منذ أواخر كانون الاول ديسمبر الماضي، وحتى منتصف كانون الثاني يناير من العام الحالي، كانت بطاقات التهنئة بالسنة الجديدة المتساقطة على مكتبي تنتظر رداً على مرسليها، ولكنني كنت مشغولاً بأمن دخلي يرهقني بأحداث متلاحقة في غير منطق، متدافعة الى غير وجهة واضحة. "سيدي اتمنى لكم عاماً سعيداً حافلاً بالنجاح والمسرة"، "سيدتي، أرجو ان تكون سنة 1995 سنة يمن وسعادة لكل ولذويك"، "أجمل التمنيات بالعام الجديد"... عبارات مستهلكة تحملها البطاقات الملونة في تلطف فج وتودد مصطنع. كان علي بمقتضى العادة، ان أفلت من خواطري لأفتعل البشر والتفاؤل وأنخرط في تلك الحملة التي تخرج الافراد من عزلتهم وتزج بهم في سيرك الاحاسيس الساذجة والأمنيات المتطايرة. فقاقيع ما أسرع ما تنفجر وتضيع شحنتها العاطفية، بينما تمضي السنة كسابقاتها، يجري بها قدر لا تملك ان تحوله الكلمات. الناس يتراشقون، لفترة قصيرة، بأوراق ملونة تلمع ببريق زائف ثم يعودون، على وقع الارزاء المستمرة على ظهر الكوكب، الى عزلتهم الداخلية. أرسلت في بادئ الأمر، بطاقتين او ثلاثاً الى اشخاص تربطني بهم علاقات مهنية او مجاملات اجتماعية. ثم شعرت بتأنيب ضمير، اذ ألفت نفسي قد آثرتهم على اصدقاء أقرب الى نفسي. وخلصت الى نتيجة ان المعايدة لعبة خاضعة لعرف اجتماعي منافق، فلم ارسل بعد ذلك اي بطاقة، مكتفياً ببعض مكالمات هاتفية مع صفوة من الاحباب شاقني الاستماع الى اصواتهم طلباً لدفء العبارة الصادقة. وعدت الى زمني الداخلي وكان يموج يومئذ بانجرافات غامضة وانفجارات تطاول ذرى صبري وجلدي على تصاريف الحياة. انه زمن يغتذي بالمآسي التي تتابع فوق ارض البشر، فتتضخم اصداؤها في اجواء التوجس الباطني الساكني في عمق الانسان والموروث عن عصور رعب قديمة. قلت في نفسي لو كان في المعايدة صدق لكتبت مثلاً: "سيدي او سيدتي ان بي مرارة تلازمني كأنني رهين حبس لا منظور بين الناس، فكيف احس بوجودك اصلاً، كي اتمنى لك سنة سعيدة!". الآن وقد عبر منها شهران كاملان، نتأكد من ان هذه السنة الجديدة لم تحمل في حقائبها الامل وهي تهل وسط مشاهد التقتيل الجماعي اي في رواندا، ولم تلق بلسماً على جراح ساراييفو، ولم تخفف من وطأة القدم الساحقة على غروزني، بل اهدت للعالم حرباً جديدة في فردوس الأمازون، على حدود الاكوادور والبيرو. كانت اطلالتها في ايام شتائية عربدت فيها السيول فأغرقت اوروبا في الوحل وحملت الثلج الى الهضاب التونسية. وهذا ليس الا ديكور الفصل الافتتاحي في تراجيديا سنة 1995 التي تتدفق صوراً عبر عين التلفزيون الوقحة التي لم تعد منذ امد تدمع لحزن او تطرف لسفالة. هذا زلزال "كوبي" يجدد عهد اليابانيين بقدر كارثي، وزلازل اخرى في الروح مما يحدث هنا وهناك في ا لوطن العربي ومن تعالي المزايدات حول القدس كحمى عارضة تتقد بهشيم الكلمات ثم لا تلبث ان تخبو في لا مبالاة مطبقة. حقاً ان الومضات الاشهارية ابلغ وقعاً في النفس من قرارات مجلس الأمن وأكثر افادة من التحقيقات حول الحملة الانتخابية الفرنسية حيث يبدو المترشحون، أولئك المتاجرون بالأمل، في تراهنهم على الفوز بسدة الحكم تماماً كخيول تعدد خصالها وتستعرض اوصافها قبل النزول الى الحلبة. قد لا تكون هذه السنة اكثر او اقل سوءاً من سابقاتها، غير ان احساساً يلازمني بأن بشراً كثيرين سيكونون خلالها اكثر بؤساً وأقل رجاء وأضعف حيلة في التحكم بمصيرهم. ان مبادئ "العدل" و"التضامن" و"السلام" و"الشرعية الدولية" ستشهد كغيرها من نتاجات هذا الزمن، انهياراً في الاسعار وستعرض للبيع مع "تنزيلات" هامة في ظل النظام العالمي الجديد. وازاء هذا الواقع يبدو الأمل احساساً مخادعاً للذين يشهدون منكسرين صولة الأقوياء وصلفهم وتهديدهم لمستقبل الحياة. فالأنسب اذاً ان نتمنى لهؤلاء الصبر على ما هم فيه، وان نقر بأن السنة الجديدة انما تفتح ذراعيها للأقوياء ... وكل ما عدا ذلك انما هو باطل وقبض الريح. * شاعر وناقد تونسي.