صدرت أخيراً في باريس ثلاثة كتب مهمة تتناول وضع النساء الجزائريات ومعاناتهن: "جزائرية صامدة" لخالدة مسعودي، "ما أوسع السجن" لآسيا جبّار و"أن تعيش مطارداً" لمليكة بوصوف. في ما يلي قراءة متقاطعة لهذه الكتب التي تقدم شهادات صادقة وثرية عن واقع باتت معه المرأة/الكاتبة ضحيّة مثلى لاضطهاد مزدوج. "ما أوسع السجن الذي يحيط بي/ فمن أين يأتي الخلاص؟" تقول الأغنية البربرية القديمة. الخلاص في المواجهة تجيب مسعودي وجبّار وبوصوف كلّ على طريقتها. في بلاد جميلة بوحيرد، وقفت النساء في الواجهة منذ اللحظات الأولى لحرب التحرير. واليوم تحتلّ النساء الجزائريات الصف الأوّل، في معركة المواجهة مع التطرّف، من أجل مجتمع عادل يحترم حريّة الآخر والحق في الاختلاف. وموقع الطليعة هذا، كلّف ويكلّف النساء في الجزائر، كما نعرف، ثمناً باهظاً في ظل دوامة العنف التي تعصف بالبلاد. ثلاثة كتب صدرت أخيراً في باريس تعبّر عن هذه المعاناة من مواقع مختلفة، وهي بتوقيع ثلاث كاتبات. الأولى مدرّسة ومربية ومناضلة من أجل حقوق الانسان اسمها خالدة مسعودي، "جزائرية صامدة" كما يشير عنوان شهادتها. الثانية هي الصحافية ملكية بوصوف، كتبت "أن تعيش مطارداً". أما الثالثة فهي السينمائية والأديبة آسيا جبّار التي وقّعت نصّاً لافتاً عنوانه "ما أوسع السجن". مثل الجنرال بيجار "جزائرية صامدة" منشورات "فلاماريون" كناية عن حوار مطوّل أجرته اليزابيت شملا، رئيسة تحرير "نوفيل أوبسرفاتور"، مع المناضلة الجزائرية خالدة مسعودي. تتناول رئيسة "جمعية تحرر المرأة" التي تشغل ايضاً منصب نائبة رئيس "التجمع من اجل الجمهورية"، "الخصوصية الثقافية والاجتماعية التي تجعل نساء الجزائر اليوم في طليعة المواجهة المفتوحة ضد التطرف، الى درجة ان تنظيماً اصولياً ظهر في الاشهر الاخيرة، هو تنظيم "الموقعون بالدم"، تخصص في اغتيال النساء وخطفهنّ والاعتداء عليهنّ. تماماً مثلما كان الجنرال بيجار أسس اثناء حرب التحرير فرقاً خاصة بمطاردة جميلة بوحيرد ورفيقاتها...". وتلخّص مسعودي نضال الحركة النسوية التي تتزعمها في شعار بسيط وحاسم، فتقول: "بين المشروع المتطرّف الذي هو قبرنا والنظام القائم الذي حفر هذا القبر بيديه، نختار الجمهورية!". وتشرح مسعودي: "النظام القائم حاول دائماً استعمال الخطر الاصولي كورقة ضغط ضدّ الديموقراطيين الجزائريين، ملوحاً في أوجههم بالخيار الصعب: "أنا أو الهاوية". إلا أن تطورات الوضع في الجزائر خلال السنوات الثلاث الاخيرة، على رغم الضريبة الدموية الغالية التي دُفعت أساساً من صفوف الديموقراطيين وأرواحهم، أثبتت ان الوسيلة الوحيدة للمواجهة هي المقاومة الشعبية". وتواصل مسعودي: "حتى الاقلية التي انحازت إلى النظام القائم في صفوف المثقفين والنخبة السياسية، "خشية ما هو اسوأ"، سرعان ما تبين لها ان المرء لا يمكن ان "يختار بين الكوليرا والطاعون". وتدريجاً، بدأ يحصل الاجماع على ان المخرج الوحيد من هذا المأزق المزدوج يتمثل في "المقاومة الشعبية". وهذه الفكرة أصبحت تستقطب فئات واسعة من المجتمع، خصوصاً وان فرق المقاومة الاولى التي تشكلت في بعض المناطق "الساخنة" التي اثبتت قوات النظام عجزها عن حفظ الأمن فيها، استطاعت ان تحرر الناس من سطوة الجماعات الاصولية، دون ان يعني ذلك بالضرورة تقوية شوكة العسكر". وتمضي خالدة مسعودي في تفصيل هذا الرأي الذي أثار الكثير من النقاش في العالم العربي: "إن النواة الاساسية وحجر الاساس في عملية المقاومة الشعبية للارهاب هما العائلة. ولذا فان المرأة سواء كانت أماً أو زوجة أو فتاة شابة، طالبة أو عاملة، تلعب دوراً طليعياً يُذكّر من حيث الفعالية والشجاعة الفائقة، بالدور التاريخي المعروف للنساء الجزائريات خلال حرب التحرير. ما يعيد إلى الاذهان بطولات "جميلات" معركة الجزائر الثلاث: بوعزة، بوباشة وبوحيرد ... الا ان المكسب الايجابي هو ان النساء اللواتي سقطن في الاشهر الأربعة الاخيرة لم يمتن "ضحايا" بل "مقاومات". فهن لم يسقطن برصاصات طائشة أو بفعل الصدفة أو الخطأ، بل ضحين عن وعي، ومع سبق الاصرار والمعرفة، من اجل الحلم الديموقراطي الذي لا بد ان يكون النصر حليفه في النهاية...". وبخلاف النبرة النضالية الحادة لكتاب خالدة مسعودي، فان آسيا جبار - وهي من كاتبات الرواية القليلات في المغرب العربي - تعبّر عن المعاناة نفسها ولكن بأسلوب مغاير. تطلق صاحبة "احمرار الفجر" و"نوبة نساء جبل الشنوة" لقلمها العنان في صياغة نص روائي ضخم 350 صفحة، اختارت له عنواناً معبّراً: "ما أوسع السجن" منشورات "ألبان ميشال". والعنوان مقتبس من أغنية قديمة في التراث البربري مطلعها: "ما أوسع السجن الذي يحيط بي/ فمن أين يأتي الخلاص؟". اضطهاد مزدوج وتشكل هذه الاغنية المحور الاساسي الذي بُني حوله النص الروائي بأكمله، حيث ان المقطع المذكور من الاغنية يعود في الرواية مثل اللازمة، ليذكر بأن "الاضطهاد معطى اجتماعي وتاريخي ثابت في المغرب العربي، عبر العصور، تعرفه النساء ويعرفه المثقفون جيّداً، في مجتمع قائم على معايير الذكورة". أما المثقف فان "العقلية الريفية المحافظة كانت ولا تزال تنظر اليه بعين الريبة، لانه متفتح على الافكار والثقافات الاجنبية، ولذا فهو مرشح دوماً لأن يكون تابعاً للاجنبي أو متأثراً به. والاجنبي بالنسبة إلى تلك العقلية المحافظة هو عدو بالضرورة". وفي ظل هذه المعطيات الثقافية والتاريخية، تحاول آسيا جبار، في فصول لاحقة من الرواية، تصوير حجم المعاناة التي تعيشها المرأة في جزائر اليوم، خصوصاً اذا كانت مثقفة، ما يجعل منها الضحية المثلى لهذا الاضطهاد المزدوج. على لسان راوية مجهولة، ترصد آسيا جبار المعاناة اليومية لامرأة مثقفة تعيش متخفية في الجزائر، هرباً من تهديدات المتطرّفين، وتحاول ان تشغل ليالي وحدتها وخوفها بكتابة نص يعبر عن واقع حالها. وتدريجاً يبدأ يتشكل نص داخل النص: نص تكتبه الراوية بضمير المتكلم، يحكي تفاصيل حياتها تحت التهديد، ونص آخر هو رواية آسيا جبار الاصلية، المكتوبة في أغلب فصولها بضمير الغائب. لكن هذين النصين لن يلبثا ان يتداخلا في الفصل الاخير الذي عنوانه "دم الكتابة". حيث تكتشف آسيا جبار انها بدورها، مثل شخصية روايتها، "تعيش هاربة من دون ان تدري". لكنه ليس هرباً فعلياً من خطر مادي يتهددها. بل هو هرب فكري من عجزها عن الاحاطة، من منفاها الباريسي، بالواقع الجزائري الذي يفلت منها. ويصعب عليها ايجاد كلمات تفي بفظاعة ما يحدث اليوم في الجزائر، فتستعير نصاً شعرياً لكاتب ياسين، كتب قبل نحو أربعين سنة، يقول فيه: "الموتى الذين يسقطون برصاص الاغتيال/ يجذبون الأرض نحوهم كغطاء يتدثرون به/ ليناموا.../ وقريباً لن يجد الاحياء أين يرقدون!". رعب هيتشكوكي أما مليكة بوصوف، فلم تحتج في كتابها "أن تعيش مطارداً" منشورات "كالمان ليفي"، الى جهد كبير لتصوير معاناة النساء المهددات في الجزائر. فهي صحافية في جريدة "لوسوار دالجيري"، لا تزال متمسكة بالبقاء في بلادها والاستمرار في ممارسة مهنتها، على رغم التهديدات والمخاطر التي ترغمها على اتخاذ احتياطات أمنية معقدة للتنقل بسلام من مقر جريدتها إلى المخابئ العديدة التي تعيش متنقلة بينها باستمرار، في جو من "الرعب الهيتشكوكي"، على حد تعبيرها. وعلى الرغم من ان مادة الكتاب مستوحاة من تجربتها الشخصية، الا ان بوصوف لم تختر الاسلوب المباشر أو التقليدي للادلاء بشهادتها. فنصها هو في مكان وسط بين الأدب والشهادة البيوغرافية المعاشة. تشرح الزميلة والكاتبة: "تعمدت اللجوء الى التخييل واستعماله كوسيلة تعبير وضعتها في خدمة الواقع المعاش، فأطلقت على الشخصية المحورية للكتاب اسم نينا وجعلتها تحكي مذكراتي اليومية بضمير الغائب. وهذا للدلالة على ان القضية تتجاوز مسائل "الحالة المدنية" والتجربة الذاتية، لانها تتعلق بمعاناة آلاف النساء اللواتي يعشن وضعاً مشابهاً...". وفي موضع آخر من الكتاب، تعترف مليكة بوصوف بوجود دافع آخر نفسي يفسر لجوءها الى الكتابة بصيغة الغائب. حيث تقول: "إن المتطرّفين الذين حكموا عليّ بالاعدام ارادوا ارغامي على الصمت، لكنهم لم يفلحوا سوى في خلق نوع من ازدواجية الشخصية في داخلي، جعلتني تحت وطأة التهديد، أميل بشكل عفوي الى الكلمة الادبية الموحية بدل الشهادة المباشرة التي تقتضي تسمية الاشياء بأسمائها، كما هي في الواقع. وربما كانت هذا الفصام وسيلة ابتكرتها لمقاومة الخوف والصمت، بايهام نفسي، وأنا أكتب، بأن الامر يتعلق بشخص آخر غيري...".