بدا الأمر وكأنه يسير تلقائياً، من دون مفاجآت أو أية دواع لإثارة الغضب، ليلة اختتام مهرجان كان السينمائي لدورته الأخيرة، حين وقفت الممثلة شارون ستون تعلن ان الجائزة الأساسية: السعفة الذهبية كانت من نصيب فيلم "أندر غراوند" تحت الأرض للسينمائي البوسني/ اليوغوسلافي امير كوستوريتزا، في دورة تبدت، عن مقاييس عدة، واحدة من أكثر دورات مهرجان كان اهتماماً بالنوع على حساب الكم، وكشفت كم ان السينما قادرة على ان تلامس العالم وقضاياه، وتلقي على يأسنا وألمنا نظرة صائبة. عندما يكون لديك في دورة لمهرجان "كان" مستوى من الافلام قيل عنه انه، على الصعيد الفني على الأقل، واحد من أرفع المستويات التي عرفها هذا المهرجان منذ عشر دورات على الأقل، سيكون من غير المقبول بالطبع ان تعطى جائزة الاخراج للفرنسي الشاب ماتيو كاسوفيتز، فأمام مخرجين من مستوى جيمس آيفوري وكين لوتش وتيم بورتون وجيم جارموش، من الواضح ان الفرنسي الشاب لا يمكنه ان يصمد للمقارنة طويلاً. لكن "منطق" الأمور كان يجب ان يسير طبيعياً وكان لا بد لرئيسة لجنة التحكيم جان مورو ان تنال بعض الترضية وبعض الجوائز لاصدقائها قبل ان ينتهي بها الأمر الى الموافقة على التوزيع النهائي للجوائز. وهذا التوزيع بدا للجميع عادلاً الى حد كبير، حتى وان غابت عنه أسماء ثلاثة كانت كل الترجيحات تسير في اتجاهها: كين لوتش بفيلمه الكبير "الأرض والحرية" وجيم جاموش بفيلمه الشاعري الغريب "رجل ميت" ثم خاصة التايواني هيو هسياو هسيين بفيلمه الطويل الطويل "رجل طيب، امرأة طيبة". هذا الفيلم التايواني شكل، منذ البداية، ضلع مثلث ضم اليه فيلمين جاءا، بشكل أو بآخر، من البلقان: فيلم "اندر غراوند" لأمير كوستوريتزا، وفيلم "نظرة أوليس" ليثو انغلوبولوس. وهذا المثلث تألف من أفلام طويلة ترسم تاريخاً واحداثاً وتتجول بين عوالم راهنة كل الراهنية لتقدم جزءاً من سيرة تاريخ زماننا المعاصر، ودائماً عن طريق أشخاص أو مواقف وأحداث للوهلة الأولى شديدة الخصوصية، وربما ثانوية الأهمية أيضاً. من الحرب الى السينما بيد ان هذا الارتباط العضوي بالراهن وبالتاريخي، لم يكن السبب المباشر الذي جعل جائزتي المهرجان الرئيسيتين تذهبان الى "اندر غراوند" بالنسبة الى السعفة الذهبية والى "نظرة اوليس" بالنسبة الى جائزة المهرجان الكبرى. فالحال ان الفيلمين معاً يأتيان، مع نهاية القرن العشرين ليتوجان سمتيه الأساسيتين: سمة قرن المذابح والأكاذيب والفراغ الايديولوجي والاخلاقي من ناحية، ولكن من الناحية الثانية سمته كعصر للسينما. فكوستوريتزا وانغلوبولوس لم ينسيا هنا انهما فنانان ومن كبار مبدعي فن السينما. ومن هناك كان من الطبيعي ان يدور فيلماهما حول هذا الفن الخطير، الفن الذي يثبت في مئويته الأولى 1895 - 1995 انه لا يزال الفن الأخطر والأجمل والأكثر حساسية لما يدور حوله، من بين كافة الفنون. ولكن ليس هذا فقط، بل ان فيلمي كوستوريتزا وانغلوبولوس، وكل على طريقته، انما يأتيان مع خاتمة قرن السينما الأول ليكشفا لنا كم ان السينما باتت، أكثر من أي وقت آخر، فناً شاملاً، يضم في داخله الموسيقى والشعر والمسرح والفن التشكيلي. وفي هذا المعنى لا يبدو كوستوريتزا، الرائع، وريثاً لغريفيث وبونيال دفيسكونتي وحسب، بل يبدو كذلك وريثاً لدوستويفسكي وخوان بيرو واندريه بريتون. ففي "أندر غراوند" الذي هو في نهاية الأمر، فيلم عن الحرب والسينما، يمكننا ان نلمح ارتباط الفنان بالفنون التي سبقته، منذ حكاية القبول التي تحيلنا مباشرة الى قبو دو ستويفسكي الى تفاصيل قصف حديقة الحيوان وعودة الانسان، انطلاقاً من الحرب، الى حيوانيته الأولى وكوبريك ليس بعيداً، هنا، عن موضوع يبدو وكأنه مستقى في الاساس من قصة قصيرة لرومان جاري. في هذا الفيلم المجنون، والذي يشتغل وكأنه اوبرا كونية تضم كل شيء في رحاها وتتصاعد حتى "الكريتذو" الأخير، يقدم لنا أمير كوستوريتزا البوسني الذي يرفض تجزئة يوغوسلافيا، كما يرفض تاريخها وأكاذيبها، يقدم لنا روايته للأحداث، لخمسين عاماً من الوهم والأكاذيب، في فيلم أثار الاجماع منذ عرضه الأول. ومن هنا كان ذلك الشعود بالارتياح الذي خامر الجميع حين أعلنت شارون ستون، بجمالها الفاقع وثوبها الأحمر، ان السعفة الذهبية ذهبت الى صاحب "اندر غراوند". مأسوية الاغريق "اندر غراوند" هو الفيلم الخامس لأمير كوستوريتزا، ومع ذلك فإن هذه هي المرة الثالثة التي ينال فيها هذا المخرج الشاب جائزة اساسية في "كان" فمنذ عشر سنوات نال فيلمه "بابا في رحلة عمل" السعفة الذهبية، وبعد ذلك كان دور فيلمه الثالث "زمن الفجر" لينال جائزة الاخراج. وبالسعفة الذهبية التي نالها "اندر غراوند" يكون كوستوريتزا ضرب رقماً قياسياً يقترب منه اثنان فقط: الدانمركي بيل اوغست سعفتان ذهبيتان والاميركي فرنسيس فورد كوبولا سعفتان ذهبيتان. صحيح ان المجد كل المجد يحيط بالسعفة الذهبية عادة، ولكن من المعروف ان للجائزة الكبرى أهمية استثنائية ايضاً. ومع هذا كان اليوناني ثيو انغلوبولوس، الذي فاز أخيراً بهذه الجائزة، كان على شبه يقين من ان فيلمه "نظرة أوليس" سيحظى بالجائزة الأساسية، السعفة، لذلك بدا غضبه واضحاً حين أعلن فوزه بجائزة النقاد الكبرى وقال بكل وقاحة أنه لن يقول شيئاً لأن الخطاب الذي كان أعده للمناسبة كان مكتوباً على اساس الفوز بالسعفة الذهبية. على رغم التعاطف العام مع انغلوبولوس، وعلى رغم الاعجاب الشامل بفيلمه "نظرة أوليس" فإن حركته تلك أثارت استياء كبيراً، لم يخفف من وقعه سوى تذكر الجميع لواقع ان فيلمه الكبير يشفع له. فپ"نظرة اوليس" الذي - على غرار "اندرغراوند" - يستمر عرضه أكثر من ثلاث ساعات، هو بدوره لحظة كبيرة في تاريخ الفن السابع، وعمل كبير عن السينما نفسها، وكذلك عن حرب البلقان. ولكن لئن كان المخرج البوسني كوستوريتزا تعامل مع تلك الحرب بكل الهذيان الممكن وبكل الضحك الذي كان من شأن المتنبي ان يصفه بأنه "ضحك البكاء" فإن المخرج اليوناني ثيو انغلوبولوس تعامل مع فيلمه بكل الجدية والمأسوية اللتين تليقان بوريث كبير من ورثة الفواجع الاغريقية. عودة فندرز بكل بساطة يمكن القول بأن هذين الفيليمين كانا تحفتين سينمائيتين حقيقتين وأعادا السينما الى أصولها الأولى: سينما ترتبط بنبض الحياة وتستخدم كل العناصر الممكنة عناصر الفن وعناصر الطبيعة سواء بسواء، اضافة الى عناصر المسلك البشري، باعتبارها النجوم الحقيقية في الفيلم. مع هذين الفيلمين الكبيرين الفائزين، بدا واضحاً كما ان السينما تواقة للاحتفال بنفسها وبزمنها، بيد انهما لم يكونا الفيلمين الوحيدين في هذا المجال، بل يمكن ان نقول بكل بساطة ان السينما شغلت قسماً كبيراً من أفلام المهرجان، فيما شملت الطفولة ونظرة الأطفال الى العلم قسماً كبيراً آخر. فالسينما هي الموضوع الأساسي في فيلم "اندر غراوند" كما في "نظرة أوليس"، ولكن ايضاً في فيلم ايراني رائع هو "سلام سينما" لمحسن محملبوف، وفي فيلم تيم بورتون "اد وود" الذي يروي جانباً من حياة ومغامرات ذاك الذي يعتبر "اسوأ مخرج عرفه الفن السابع في تاريخه". والسينما ايضاً هي الموضوع الاساسي لفيلم تيم فندرز الجديد "قصة لشبونة" الذي يعود فيه هذا المخرج الالماني الى سابق عهده يصنع الأفلام الحميمة الثاقبة والجيدة، بعد فشلين من المدهش انه تمكن من هضمهما بسهولة. هذا كي لا نذكر سوى عدد قليل من أفلام دارت من حول السينما. أما بالنسبة الى الطفولة فإنها تجلت اساساً، في العديد والعديد من الأفلام، من فيلم "انجيل اليتون" لتر من دايفيز الى "حكاية الجواهر الثلاث" للفلسطيني ميشال خليفي، الى "البالون الأبيض" للإيراني جعفر باناهي نال عن جدارة جائزة الكاميرا الذهبية، الى "أطفال" للاري كلارك... "سينما وطفولة" ونساء جميلات... كان في وسع ناقد صديق ان يضيف. فمهرجان كان بدا هذه المرة غاصاً كعادته بنساء آتين من جميع أنحاء العالم. ومن هنا لم يكن من قبل المصادفة ان تترأس لجنة التحكيم امرأة جان مورو وان تتولى تقديم العروض امرأة كارول بوكيه وان تقدم الجائزة الاساسية والسعفة الذهبية، امرأة ثالثة هي هذه المرة الفاتنة شارون ستون. ولكن لئن كان الحضور النسائي قوياً الى هذا الحد، فإن الحضور النسائي على الشاشة تبدى أكثر تكتماً، حتى وان كانت هناك أدوار نسائية عرفت كيف تلفت الأنظار حقاً. من ايما طومسون في "كارينغتون" الى جينا رولندز أرملة جون كازافيتش في "انجيل النيون" الى الصينية غونغ لي في "مافيات شانغهاي" فيلم جنغ ييمو الجديد، الذي لم يعرف كيف يفرض نفسه على رغم جماله المطلق. إن حضور هؤلاء الفنانات الكبيرات كان في الواقع السبب الأساسي الذي جعل الشعور بالخيبة يطغى عند اعلان الجوائز حين فازت الانكليزية هيلين ميرن بجائزة أفضل تمثيل نسائي عن دورها في فيلم "جنون الملك جورج" من اخراج نيقولاس هيتز. فلا الفيلم ولا الدور بديا متميزين بأي حال من الأحوال، خصوصاً ان هيلين التي سبق لها ان فازت بالجائزة قبل سنوات أدت هنا دور الملكة شارلوت، وهو دور ثانوي. السينما روح العصر ولكن لئن كان اعطاء جائزة التمثيل النسائي لهيلين ميرن، أثار شيئاً من الاستياء فإن فوز مواطنها جوناثان بيرس بجائزة أفضل تمثيل رجالي عن دوره الرائع في فيلم "كارينغتون" نال تصفيقاً واجماعاً كبيرين. فالرجل تبدى في أدائه لدور الناقد الأدبي الشاذ، شكسبيرياً ومعاصراً الى ابعد الحدود في الوقت نفسه، وهو أثبت هنا مرة اخرى ان الانكليز هم سادة التمثيل في العالم. وإنك ان لم تمر بشكسبير ولو مرة في حياتك، سوف لن تكون ممثلاً كبيراً على الاطلاق. "كارينغتون" الفيلم الذي فاز عنه جوناثان برايس بجائزته المستحقة، فاز بجائزة اساسية ثانية هي "جائزة لجنة التحكيم الخاصة". ولعل فوزه بجائزتين معاً هو الذي أوجد ذلك الشعور بالظلم الذي استشعره الجميع ازاء فيلم كين لوتش الكبير "الأرض والحرية"، خصوصاً وانه حتى اللحظة التي عرض فيها "نظرة أوليس" ثم خاصة "اندر غراوند" كان ثمة اجماع لا نقاش فيه على ان السعفة الذهبية سوف تكون من نصيب هذا الفيلم الجميل والغني بالأمل، الذي يروي فصلاً عن فصول الحرب الأهلية الاسبانية ليستخلص درساً في الشجاعة يقف ضد تيار اليأس والسوداوية السائد في ظل عصر أفول الايديولوجيات. نفحة الأمل التي حملها "الأرض والحرية" كانت على أي حال، ضرورية هنا وأتت لتسير في عكس تيار المزاج العام السائد: هذا المزاج الناتج عن الوضعية التي يجد العالم نفسه متخبطاً فيها في سنوات التسعين. ولعل ما يمكن قوله في هذا المجال ان السينما المعاصرة، كما عبر عنها مهرجان كان في دورته الأخيرة، تبدت شديدة الحساسية ازاء ما يحدث، ولكن دون ان تفقد، في الوقت نفسه، قدرتها على ان تكون فناً جميلاً وذاتياً أيضاً. ففي سينما هذه الدورة كانت كل القضايا الكبرى حاضرة: الحرب واكاذيبها وصولاً الى عبثية حرب البوسنة والبلقان في "اندرغراوند" كما في "نظرة اوليس"، انسداد الأفق امام الشبيبة في "أطفال" ولكن ايضاً في "الحقد" لماثيو كازوفيتس وفي "باي باي" كريم دريدي، انهيار براءة الطفولة أمام قسوة العالم في "انجيل النيون" لتيرنس دايفيز كما في "حكاية الجواهر الثلاث" لميشال خليفي، داء السيدا "لا تنسى انك ستموت" للفرنسي كزافييه بونوا، غياب الديموقراطية خاصة في "رانغون" لجون بورمان، التعصب في "انجيل النيون"، مشاكل الضواحي وفساد القيم في "الحقد". بغوصها في هذه القضايا وبمواكبتها لروح العصر، من المؤكد، ان السينما تجد نفسها هنا كحاملة البيرق للشرط الانساني المتجدد والمحيّر. وهما تجدد وحيرة وجدا في بعض أروع افلام هذه الدورة تجلياً لهما: من الاحساس بالعبثية، الى معجزة الموت والولادة الجديدة في ويسترن جيم جارموش الميتافيزيقي "رجل ميت". الى انكفاء الانسان على شرطه الحيواني الأصيل لدى كوستوريتزا الى بحث السينما عن دورها وجوهر وجودها كما لدى فيم فندرز وانغلوبولوس... الخ. غير ان "كان" ليس أفلاماً - رائعة أو أقل روعة - وحسب، بل هي حضور أيضاً وزحام وهواة سينما ونشاطات تدور من حول الفن السابع، ولكن ايضاً: عرب، عرب كثيرون، عرب سينمائيون وغير سينمائيين، نجوم وأنصاف نجوم، نقاد وأنصاف نقاد، أثرياء ومدّعو الثراء. الحضور العربي في "كان" كثيف وملحوظ، ولكن يزيد من غرابته انه حضور لا يجد أي تبرير له في عروض المهرجان نفسها. فإذا استثنينا فيلم ميشال خليفي "حكاية الجواهر الثلاث" الذي سنعود الى الحديث عنه في عدد مقبل سنجد ان الغياب السينمائي العربي كان فاضحاً هذه المرة. اذ، حتى سوق الفيلم خلت من أية عروض عربية، هذا على الرغم من أن اللجان المكلفة باختيار عروض "كان" كانت شاهدت أفلاماً عربية عدة، ومن بينها فيلم فريد بو غدير الجديد "ذات صيف في حلق الوادي"، لكنها رفضتها جميعها. ومن هنا اضطر العرب لأن يتمثلوا سينمائياً بفيلم واحد هو "حكاية الجواهر الثلاث" واضطروا لأن يكتفوا من غنيمة "كان" بالحوارات التي لا تنتهي حول مستقبل السينمات العربية وجدوى التعاون وضرورة الحضور بشكل جديّ في المرات المقبلة. ومع هذا لم يخلُ الحضور العربي من خروج ملموس عن قوقعة الذات واهتمام بالسينما لوجه السينما نفسها، وعلى هذا النحو مثلاً كان جميلاً، على الأقل، منظر ثلاثة من النجوم العرب: ليلى علوي، لبلبة، ومحمود حميدة، وهم يتنقلون بين فيلم وآخر، ويسعون بعد عرض الفيلم الى لقاء نقاد عرب يثقون بهم لمناقشتهم في ما شاهدوه. كان جميلاً ذلك المشهد، حتى وإن شعر العرب جميعاً ها هنا بأنهم انما يلعبون دور الشاهد الحيادي في لعبة تكريم السينما لنفسها وأوروبا لنفسها. وهو تكريم عكسته الجوائز، التي كانت في نهاية الأمر جوائز أوروبية، تعطى لأفلام صنعت عن أو في أوروبا، أو في احوال أخرى موّلت - كلياً أو جزئياً - بأموال أوروبية. وفي هذا السياق لا بد أن نشير الى أن الافلام القليلة التي أتت من آسيا ومن أفريقيا، حققت كلها بفضل الأموال الأوروبية عموماً والفرنسية بشكل خاص. بل ان هذا ينطبق كذلك على الفيلم الصيني "مافيات شانغهاي" لجنغ ييمو ومن تمثيل الرائعة غونغ لي. هذا الفيلم صحيح ان لجنة التحكيم نسته وتجاهلته كلياً، بيد أن اللجنة التقنية العليا للصورة والصوت عوضت على ذلك النسيان بمنحه جائزتها. فيلم جنغ ييمو، قد لا يكون أفضل أفلام هذا المخرج الذي قدم من قبل أفلاماً ملفتة مثل "أن تعيش"، غير انه بكل المقاييس فيلم جيد، عرف فيه مخرجه كيف يحصل منه، في نهاية الأمر، تحية خالصة لاستاذ كبير هو الألماني/ النمسوي جوزيف نون ستتيرنبرغ، ذاك الذي عرف كسينمائي مبدع واستثنائي لكنه عرف أيضاً بوصفه الرجل الذي وقع في هوى مارلين ديتريك فجعل من كل افلامه تحية حب وتبجيل لجمالها ولحضورها الطاغي. ومن الواضح، في حالة جنغ ييمو، انه بدوره حاول ان يجعل من "عصابات شانغهاي" فيلم حب وتحية لفاتنته وملهمته غونغ لي، التي تستعد لتركه الآن، وهو - والحق يقال - نجح في ذلك الى حد بعيد. فالفيلم على الرغم من امتلائه بالأحداث والصراعات بين عصابات تلك المدينة الصينية في سنوات الثلاثين، وعلى الرغم من انه ينطلق كله - كما العديد من أفلام المهرجان الأخرى - من نظرة طفل بريئة تلقى على العالم، فإنه في نهاية الأمر فيلم عن الفاتنة غونغ لي. فيلم حملته بادائها الكبير ونظراتها المقلقة وهدوئها الذي يخفي وراءه ألف عاصفة وعاصفة. ليلة الثامن والعشرين من أيار مايو ختم مهرجان كان أعماله ووزع جوائزه، ومنذ صباح اليوم التالي توزع الحضور وخلت كان الا من قاطناتها العجائز وكلابهن المدللة، وذهب كل سينمائي عائداً الى عمله وعم الهدوء كل شيء.