وضعت قمة كامب ديفيد الثلاثية الفاشلة، مدينة القدس على جدول اعمال الدول والتكتلات الاقليمية والدولية. وصار مستقبل السيادة السياسية والدينية عليها، وعلى أماكنها المقدسة، موضع اهتمام شعبي وحزبي فلسطيني واسرائيلي واسع. وتحاول مراكز ابحاث ودراسات كثيرة ابتداع حلول لقضيتها المعقدة. ويرجح لهذا الاهتمام الدولي والاقليمي ان يتواصل ويتصاعد في الايام والاسابيع المقبلة، خصوصاً ان الادارة الاميركية تحاول، من جديد، تشغيل قطار السلام على المسار الفلسطيني بعد توقفه امام أسوار هذه المدينة المقدسة عند اتباع الديانات السماوية الثلاث، المسيحية والاسلامية واليهودية، ومصمّمة على ايصاله بكل السبل الى محطته النهائية قبل نهاية ولاية الرئيس بيل كلينتون اواخر هذا العام. الى ذلك، فتحت محادثات كامب ديفيد نافذة ضيّقة في جدار الموقف الاسرائيلي القديم بشأن حل مشكلة القدس الشائكة والمُعقّدة، وبيّنت انه قابل، في عهد حزب العمل، للحركة والتغيير ببطء، مثله مثل الموقف من الدولة الفلسطينية وقضايا اللاجئين والحدود والاستيطان، وكما تبدّل وتغيّر في اوسلو حين اعترفت اسرائيل بمنظمة التحرير، ثم انسحبت من "يهودا والسامره"، فقد تراجع باراك في كامب ديفيد عن المطالبة بسيادة اسرائيلية كاملة ومطلقة على المدينة بشقّيها الشرقي والغربي وبقائها عاصمة موحدة لاسرائيل وحدها. ووافق على اقتراح اميركي بتقسيم المدينة الى ثلاثة قطاعات: قطاع تحت السيادة الاسرائيلية، وقطاع تحت السيادة الفلسطينية، وقطاع ثالث يُوضع تحت السلطة الادارية للفلسطينيين. واقترح شلومو بن عامي "العلماني" نموذجاً خاصاً بالبلدة القديمة اطلق عليه "حكم خاص بالبلدة القديمة". وحسب اقتراحه يحصل الفلسطينيون داخل اسوارها على حقوق ادارية وحكم ذاتي، وتُطبّق ادارة دينية فلسطينية كاملة على الحرم القدسي يُطلق عليه اسم "سيادة دينية" او "سيادة على املاك الغائب"، بشرط بقاء القانون الاسرائيلي مطبّقاً في هذه المواقع. وطالب بن عامي رسمياً، للمرة الاولى، بأن يحصل الاسرائيليون على زاوية صلاة في المسجد الاقصى بالتنسيق مع الحاخامية اليهودية الرئيسية. وفي الليلة الاخيرة من كامب ديفيد حاول الرئيس كلينتون انقاذ القمة من الانهيار، وقدم في ساعة متقدمة من الليل ثلاثة خيارات لحل قضية القدس: الاول تأجيل حلّها لمدة تراوح من سنتين وحتى 25 سنة، والثاني سيادة فلسطينية على حيّين في البلدة القديمة وحكم ذاتي اداري في احياء خارج اسوارها، والثالث، ترتيب وضع معاكس، اي حكم ذاتي في البلدة القديمة وسيادة في الاحياء المحيطة بها. ولم يرفض باراك هذه الاقتراحات، واعتبر بعض اعضاء الوفدين الاسرائيلي والاميركي ان موقف باراك لم يسبق له مثيل. اما ابو عمار فقد رفض الاقتراحات الاميركية والاسرائيلية بقوة، لأنها تنتقص من حقوق الفلسطينيين والعرب والمسلمين والمسيحيين في المدينة المقدسة، التي أقرتها قرارات الشرعية الدولية واعتبرها الوفد الفلسطيني خطوة صغيرة في الاتجاه الصحيح، لكنها مُشوّهة وخطيرة جداً، خصوصاً لجهة الحديث عن تقاسم السيادة على ما فوق ارض الحرم القدسي الشريف وتحته، وتقسيمه، تحت شعار منح اليهود زاوية للصلاة، مثلما فعلوا في الحرم الابراهيمي في الخليل. وبصرف النظر عن النتائج البائسة لقمة كامب ديفيد، فإن تناولها موضوع القدس بهذا التفصيل شغل عدداً من دول المنطقة، وهزّ الاوضاع الفلسطينية والاسرائيلية الداخلية. وبات جميع القوى والاحزاب الدينية والعلمانية الاسرائيلية والفلسطينية، وعدد واسع من الاحزاب والحركات العربية المعارضة والمؤيدة لعملية السلام، يستخدم ما دار في كامب ديفيد في شأن حل قضية القدس، مادة للتعبئة الداخلية والتحريض ضد خصومهم واحراجهم، وفي بناء اشكال من التحالفات تساعدهم في تحقيق اهدافهم الوطنية والحزبية الخاصة. ومع ان باراك لم يظهر، حتى الآن، الاستعداد الحقيقي لحل مشكلة القدس وفقاً لقرارات الشرعية الدولية، ولم يتقدم على طريق الحل بمقدار يقرّبه من تخوم الموقف الفلسطيني، الا ان احزاب معسكر اليمين من شاس الى المفدال مروراً بليفي سارعت الى اتهامه بتقديم تنازلات خطيرة تمسّ المحرّمات الاسرائيلية. واغرقت الكنيست، بمشاريع حجب الثقة عن الحكومة، وطوّقتها بقوانين تقيّد حركتها في المفاوضات. وصوّتت الكنيست الاسرائيلية بغالبية بسيطة على قراءة اولى لمصلحة حلّ نفسها والتوجه الى انتخابات برلمانية مبكرة. ولم يقف الامر عند هذه الحدود، وتوالت عمليات الانسحاب من الائتلاف الحكومي، وبقيت حكومة باراك من دون غالبية، والواضح انها ستبقى في ما تبقى لها من عمر قصير عرضة لعدم الاستقرار. الى ذلك، تظهر متابعة مواقف الراعي الاميركي، وتحركات الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي، منذ كامب ديفيد وحتى الآن، تصميم الراعي الاميركي على التوصل الى اتفاق قبل الانتخابات الاميركية مطلع تشرين الثاني نوفمبر القادم، وانه يسخر نفوذه الاقليمي والدولي الواسع لتحقيقه. ويعتقد كلينتون واركانه ان ما طرحه الجانب الاسرائيلي في "الكامب" فتح نافذة تتسع لعبور قطار السلام زواريب القدس وحاراتها الداخلية والخارجية الضيّقة. ولا يتورعون عن ممارسة كل اشكال الضغط على الطرف الفلسطيني، وابتزازه لتسهيل حركته، وشراء حمولته بالثمن الذي يطلبه باراك. ويرفضون رؤية تدهور اوضاع حكومة باراك، وعدم قدرته على اتمام الصفقة، وعجزه عن تنفيذها في حال اتمامها. ومن دون خشية من التعرض لتهمة التسرّع، يمكن القول ليس عاقلاً من يتصور ان القيادة الفلسطينية وكل احزاب وهيئات منظمة التحرير الفلسطينية مستعدة، او بإمكانها، منفردة او مجتمعة، قبول المقترحات الاسرائيلية - الاميركية، والتنازل عن الحقوق الفلسطينية في هذه المدينة المقدسة، التي اقرتها قرارات الشرعية الدولية. لقد قيّد رئيس اللجنة التنفيذية للمنظمة نفسه بقيود فلسطينية، قبل وخلال كامب ديفيد، حين قال بصوت عالٍ: "ليس منا، وليس فينا، من يفرّط بتراب القدس"، وعلى الراعي الاميركي، اذا اراد لمساعيه ان تنجح، ان يرى ابعاد سعي ابو عمار الحثيث، لتقييد نفسه في اجتماعات لجنة القدس والمؤتمر الاسلامي ووزراء الخارجية العرب، بقيود عربية واسلامية اضافية. ولعل من المفيد لباراك واركان الادارة الاميركية ان يراجعوا عدد المرات التي تعطلت فيها عمليات البحث عن صنع السلام في المنطقة منذ عام 1967 وحتى الآن، بسبب قضية القدس. وبديهي القول ان قيادة منظمة التحرير الفلسطينية لن تقبل بحكم ذاتي في القدس رفضه الرئيس السادات في اتفاقات كامب ديفيد قبل اكثر من 20 سنة. وكتب في حينه رسالة "للشريك الاميركي"، قال فيها: "ان مصر تعتبر القدس العربية جزءاً من اراضي الضفة الغربيةالمحتلة، وان ما ينطبق على الضفة الغربية ينطبق على القدس". وردّ بيغن في رسالة مماثلة، قال فيها: "ان قرار الكنيست الاسرائيلي بتاريخ 28 حزيران يونيو 67 نصّ على ان القدس عاصمة لدولة اسرائيل وانها مدينة موحّدة وغير قابلة للتقسيم". وكان رد الرئيس الاميركي الاسبق كارتر على الرسالتين "ان موقف الولاياتالمتحدة الاميركية من مدينة القدس باق على ما هو ولا يعترف بضم القدس لاسرائيل". واذا كان لالزوم للاسترسال في الحديث عن تاريخ المنطقة وارتباطه بتاريخ القدس، فالمؤكد ان اضطراب وضع القدس ادى دوماً الى اضطراب في كل محيطها، وان استقرارها واستتباب اوضاعها كان يؤدي دوماً الى استتباب واستقرار الاوضاع في الشام ومصر والجزيرة العربية وبلاد ما بين النهرين وفارس، وكل من زرع الرياح في هذه المدينة المقدسة حصد العواصف في بلده. واظن ان لا أفق لأي اتفاق لتسوية وضعها اذا بقيت، كما هو مرجح، مواقف الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي على ما هي عليه. واذا كانت محادثات كلينتون - باراك - عرفات، بيّنت ان السيادة على القدسالشرقية، التي طالب بها الطرفان كانت حجر العثرة الرئيسي في طريق التوصل الى اتفاق، ودفعت عملية السلام الى مأزقها القاتل الذي تعيشه الآن، فهذا يكفي ليدلّ على ان مصيرها لا يجوز ان يكون رهناً باتفاق متسرّع يفرض على الفلسطينيين بقوة الاكراه، وبسبب ضيق الوقت وانقاذ باراك. واذا كان لا مصلحة لأي طرف في تدمير عملية السلام، ويتعذّر على كلينتون في هذه المرحلة، الزام باراك بتنفيذ قرارات الشرعية الدولية المتعلقة بالقدس، فبالامكان التدرّج في تنفيذها، واعتبار الاقتراح الاميركي، الموافق عليه اسرائيليا، والذي يُقسّم السيادة على المدينة، ويقسم احياءها الى مدينتين منفصلتين، قدس عاصمة اسرائيل واخرى عاصمة فلسطين …الخ بداية يمكن البناء عليها. وهذا الحل الموقت لا يعطي احد حق الزام الجانب الفلسطيني بانهاء النزاع قبل قفل ملف القدس كاملاً، وقبل حل مشكلة اللاجئين، والتي لا تقل حساسية وتعقيداً. لا شك ان في امكان ادارة الرئيس كلينتون معاقبة الفلسطينيين شعباً وسلطة ورئيساً، ولا احد يُقلّل من قدرتها على تنفيذ العقاب قبل رحيلها، والضغط على دول العالم واجبار بعضها وهيئة الاممالمتحدة على عدم الاعتراف بدولتهم اذا اعلنوا قيامها، والمشاركة في جلد اللاجئين في كل مكان، واطالة أمد عذابهم في مخيماتهم، بسبب رفضهم السياسة الاميركية المنحازة لاسرائيل، وتمسكهم بحقوقهم في العودة والتعويض، التي أقرّتها قرارات الشرعية الدولية. وبإمكانها، ايضاً، قطع المساعدات الدولية عنهم واضعاف سلطتهم، وتشجيع الحكومة الاسرائيلية على المضي قدماً في عدم تنفيذ الاتفاقات التي تم توقيعها وعدم الانسحاب، وهدم المسجد الاقصى بدعوى انه يقوم على انقاض هيكل سليمان… لكن سلوكها هذا لا يصنع السلام الفلسطيني - الاسرائيلي الدائم، المنشود، ويجرّد عملية البحث عنه من اي مضمون. ولا يجلب الاستقرار للمنطقة. والتجربة التاريخية اكدت ان التسويات المفروضة وغير المرضي عنها من اصحابها لا تدوم وتبقي النار تحت الرماد. * عضو المجلس الوطني الفلسطيني