والافتقار الى الدعم المالي والتقني. كل هذه عوامل يجب ان تؤخذ في الاعتبار عند تقويم التجربة حتى الآن، ليس بهدف تبرير القصور والأخطاء ولكن لتفسير الأمور، واستيعاب الدروس، والاستفادة منها. وهذا ما بدأ الآن يحصل تدريجياً. الفلسطينيون وحصان طروادة هناك من يقول ان كل هذه الملاحظات في محلها، إلا ان العامل الأساسي يتمثل في طريقة القيادة، والادارة، وأساليبها، خصوصاً من جانب الرئيس عرفات، وقيادة المنظمة عموماً. والانتقادات الحالية تنصبّ على هذا المجال بالذات… - اعتقد ان المسألة تتعلق اكثر بطبيعة الانتقادات والهدف من ورائها. انا لديّ انتقادات، وهي انتقادات شديدة ومتعددة لطريقة عمل السلطة الفلسطينية. لكني أشعر بأنني منتم الى هذه التجربة، ولذلك فإنني على استعداد لتحملها، وتحمل أعبائها، وأخطائها، ومضايقاتها، من أجل تعديلها وتحسينها مهما كلف الأمر. في حين ان شخصاً آخر قد لا يشعر بمثل هذا الانتماء، وبالتالي يأخذ في انتقاد التجربة دون ان يكلف نفسه عناء البحث عن البدائل او اقتراحها. من هنا، أوجّه نداء مباشراً الى اولئك الذين وضعوا انفسهم في الخارج، وأعني به الخارج النفسي والسياسي وليس الجغرافي، اي خارج الاطار وخارج التجربة: ادخلوا بطن الحصان. وهذا النداء ينطلق من قصة، هي قصة حصان طروادة. والحصان هنا هو تجربة السلطة الوطنية، ونحن الذين يتعين عليهم الدخول الى بطن الحصان، والعمل من خلاله، لا من خارجه. ودعني أقول شيئاً آخر: اسرائيل لم تكن لتقبل دخول حصان طروادة، أي منظمة التحرير، الى الأراضي المحتلة، لو لم تكن مقتنعة بأنه فارغ من الداخل، وبأن المنظمة لم يبق منها الا الشعار الخشبي الخاوي. وبالتالي، يجب علينا - نحن الفلسطينيين - ان نعمل الآن على تعبئة هذا الحصان، وافشال رغبة اسرائيل. لذلك نقول: ادخلوا بطن الحصان، ولنجعل من هذا الدخول بداية العمل لا نهاية الأمل. اما بالنسبة الى موضوع القيادة وأساليبها، فأقول ان ابو عمار ليس جديداً علينا، والقيادة الفلسطينية وأساليبها ليست جديدة علينا. نحن نعرف ابو عمار منذ 20 او 30 عاماً. ونعرف تماماً طريقته في ادارة الأمور، وحبّه للفردية في القيادة. ليس هناك أي شيء جديد في ذلك. لكننا نعرف، في المقابل، طريقة التعامل مع ابو عمار. وهي، ببساطة، انه يتعين علينا ان نكون الى جانبه، وأن نتعاون معه حتى نكون قادرين على التأثير فيه. وهذا ينطبق، في نظري، على كل قائد وزعيم: عندما تبتعد عنه يتجه طبيعياً الى الفردية والهيمنة، وعندما تقترب منه تصبح أكثر قدرة على اسماع صوتك، وابداء ملاحظاتك. وهذا بالضبط ما ينبغي على الفلسطينيين ان يفعلوه مع ابو عمار في هذه الظروف بالذات. لم يكن مفاجئاً لنا الكثير من التصرفات التي قام بها ابو عمار والقيادة. لكن ما فاجأنا اننا، رغم معرفتنا بصفات ابو عمار ورغبته في التصرف بفردية، نساعده في هذه الفردية، بأن نبتعد عنه ونتركه وحده. وعلينا ان نخوض التجربة، وأن نكون حول ابو عمار حتى يصبح بمستطاعنا التأثير عليه. والحقيقة انه علينا ان نقتنع بأن مشاكلنا الكبيرة بدأت الآن، وليس العكس. الآن بدأت مرحلة بناء الدولة، وهذا هو الجهاد الأصعب الذي يتطلب الشجاعة، والتحمل، والنّفس الطويل لاصلاح ما هو قائم. هل يحدث الاصلاح بالجلوس بعيداً؟ هل تُبنى الدولة بالطلب من العرب والعالم عدم مساعدة السلطة الوطنية وامدادها بالدعم المادي والتقني؟ عندما قامت دولة اسرائيل هبّ اليهود في كل مكان لمساعدتها، فأين العالم العربي ليساعد الدولة الفلسطينية الناشئة؟ وأين العالم أجمع؟ وقبل كل شيء، أين الفلسطينيون الذين بقوا يحلمون 50 عاماً بدولتهم؟ الآن أصبح مطلوباً وضع كل هذه الطاقات في سبيل بناء الدولة ومؤسساتها. المعارضة والانتخابات قد يكون كل ذلك صحيحاً بالنسبة الى الفلسطينيين الموافقين على عملية السلام من حيث المبدأ، ولكن ماذا بالنسبة الى المعارضة الرافضة لهذه العملية ولنتائجها، مثل حركة "حماس" وغيرها؟ - أنا أسألهم أولاً عن البديل. نحن لسنا ضد المعارضة، بل على العكس، ففي اعتقادي ان من الخطأ ان يكون كل الشعب - من أقصى اليمين الى اقصى اليسار - مؤيداً وموالياً. نحن نحتاج الى المعارضة لأننا مهما كنا على اقتناع بصحة ما نقوم به، فإن احتمال الخطأ يبقى وارداً، والحاجة الى التصحيح مطلوبة. وهذه وظيفة المعارضة. لكن يترتب على المعارضة في الوقت نفسه ان تقدم البديل، وأن تقترح الحلول، لا ان تكتفي بالانتقاد والرفض فحسب. اما إذا ارادوا نسف العملية كلها لمجرد النسف، فعندئذ يحق لنا ان نطالبهم بقدر من بعد النظر، والتمعن، بالمقاييس والموازين حتى يدركوا ما يقبل للتحقيق وما لا يقبله. والحمد لله اننا تجاوزنا مرحلة حرجة في العلاقات بين السلطة والمعارضة، ودرجة العنف الفلسطيني - الفلسطيني لم تتجاوز، في أي وقت من الأوقات الحد الأدنى. هناك مسألة رئيسية أخرى تتعلق بالتطبيق العملي، فكلما استطعنا ان نطبق على الأرض بنود الاتفاق، من توسيع لصلاحيات السلطة الوطنية ومناطقها، الى تطوير البنيات الأساسية، وتحسين ظروف المعيشة لشعبنا، أضحى بمستطاعنا ان نوفر أجواء تصبح فيها عملية الرفض والمعارضة عنصراً ديموقراطياً صحيحاً، يحفظ لنا وجداناً سليماً قادراً على سماع كل الآراء والتوجهات واستيعابها. اما في حال استمرار تعثر عملية السلام او فشلها، فمن الطبيعي عندئذ ان تكتسب المعارضة المناوئة لها قوّة وشرعية لها ما يبررها في نظر شعبنا. فتأييد عملية السلام او معارضتها يرتبط بأشكال مباشرة بمدى تمكن هذه العملية من بلوغ أهدافها، وتحقيق طموحاتنا الوطنية. وإذا كانت هذه العملية من جانب واحد، يريد فيها الفلسطينيون السلام، في حين ان الاسرائيليين لا يريدونه او يعملون على عرقلة الوصول اليه، عندئذ تصبح معارضة العملية ورفضها أمراً مشروعاً بل مطلوباً، اذ ان للصبر دائماً حدوداً. واعتقد ان الشعب الفلسطيني يعطي العملية والسلطة والقيادة فرصة ليحكم على مدى فاعليتها ونجاحها. وهذا هو حقيقة الاختبار الذي يتعين علينا النجاح فيه. ودعنا نقول ان الحوار الفلسطيني - الفلسطيني بين السلطة والمعارضة هو الذي أدى الى قيام الوضع الحالي الداعي الى اعطاء السلام فرصة للنجاح. وهل تعتقدون ان المعارضين سيشاركون في الانتخابات عند اجرائها؟ - اعتقد انهم سيشاركون في الانتخابات، سواء بصورة مباشرة او بأشكال غير مباشرة. لكن الأهم من ذلك انه عندما يتم الانسحاب الاسرائيلي، وتوسيع صلاحيات السلطة الوطنية ورقعتها، وعندما تتم الدعوة الى انتخابات حرة وديموقراطية، عندها لن يكون هناك أي مبرر لأي طرف لعدم المشاركة في تلك الانتخابات. ومتى تتوقعون ان يحدث ذلك كله؟ - اعتقد ان الأمور تسير في الاتجاه الصحيح، وعلينا ان نخوض المفاوضات مع الاسرائيليين مهما بلغ تعقيدها حتى نصل الى التطبيق الكامل للاتفاقات. قد نضطر احياناً الى التأجيل او التأخير، لكن عملية السلام لن تتوقف. وإذا لم يطبق الاسرائيليون الاتفاقات فهذا سيعني نهاية العملية، ولا أعتقد اننا سنصل الى هذه المرحلة، بل أرى ان المسألة تتجه نحو أهدافها تدريجياً. الدولة المستقلة والقدس الهدف بنظركم الوصول الى الوضع النهائي للأراضي المحتلة، أي اقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على ان تكون القدس عاصمة لها. هل تعتقدون فعلاً ان هذا الهدف ممكن التحقق؟ - الحقيقة انا مقتنع فعلياً بأن المحرمات الاسرائيلية التي كانت تحيط بهذا الموضوع، ولا سيما بالنسبة الى القدس، سقطت ولم تعد كما كانت موجودة في السابق. لا أعني بذلك ان المسألة حسمت، لكنني اعتقد ان الاسرائيليين باتوا يدركون ان الحل النهائي للصراع لا يمكن ان يتم إلا من خلال اقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، ومن خلال الاتفاق على صيغة ما لمستقبل مدينة القدس تكون كفيلة بارضاء الطرفين. وربما كانت هذه الصيغة على أساس مبدأ السيادة المزدوجة في اطار مدينة موحّدة، بأن تكون القدس الغربية عاصمة لاسرائيل والقدسالشرقية عاصمة لفلسطين. فعلى رغم جميع محاولات التهويد والضم، لا تزال القدسالشرقية مدينة عربية، واسرائيل تدرك هذا جيداً. علينا ان نعمل من أجل الوصول الى ذلك، وهو أمر سيتطلب الكثير والكثير من الجهد. يمكنني ان اقول ان المسألة ليست مسألة تفاؤل او تشاؤم، بل هي طريق صعبة وشاقة نسير عليها بكل ما فيها من ألغام وعوائق. لكننا ندرك نهايتها، ونستطيع رؤية وجهتنا. وما يتعين علينا ان نحرص عليه دائماً هو ان نضع اقدامنا في المكان المناسب، وأن نحافظ على اتجاهنا حتى نصل الى هدفنا. قد نسميّه تفاؤلاً، او اصراراً، او مزيجاً من الاثنين. لكننا نعرف الهدف ونراه أمامنا. وأنا مقتنع تماماً بأننا قادرون ومصممون على الوصول اليه.