تحتفي باريس في سياق "سنة الجزائر" بالكاتبة الجزائرية بالفرنسية آسيا جبار، وتنظم عن أعمالها ندوة دولية في "دار "الكتّاب". والروائية التي كانت فازت بجوائز عالمية عدّة، هي من ألمع الروائيات والروائيين الجزائريين الذين أعقبوا جيل الرواد أو المؤسسين. وعلاوة على صنيعها الروائي تعمل آسيا جبار في حقل النقد المقارن واللغات والفرنكوفونية والنضال السياسي. من هي هذه الروائية؟ ماذا عن عالمها الروائي وعن قضاياها وشخصياتها؟ هنا "بورتريه عنها. التقيت آسيا جبار للمرة الأولى حينما دعيت إلى مدينة مكناس المغربية سنة 1991 لتقديم روايتها الجديدة آنذاك "بعيداً عن المدينةالمنورة". وهي رواية اعتمدت فيها آسيا جبار كتابات الطبري وبعض المؤرخين وكتاب السيرة العرب. وبما أنها لا تتقن العربية استعانت حينها بخبرة نور الدين الأنصاري. ودار الحديث في الجلسة عن المتخيل الذي تحمله النصوص التراثية ما يمنح روايتها طابعاً متخيلاً مزدوجاً. وطرحنا إمكان ترجمة الرواية الى العربية وهو أمر لم يتيسر لعدم لقائنا إلا بعد سنوات من ذلك. وآسيا كاتبة ذات قسط وافر من الرقة والوداعة وعمق التفكير والرصانة، ومناضلة نسوية تحارب تخلف الوضع النسائي بالكتابة والتحليل لا بالخطابة والبلاغة المستهلكة. مسار آسيا جبار متعدد وبلوري الأبعاد، فإضافة إلى كونها ظلت أساساً كاتبة وروائية وقصصية بإصدارها أكثر من 14 مؤلفاً في هذا المضمار، فهي مارست السينما وأخرجت فيلمين حاز أولهما "نوبة نساء من جبل شنوت"، المنتج سنة 1977 جائزة موريس مايترلينك في بروكسيل سنة 1995. وكتبت كذلك المسرح والشعر في آخر الستينات احمرار الفجر، أشعار للجزائر السعيدة. وبدءاً من الثمانينات غدت آسيا جبار أحد أعمدة الأدب الجزائري، وترجمت أعمالها إلى لغات عدة. واعترافاً لها بهذا الموقع المتميز في الأدب المغاربي المكتوب بالفرنسية، والأدب النسائي العالمي حصلت من جامعة كونكورديا في كندا أخيراً على الدكتوراه الشرفية. كما حازت جوائز عدة لعل أهمها جائزة نوشتات سنة 1996 على مساهمتها في عالم الإبداع، وجائزة يورسنار سنة 2000. الجزائر تأريخاً روائياً ولدت آسيا جبار سنة 1936 في شرشل، المدينة الساحلية التي لا تبعد كثيراً من الجزائر العاصمة. وكان أبوها أحد التلامذة القدامى في المدرسة العليا في بوزعرية حيث كان رفيق دراسة الكاتب الجزائري المعروف مولود فرعون. عاشت آسيا جبار مساراً دراسياً متألقاً، فبعد الدراسة الابتدائية في موزايا، تابعت دراستها الثانوية في بليدة وأخيراً في الجزائر العاصمة، لتسافر إلى فرنسا وتكمل دراساتها العليا في المدرسة العليا بسيفر. وسيعرفها الجمهور الفرنسي وهي في الحادية والعشرين، شابة اختارت الكتابة والتغيير والظهور في هوية جديدة. غيرت آسيا اسمها من فاطمة الزهراء أمالايين ليعرفها الجمهور باسمها الجديد الذي كرّست به دخولها تجربة العيانية. وليس اختيارها اسم جبار سوى إحالة إلى مقدس الأسماء الحسنى من جهة، واختيار الظهور في مظهر القوة في وقت لم يكن فيه في الساحة الأدبية والثقافية إلا أسماء نسائية قليلة كطاووس عمروش. درست آسيا جبار التاريخ سنوات في جامعة الجزائر، ثم اشتغلت في فرنسا. وفي سنة 2001 أسست شعبة اللغة الفرنسية والدراسات الفرنكوفونية في جامعة باتون روج في ولاية لويزيانا الأميركية وأصبحت مشرفة عليها. في تلك السنوات، التي سماها الأخضر حامينا "سنوات الجمر" في فيلمه الشهير، وتحديداً سنة 1957 نشرت آسيا جبار رواية "العطش" التي تنغمر شخصياتها في الرفض وتدين البورجوازية الجامدة والغارقة في سبات ملذاتها. وعلى رغم أن الكاتبة تعتبر روايتها الأولى هذه، والرواية التي نشرتها في السنة التالية لدى دار النشر جوليار في باريس "أناس فارغو الصبر"، "مجرد تمارين في الأسلوب" وأعمالاً أدبية من مرحلة الشباب، فإن رواية "العطش" التي تذكر بعوالم فرانسواز ساغان كانت أيضاً رواية استكشاف للجسد والوعي به: "لم أكن أحب الارتعاش، وكنت أحس بالشفقة تجاه الفتيات اللواتي كن يتخصصن في نزق المراهقة أمام الرجال. كنت أراقب الرجال يتقدمون وهم مثقلون بأسلحة الخيلاء والغرور الساذج. كانوا يسلونني أحياناً، فكنت أجرجرهم بأناة مكبلين عند رجلي. وفي تلك اللحظة بالضبط، كنت أسأل عمّا علي فعله بهم. غير أنني لم أستطع أن أستفيد منهم شيئاً حتى تلك اللحظة، لهذا كنت أطردهم من عالمي...". ص 65 ولم تستطع آسيا جبار مع ذلك أن تخفي العلاقة العاطفية التي ظلت تربطها بروايتها الأولى، التي ترجمت الى لغات عدة والتي لا يزال يقرأها الشباب اليوم بمتعة لا تضاهى. فهي صرحت سنة 1987، أي بعد ثلاثين سنة على صدورها: "كانت نغمات ناي لا يزال صداها يسمع إلى اليوم، ولا تزال تحافظ على نبرتها الصحيحة". وأبانت روايتا "أبناء العالم الجديد" 1962 و"النوارس الساذجة" 1967 عن الاهتمامات التاريخية والإيديولوجية للكاتبة، إذ غرست في الرواية الأولى الحكايات الشخصية في السياق التاريخي العام، مازجة فيها بين الذاتي وحركية الثورة الجزائرية. أما في الرواية الثانية فجعلت من التاريخي ذريعة لاستكشاف البواطن السيكولوجية للشخصيات. وكأن الهدف الأساس لهذه لتجربة الجديدة هي الشهادة بالتخييل والكتابة عن مرحلة عايشتها الكاتبة كمصير ذاتي وتاريخي تولد فيه هي وبلدها من فورة الوعي والثورة، ثم البحث عن أسئلة الاستمرار وعن الهوامش النسائية التي لا تزال تهمس من وراء التباسات المرحلة الجديدة. لكن التكوين التاريخي للكاتبة سوف يجد موئل اشتغاله وتوكيده في رواية "الحب والفنطازيا" 1985، وهي الرواية التي ستشكل حدثاً في تاريخ الأدب الجزائري وستزج بها في مصاف الكتاب الجزائرين الكبار ككاتب ياسين ومحمد ديب ومولود فرعون ورشيد بوجدرة. والرواية عبارة عن استيحاء تخييلي بالغ التبلور لتاريخ الاستعمار الفرنسي للجزائر ولحرب التحرير الوطني، وتستخدم الوثيقة التاريخية مضيفة عليها طابعاً روائياً، وبخاصة الشواهد النسائية منها. "أن أقول بدوري، وأبلغ الى الآخرين ما قيل ثم ما كتب. أقوال وشهادات من أكثر من قرن، كتلك التي نتبادلها اليوم، نحن نساء القبيلة نفسها"، تلك هي الرغبة الروائية والتاريخية التي تخامر آسيا جبار والتي ستبلورها عن نساء العرب في شكل أكثر الحاحاً وغوراً في جسد التاريخ في رواية "بعيداً عن المدينةالمنورة" التي أشرنا إليها سابقاً. أما في "ظل سلطانة" 1987 فتعود الكاتبة إلى مواقفها السابقة لمساءلة مصير امرأتين إسمة وحجيلة الضرّتين التي تحكي إحداهما عن مغامرة الثانية في الخروج من سجن الحياة الزوجية. إنها رواية تستلهم "ألف ليلة وليلة" وتدفع بإدانة العقلية الذكورية إلى أقصاها وتفتح المرأة نحو خلاصها الفردي ثم الجماعي. وفي رواية "شاسع هو السجن" 1995 تتابع جبار مساءلة التقاليد من خلال حياة امرأة متعلمة ومثقفة تمارس السينما والموسيقى، وكأنها بذلك تستعيد حياتها الشخصية، كما عودتنا في شكل متقطع، لتحولها هنا إلى عمل روائي يسبر عمق الأسئلة الجوهرية التي كشف عنها تاريخ الجزائر ما بعد الثورة. بعد هذه الروايات ثابرت آسيا جبار على إصدار أعمال أخرى بإيقاع متواتر، ك"بياض الجزائر" 1996، و"وهران لسان ميت" 1997، و"ليالي ستراسبورغ" في السنة نفسها، و"تلك الأصوات التي تحاصرني" 1999، و"المرأة من غير كفن" 2002 وأخيراً "فقدان اللغة الفرنسية" 2003. وهي كتابات يمتزج فيها الطابع السير ذاتي بلعنة المنفى، في حضور الذاكرة الشخصية والبحث عن منافذ للقول والبوح والكشف. امرأة لكل النساء تبدو التجربة الثقافية لآسيا جبار تأسيسية على أكثر من مستوى. فهي استكملت طريق الكتابة النسوية وجعلت منها محفلاً ثقافياً قائماً بذاته. وتكفي اليوم قراءة كتابات جزائريات، سواء في الداخل أو في المهجر، من قبيل: صفية قطو، ومريم بين وأحلام مستغانمي وفاطمة غالير ومالكة المقدم وسواهن للوقوف على المسار المنفتح الذي اختطته كتابات آسيار جبار، وعلى ذلك الوعي اليقظ بقضايا التاريخ وقوة الهوامش النسوية واستمرار الأسئلة القلقة التي تطرحها على عوالم المجتمع والثقافة. كما أنها فتحت أمام النساء الجزائريات باب السينما وطرقته في وقت كانت لا تزال الكلمة، أو بالأحرى الصورة، تستعصي على التناول النسائي. واليوم يمكن السينمائيات الجزائريات، من أمثال يامنة بنكيكي ورشيدة كريم ويامنة بشير الشويخ ومليكة طنفيش وفجرية دليبة أن يفتخرن بكون رائدتهن في هذا المجال كانت امرأة مثقفة وكاتبة وأديبة من طراز آسيا جبار، يتماشى لديها التعبير بالصورة والتعبير بالكلمة عن الهواجس التاريخية والشخصية الدفينة للمرأة العربية المعاصرة. إنها تجربة كتابة وتعبير سعت دائماً إلى تملك سلطة الكلام وقوة المعرفة التاريخية وقلق السؤال الجوهري. لذلك، على خلاف كتاب الجيل السابق من أمثال كاتب ياسين ومحمد ديب والمجايلين لها من أمثال رشيد بوجدرة وعبداللطيف اللعبي وسواهم، لم تعش آسيا جبار ذلك الشرخ اللغوي ولا المنفى في اللغة الفرنسية والوعي الشقي الناجم عن ذلك. فاللغة الفرنسية، ثم العيش خارج الجزائر، كلها مصائر تعبيرية ووجودية كانت لها في متخيلها الأدبي والفني مواقع قوة، ومن خلالها استطاعت باستمرار أن تطل على مصائر نساء الجزائر، أولئك اللواتي يسورهن الصمت ومهانة الحصار. كأن آسيا جبار بتركيزها على قوة الخطاب والتعبير تعيش من خلال تجربتها الشخصية التجربة الممكنة للنساء الأخريات، وتجعل من كيانها مرتعاً لكيانات النساء اللواتي تتخيلهن، أو أولئك اللواتي تمنحهن جسدها الأدبي كي يحكين من خلاله عن معاناتهن وعن قوتهن التي لا تتطلب سوى الكشف والاكتشاف. كل ذلك في معمار روائي حديث يتم فيه الاشتغال على اللغة والمقاصد والمعنى في توازن له إيقاع الحكاية، تلك الحكاية الأصلية التي تحرر السارد ومعه كل القراء. من ناحية أخرى، استطاعت الكتابة الروائية الخصبة التي جعلتها آسيا جبار معبرها الأساس الى الآخرين، من خلال المزاوجة بين الواقعي والتاريخي والتخييلي من أن تنسج كتابة جديدة في الرواية "المغاربية"، لها طعم الواقعية ونسغ المتخيل، قريبة من شفافية اللغة وحساسيتها المتعددة. ولذلك، سواء تعلق الأمر برواياتها الأولى أم بكتاباتها الأخيرة، فإن حرارتها الأكيدة تتمثل في تحويل الكتابة إلى بنيان معماري للبوح، تتمازج فيها همهمات نساء تكاد لا تسمع، وهمساتهن وكلامهن المردود إلى الحلق وفوراتهن ومخيلة ذاكرتهن الخصيبة. من ثم فإن قارئ رواياتها ينصت من مسامها إلى التاريخ الماضي والحاضر، المنسي والمغيب، الى ذكاء الكلمة النسوية، وذلك المستقبل المرجأ، الذي لم تعمل فيه الثورة و"التغيير" سوى على هضم الموقع الرئيس لنساء كانت لهن الأدوار "الطلائعية" في مقاومة الاستعمار فوجدن أنفسن في موقع جديد للمقاومة، ولكن هذه المرة من دون سلاح أو بسلاح الكلام. * ناقد واكاديمي مغربي.