ما ان فتحت مغارة جعيتا أبوابها للزائرين في 15 تموز يوليو حتى توافدت جموع كبيرة من اللبنانيين الذين طالما انتظروا ذاك الموعد. فالمغارة أقفلت قبل ما يقارب عشرين عاماً لدى اندلاع الحرب ولم يوفرها الدمارالذي حل بالوطن ولا القذائف التي تناثرت في سمائه ولا الاهمال الناجم عن غياب الدولة او تغييبها طوال سنوات المأساة اللبنانية. لكن المغارة سرعان ما نهضت من خرابها لتستعيد موقعها السياحي ورهبتها ولتسترجع اياماً جميلة مفعمة بالصخب والالفة والازدهار. حين يقال مغارة جعيتا فإنما المقصود ذاك المرفق السياحي الذي يضم مغارتين لا مغارة واحدة، وتلك المنشآت التي استحدثت لتجعل من البقعة الجغرافية الطبيعية التي تحيط بالمغارتيهن مرفقاً حيوياً معاصراً، كالقطار والتلفريك والمطاعم والمسرح البصري - السمعي ... ولئن درجت عبارة مغارة جعيتا على ألسنة اللبنانيين فلأن المغارة المائية او السفلى اكتشفت قبل المغارة الجافة او العليا وجهزت قبلها ودشنها الرئيس كميل شمعون في العام 1957. لم تخطئ اذن الجهة التي تولت تأهيل المغارة ومرفقها حين اسرعت في العمل على تأهيلها فالمواطنون الذين توافدوا في الايام الاولى كانوا كثيرين. بعضهم شاهد المغارتين من قبل وجاء يتذكرها متأملاً جمالهما الساحر، والبعض لم يشاهدها بل قرأ عنهما في الكتب وعن رواسبهما الكلسية المختلفة صعوداً وهبوطاً ... ولم تختف ملامح الدهشة عن اي وجه من تلك الوجوه التي غصت بها اروقة المغارتين ... انها الدهشة امام عظمة الطبيعة وروعة تلك المنحوتات التي حفرتها مسارب الماء بين الفجاج والصخور طوال الوف وألوف من السنين. بل انها الدهشة حيال تلك الترسبات المائية والكلسية التي استحالت على مر العصور الى اشكال غريب عجيبة يتدلى بعضها من السقف كالثريات، ويرتفع بعضها كأشجار المرمر وأغصان المرجان ... مغارة تغني يا لتلك الروعة الطبيعية التي لم تمتد اليها يد بشرية ولم تصنعها اي مخيلة. ما ان يدخل المتفرج احدى المغارتين حتى يجد نفسه في عالم يشبه عالم الحلم: من اين ارتفعت تلك الشموع التي من حجر كلسي؟ ومن اين تدلت تلك المحفورات التي تجسد ما يخيل للمرء انه شاهده ولم يشاهده؟ وتلك الالوان الغريبة كيف استطاعت ان تجتمع وتتناغم وتتدرج وتتداخل تداخل الضوء والظل؟ يكاد المتفرج لا يصدق ما يرى. كأن كل مدارس النحت والرسم اجتمعت هنا لتتآلف لا لتختلف، ولتخلق مساحات ومساحات من التماثيل والمحفورات المزركشة والمنمقة ولكن وفق اسلوب لا يضاهيه اسلوب معروف. وكم كان صادقاً الشاعر جورج شحادة حين كتب قصيدة عن المغارة تحت عنوان "صخور جعيتا تغنى" قائلاً فيها: "هذه المغارة هي اعجوبة للحرية، فأولئك الذين يملكون العقول المفكرة يجدون في هذا المكان المفعم بذكريات الطفولة: سندباد، اليس في بلاد العجائب التي صنعتها مخيلة الكاتب لويس كارول بل هي اشد اثارة للدهشة والغرابة لما تحمل من مواصفات تفوق الوصف. والصخور في المغارتين تغني فعلاً ولكن عبر نزولها وصعودها، وعبر ثناياها الكثيرة وضفائرها المنسكبة انسكاباً موسيقياً. الطريق الى المغارتين يتجه صعداً من الباحة الكبيرة التي باتت تضم مراباً للسيارات. ويمكن للزائر ان يستقل القطار ذا الحافلات القليلة والذي يتسع لخمسة واربعين راكباً ويمكنه ان يستقل احدى مقصورات التلفريك الثماني. ولكنه يستطيع ان يصعد الى المغارتين مشياً وقد يسبق القطاع البطيء الذي لا يستهوي الا الصغار اذ يذكر بالقطارات التي تعرفها مدن الالعاب. وما ان يصل الزائر الى المغارة السفلى او المائية حتى يفاجئه هواء بارد، شديد البرودة يهب من باب المغارة. وفي الباحة الصغيرة امام تلك المغارة يتجمع الكثيرون لا سيما العمال والحراس طلباً للبرودة في الحر الشديد. هواء بارد ومنعش فعلاً، رطب قليلاً يحمل في طياته رائحة الصخر والماء. والمغارة تبدو رائعة منذ الاطلالة الاولى. لكن التوغل في ارجائها يفترض استخدام قارب صغير من القوارب التي جهزتها الادارة لتقل الزائرين. فالمغارة هذه قائمة فوق النهر، نهر جعيتا الشهير، وعلى جانبيه. ولا يمكن للزائر ان يشاهد الجدان والسقوف المحفورة حفراً طبيعياً الا عبر نزوله النهر. وما اجمل تلك الرحلة القصيرة التي تكشف آيات من الجمال الخالص. ماء وأضواء من تحت الماد وهدير عميق ورواسب ومحفورات تتدلى من هنا وهناك او تصعد من هنا وهناك، تنفلش حيناً، تنقبض حيناً وتأخذ احجاماً وأشكالاً لا تحصى. ويمكن ان تنظر وتتخيل: أزهار وفطريات واشجار وثريات وعناقيد وشموع وشمعدانات لؤلؤية البياض، مرجانية الاحمرار، تضفي عليها الاضاءة تدرجات مرهفة. وما ان يعبر القارب الفسحة الاولى من المغارة التي تشبه البهو حتى يصل الى الصالة التي يسميها البعض صالة المظلة لما تحوي من ترسبات معرفة ومنحنية تشبه المظلة العملاقة. اما الماء فيشف كثيراً ليظهر قعره الرملي او الصخري تبعاً لمجراه. ويمكن ل"قبطان" الرحلة ان يضرب ارض النهر بمجذافيه فالقعر يتراوح بين خمسة امتار ومتناسقة تناسقاً تاماً مؤلفة ما يشبه انابيب ارغن عملاق لا يعزف عليه الا الهواء الطالع من عمق المغارة. ولا تنتهي الرحلة القصيرة الا لدى الاقتراب من المياه الدافئة المتدفقة من المنحدرات. هناك يتوقف "القبطان" عن التجذيف ليعود القهقري ... ويمكن للزائر ان يسرح ناظريه ليرى بعض الممرات المظلمة والشقوق والمنحدرات التي تتطلب رحلة اخرى روادها من هواة المغارة. ونسأل كم عبرنا من الامتار في عمق المغارة فيقول الدليل الذي عينته وزارة السياحة ان عمق المغارة يصل الى 850 متراً ولكن القارب لا يصل الا الى 650 متراً. وحين العودة الى نقطة الانطلاق يكتشف الزائر المغارة في طريقة اخرى. القارب لا يتأرجح كثيراً، الهواء منعش والماء بارد اذا وضعت يدك فيه تحسست برودته. اما النظر فلا يكفي. والعينان لا ترتويان مما تشاهدان. المغارة العليا ومن المغارة السفلى الى المغارة العليا التي لا ماء فيها ولا هواء يهب. تدخل ولا تفقد لذة المفاجأة. تستقبلك في الممر المبني حديثاً مؤثرات صوتية هي اشبه بالخرير والزقزقة فتظن انك امام حديقة للعصافير. وحين تصل الى البهو الاول ترى ما رأيته في المغارة السفلى: منحوتات تتدلى واخرى تصعد وتماثيل وعجائب وغرائب تحتل جانبي الممشى الذي يخترف المغارة السفلى: منحوتات تتدلى واخرى تصعد وتماثيل وعجائب وغرائب تحتل جانبي الممشى الذي يخترق المغارة الى اعماقها، متعرجاً نزولاً وصعوداً قليلاً بحسب بنية المغارة. وقد اطلق بعض الذين سبروا المغارة. وعملوا على تأهيلها منذ الخمسينات اسم "الغاليري" على ذاك البهو الفسيح الذي لن يلبث ان يضيق لتنفرج فسحات اخرى. وهو فعلاً اشبه بالغاليري الطبيعية التي تضم المنحوتات والنقوش والمزخرفات والمرصعات ذات الاشكال المتعددة والاحجام المتعددة والتي تبهر من ينظر اليها من شدة سحرها وصفائها وجمالها الطبيعي. وكلما توغل الزائر في الداخل افتتن بما يشاهد. فالغارة غابة من المتدليات والثريات وحديقة من النباتات الغربية والشموع الشمعدانات والغصون والافانين ... ويمكن وانت تتهادى بين ضفتي المغارة، في الممر الذي شقته الادارة ليصل اول المغارة بآخرها، يمكنك ان تتخيل ما تشاء وأن تتوهم ما تشاء وان تحلم وان ترجع الوفاً الوفاً من السنين الى الوراء لتتصور كيف راحت تتشكل تلك الترسبات نقطة نقطة، بل دمعة دمعة. انه الزمن ذاك النحات الكبير يضرب بأزميله الباهر وبعصاه السحرية يصنع الاعاجيب. وفي المغارة العليا هذه او مغارة المشاة كما يسميها بعض الحراس لن تتوغل مشياً اكثر من 650 متراً كذلك. بعد ذلك ترتفع منحدرات وتنسل شقوق خطرة. وقيل ان المغارة تمتد نحو 800 متر عمقاً. ولا تستطيع ان تمد يدك وانت تتهاوى في الممر الداخلي، الا لتلامس المترسبات القريبة. فالممر الداخلي شبه مسور ولا يمكنك النزول الى جانبيه وقد شاءت الادارة صون المترسبات من اي سرقة او تخريب فشقت ذاك الممر الداخلي وسورته وبنت الادراج. واذا الزائر يشعر انه يمشي في قلب غابة محمية من الايدي العابثة. اكتشاف المغارتين وتخرج من المغارة العليا وتقف مشدوهاً ومفتوناً بما شاهدت وبتلك الرحلة التي تشبه الرحلات الخيالية الى بلاد العجائب والغرائب. واذا اعتقدت ان زيارة واحدة تكفي للارتواء من تلك الكنوز الطبيعية والجمالات والروائع فأنت مخطئ حتماً. فما ان تخرج حتى تحسب انك تحتاج لان تزور تينك المغارتين مرة ومرتين وثلاثاً ... فما رأيته في الداخل لم تره الا في الحلم ولن تراه في اي مغارة أخرى. وعلى الطريق الخارجي تلقي نظرة على النهر، نهر الكلب الذي يمر من هناك ليرفده نهر المغارة وينابيعها قبل ان ينزل الى البحر متعرجاً بين الصخور في الوادي الجميل الذي يفصل بين قضاءي المتن وكسروان. ومن كثرة ما عرفت المغارتان من جمال وفتنة وروعة احيطتا بهالة شبه خرافية ويتناقل اهالي المنطقة روايات طريفة عن اكتشافهما بعضها حقيقي وبعضها من نسيج الخيال. اما كلمة جعيتا فهي سريانية وتعني الهدير والصخب وقد سميت هكذا تبعاً لما تحدث المياه فيها من ضجيج حين تدفقها ولا سيما في فصل الشتاء. وتبعد المغارتان ما يقارب 20 كلم من العاصمة شمالاً ويبلغ علوهما عن البحر قرابة 60 متراً. وبلغ طول الدهليز الذي يجمع بين المغارتين حين اكتشافه عام 1954 نحو ستة الاف ومئتي متر وهو الحد النهائي الذي لم يتجاوزه اي منقب منذ ذاك التاريخ. ويروي بعض المراجع قصة المغارة او المغارتين وكيف اكتشفتا وكيف سبرت اغوارهما ولكن عبر حكايات شبه متناقلة تخلو من الدقة العلمية. وحتى الآن لم يصدر كتاب علمي شامل عن جعيتا والمغارتين رغم ان الذين سبروا اغوارهما ورسموا حدودهما الاخير ينتمون الى النادي اللبناني للتنقيب عن المغارة. والحكاية تقول ان صياداً اميركياً يدعى طومسون كان يقوم برحلة صيد قرب المغارة في العام 1836 فاكتشف المدخل ودخل قرابة خمسين متراً وأطلق عياراً نارياً فتردد الصدى مما أكد له وجود سرداب تحت الارض. ولم يكمل الصياد الاميركي اكتشافه ليتحقق من سر ذاك السرداب. ولكن بعد اعوام على تلك المغامرة الفردية قام عدد من المهندسين الاميركيين بمهمة سبر المغارة بتكليف من مكتب مياه بيروت وتحديداً في العام 1873 وكان على رأس الفريق مهندس يدعى بليس. وانطلق الفريق في رحلته على عوامة من الواح خشبية ليبلغ ما يقارب الثماني مئة متر. وتسجيلاً لذاك الاكتشاف ترك الفريق زجاجة فارغة في زاوية اطلقوا عليها اسم "بانثيون" والزجاجة لا تزال موجودة هناك وقد غلفتها قشرة كلسية تبعاً لما يقصر من الشقوق من ماء ترسبات. وبعد ذاك التاريخ توالت الرحلات داخل المغارة لتبلغ العشرين. وحاول المنقب المعروف باسم الدكتور لامارش في 1924 ان يتجاوز المنحدرات التي اعاقت رحلات المنقبين السابقين فلم يفلح في تخطي الحدود التي بلغها اولئك والتي كانت حددت في العام 1873. الا ان البروفسور ويست حاول ان يجتاز المنحدرات على عوامة مصنوعة من الخشب والمعدن فتمكن من اجتياز قرابة 1600 متر. وفي العام 1927 قامت بعثة بقياد تومبسون باجتياز 1800 متر داخل النفق الطويل ولم تتمكن من مواصلة التقدم بعدما اصطدمت بمنحدرات خطرة. وعندما انطلق النادي اللبناني للتنقيب عن المغاور في العام 1951 وضم عدداً من البحاثة والمنقبين من امثال ليونيل غرة وسامي كركبي وخوام ومخباط والزغبي وكسباريان اخذ اعضاء النادي على عاتقها مهمة مواصلة البحث داخل المغارة. وقاد الفريق سامي كركبي. وتطلب العمل سنوات ومراحل امتدت حتى العام 1954. وفي احدى الرحلات مكث اعضاء النادي سبعة ايام متتالية داخل المغارة وتمكنوا من تحقيق الرقم القياسي في عمليات التنقيب اذ بلغوا 2600 متر عمقاً. وفي تلك الناحية عثروا على منبع ماء قوي حال دون مواصلتهم التقدم. "جعيتا أو خرير المياه" تختلف بعض المصادر في سردها تاريخ المغارة اختلافاً بسيطاً ولكنها تجمع كلها على المراحل التي اجتازتها فرق التنقيب. وتلتقي جميعها الى موقع سياحي مميز. وتقول المراجع ان الرئيس كميل شمعون هو اول من رعى البدء بالعمل على تأهيل مغارة المياه وتحديداً في آب اغسطس 1950 اي قبل اربعين عاماً. وفي العام 1957 انجز العمل وبدأ الزائرون يتدفقون الى المغارة ليشاهدوا ذاك الكنز الرائع الجمال والمخبأ في عمق الارض. وبلغت آنذاك نسبة الزائرين الالفين يومياً. وكانت المغارة تقفل ابوابها في فصل الشتاء نظراً الى ارتفاع المياه. وحين اكتشف النادي اللبناني المغارة العليا في 1958 بدأت الدولة تستعد لتأهيلها بدورها لتستقطب الزائرين. لكن التأهيل لم يبدأ الا في 1963 عندما رعاه الرئيس فؤاد شهاب مستعيناً بمهندسين ايطاليين وفرنسيين تمكنوا من وضع الدراسات المتوجبة. وأضيفت خلال ورشة التأهيل ممرات اصطناعية تتلاءم مع المعالم الطبيعية للمغارة من اجل وصل اجزائها واقسامها. وشيد مدرج خاص لاقامة الحفلات الفنية. وانشئت ناقلات هوائية تلفريك ليتنقل الزائرون بين المغارتين. وعفت المغارتان اقبالاً سياحياً وشعبياً كبيراً وباتت تستقطبان البعثات والزائرين. وتجاوز عدد الزوار في السنة الاولى من الانتاج الاربعين الفاً. ووصل العدد في العام 962 الى مليون وظل يرتفع حتى بلغ 16 مليوناً عام 1966. ولا مبالغة في الارقام فالاحصاء تملكها وزارة السياحة وفق جداول مرقمة. وفي العام 1968 اقام الموسيقي العالمي فرنسوا بايل حفلة كبيرة داخل المغارة واصدر اسطوانة سماها "جعيتا او خرير المياه". وفي 1970 نظم مصمم الازياء العالمي كارفن عرضاً للازياء داخل المغارة. وكان عرضاً جميلاً جداً وفريداً من نوعه بسحب ما يخبر البعض. الا ان المغارة ما لبثت ان اغلقت ابوابها في بداية الحرب عام 1975 وعمدت بلدية جعيتا ووزارة السياحة او ما تبقى منها انذاك الى وضع حائط عازل على مدخلي المغارتين خوفاً عليهما وحماية لهما من السرقة والتخريب. الا ان الموقع سرعان ما تحول في الفترة الاخيرة من الحرب الى مركز عسكري واصبحت المغارتان مستودعين للذخائر والاسلحة. وفي حرب الالغاء" التي نشبت بين العماد ميشال عون والقوات اللبنانية كان الخوف كبيراً من اي انفجار للذخائر كان من الممكن ان يدمر المغارتين. الآن استعاد الموقع تاريخه الجميل واسترجعت المغارتان الساحرتان حكاياتهما وعادت اليهما الاضواء وعاد الزائرون بصخبهم ودهشتهم. والمغارتان اللتان كانتا شاهدتين منذ الوف وألوف السنين على روعة الخلق وقدرة الخالق ستظلان تشهدان على أسرار الطبيعة الوفاً بل وألوفاً من السنين.