في ختام هذه الجولة على السينمات العربية كما تبدو خلال سنوات التسعين وتحديداً في مئوية السينما الأولى، وبعد ان تجولت "الوسط" في باريس والمغرب والجزائر وتونسولبنان وفلسطين وسورية، تصل الى مصر لتطرح اسئلتها على سينماها. "هل تريد أن تعرف الفارق الأساسي بيننا وبين يوسف شاهين؟ حسناً سأقوله بكل بساطة: انظر الى صورة جمال عبدالناصر هذه، موت هذا الزعيم هو بالنسبة الى شاهين نهاية حياته ونهاية العالم، أما بالنسبة الينا فموته هو بداية التاريخ وبداية حياتنا. موت عبدالناصر كان، على مأسويته والحزن الذي أثاره بيننا جميعاً، الفاصل بين جيلين، جيل وقف معتقداً ان حركة التاريخ انتهت، وجيل ادرك ان عليه ان يبدأ. هما جيل شاهين وجيلنا". قائل هذا الكلام هو يسري نصرالله، الذي يمكننا ان نجد اسمه بين اسماء العاملين في كافة افلام يوسف شاهين الاخيرة. لكن اهمية يسري نصرالله لا تكمن في تعاونه الدائم مع شاهين، بل في الفيلمين اللذين حققهما حتى الآن، اولهما "سرقات صيفية" عند نهاية سنوات الثمانين، وثانيهما "مرسيدس" قبل عام ونصف العام. وإذا اخذنا كلام يسري نصرالله وحاولنا قراءة سينماه وسينما يوسف شاهين سنجد انفسنا، بالفعل، في مواجهة عالمين لا يمت أحدهما الى الآخر إلا بالقليل من الروابط الشكلية ليس اكثر. فالحال ان سينما يوسف شاهين، منذ "الاسكندرية ليه؟" وحتى "المهاجر" تبدو وكأنها سينما تقف خارج التاريخ الراهن عبر غوصها في التاريخ المنصرم بالمعنيين: تاريخ الذات، وتاريخ التاريخ من "بونابرت" الى "اليوم السادس" الى "المهاجر" سعى شاهين الى ازمان خالية يروي حكايتها، محاولاً فقط، ان يجد دروساً يمكنه اطلاقها وتعميمها ليقول انه انما يحاول ان يقول الحاضر من خلال الماضي، وهو ليس واضحاً كل الوضوح. كما انه من "الاسكندرية ليه؟" الى "حدوتة مصرية" الى "اسكندرية كمان وكمان" التفت الى داخليته سابراً أغوار ماضيه الخاص. ولئن حرص شاهين على ان يربط بعض العام ببعض الخاص في افلامه، فإنه في جميع الاحوال ظل واضحاً انه عاجز تماماً عن قراءة الحاضر إلا في معانيه الاخلاقية العامة، عبر رسمه لمنظومة قيم تصلح لكل مكان وزمان. وذلك هو، على أي حال، العنصر الأساسي الذي يمكن اشتفافه من دلالات فيلمه الأخير "المهاجر". من الطبيعي القول ان احتواء "المهاجر" على مثل هذه القيم المطلقة لا يبرر وحده النجاح والضجيج الذي كان من نصيب هذا الفيلم، ولا تدفق المتفرجين - في القاهرة على الاقل - لمشاهدته قبل تعليق عرضه من قبل السلطات بحجة ان فيه ما يمس الأديان السماوية. ما يبرر نجاح "المهاجر"، هو في الأساس الضجيج الذي قام من حوله، وهو خاصة ان يوسف شاهين اصبح في مصر - على الأقل - مؤسسة كما هو حال نجيب محفوظ، وكما كان حال محمد عبدالوهاب وأم كلثوم في زمنيهما. وتحول يوسف شاهين الى مؤسسة أمر له بالطبع حسناته وسيئاته، وانعكاساته لدى الجمهور العريض هذه المرة، ولكن ايضاً في الخارج. فاليوم لم يعد من العسير على شاهين ان يشعر انه غير محتاج للأسواق المحلية المصرية والعربية الاخرى كي يتمكن من اعادة انتاج افلامه. فهو، ما ان يطل بمشروع من مشاريعه حتى يكون قادراً على الحصول ما هو بحاجة اليه من رأسمال اجنبي بصرف النظر عما اذا اسفر مشروعه عن نجاح أو عن فشل. "بهذا المعنى بات شاهين يشكل حاجزاً وسداً منيعاً في وجه تطور سينما مصرية حقيقية"، يقول مخرج شاب لا يفوته ان يعبّر عن افتخاره بأنه لا ينتمي الى مدرسة شاهين. ويضيف هذا المخرج: "لقد بات المخرج الشاب محكوماً بإحدى وسيلتين: إما أن يكون من شلة شاهين فيحصل على اموال اجنبية تمكنه من انتاج افلامه، وإما ان ينخرط في تحقيق ما يسمى بأفلام المقاولات ريثما يصنع لنفسه اسماً يمكنه من التحليق بجناحيه". هل هذا الكلام صحيح؟ في السينما المصرية خلال سنوات التسعين لا يبدو هذا التشخيص دقيقاً كل الدقة، ولا سيما في الجانب الثاني منه. قد يكون صحيحاً، من ناحية أولى، ان انتساب مخرج شاب الى "تيار يوسف شاهين" من شأنه ان يسهل عليه العثور على انتاج مشترك في الخارج. اذ من الواضح ان العدد الضئيل بين الافلام المصرية التي نالت عوناً اجنبياً، في فرنسا او المانيا او غيرهما، تحمل تواقيع مخرجين لا يحاول اي منهم ان يخفي انتماءه الى عوالم يوسف شاهين: من أسماء البكري "شحاذون ونبلاء" الى يسري نصرالله مروراً بخالد الحجر "احلام صغيرة" وربما ايضاً بزكي عبدالوهاب ابن فطين عبدالوهاب وليلى مراد الذي انتهى اخيراً من تحقيق فيلمه الأول "رومانطيقا". ولكن، في كل هذه الحالات، يظل ثمة سؤال حائر هو: ما معنى ان ينتمي مخرج شاب الى عوالم شاهين؟ في الحقيقة: لا يعني هذا أي شيء على الاطلاق. فكما هو الأمر بالنسبة الى حالة يسري نصرالله، نجد انفسنا هنا أمام سينما تختلف كلياً في مضامينها وأساليبها وأهدافها، عن سينما شاهين، وان كانت تنطلق من الرغبة نفسها في تحقيق سينما تخرج عن السائد وتسلك طريق الجرأة في طرحها للأمور الشائكة. وحتى لئن كان بإمكان المراقب المدقق ان يلاحظ بعض التشابه في التلعثم وفي رسم الشخصيات وتشعيب علاقاتها وبعض التفكيك المقصود في السيناريو فإن التشابه والانتماء يتوقف ها هنا. تراجع الواقعيين الجدد يبقى ان هذا الجيل "الشاهيني" - بشكل أو بآخر - والذي تبدو سينماه وكأنها السينما الأقدر على التجديد في سنوات التسعين، هذا الجيل يلوح لنا وكأنه يحقق ثأر يوسف شاهين من سينما الواقعية الجديدة التي سادت مصر خلال سنوات الثمانين، على أيدي مخرجين من أمثال عاطف الطيب ومحمد خان وخيري بشارة ورأفت الميهي وعلي بدرخان. فهؤلاء، وباستثناء علي بدرخان الذي كان يعلن نوعاً من "الشاهينية" الغامضة، حققوا أفلاماً متميزة جعلت السينما المصرية تعيش تجديداً سليماً وبيناً خلال سنوات الثمانين، دون أي ارتباط لهم بيوسف شاهين. والغريب في الأمر ان ذلك التيار "الواقعي الجديد" سار يومها بالتوازي مع تنامي سينما عربية متميزة حققت خارج مصر في سورية مع محمد ملص واسامة محمد، وفي لبنان، وفي تونس والمغرب والجزائر ولكن في الوقت الذي كانت السينما العربية خارج مصر تعلن انتماءها إلى سينما شاهين بشكل أو بآخر كانت السينما المصرية الجديدة تصرّ على الخروج من الشباك الشاهينية بأقل الخسائر الممكنة. غير ان اللافت في هذا كله هو ان شاهين ظل، بالتصادم معه كما بالتلاقي مع سينماه، يشكل المرجع الأساسي: المرجع الغائب في حالة سينما الثمانينات المصرية. اليوم، وفي الوقت الذي ينمو جيل جديد من سينمائيين مصريين ينتسب إلى عوالم شاهين، بأشكال تزداد غموضاً وإثارة للاحتجاج، يبدو التيار الشاهيني وكأنه قد تفجر من داخله، ولم يعد قادراً على أن يتقدم خطوات أخرى كتيار، وإن كان أصحابه يشكلون أساس السينما السائدة في مصر، وإن بحدود معينة. فحين أطلت سنوات التسعين، كان محمد خان يلفظ كل مكتسباته الاسلوبية وموضوعاته التي شكلت أعمدة أفلامه الرائعة من "الحريف" إلى "خرج ولم يعد" ومن "أحلام هند وكاميليا" إلى "سوبر ماركت" إلى "فارس المدينة". وتجلى ذلك اللفظ عبر ثلاثة أفلام هي فيلموغرافيا محمد خان في التسعينات: "الغرقانة" و"مستر كاراتيه" وأخيراً "يوم حار جداً". ثالث هذه الأفلام لم تقيض لنا مشاهدته حتى الآن، لكن الأفلام الثلاثة معاً تتراجع، بالتأكيد، عن بعض السمات التي كانت شكلت أسس سينما محمد خان. فحتى حين كان خان يستخدم النجوم، كان يستخدمهم لخدمة الفيلم ويحولهم إلى بشر عاديين، أو أناس يطرحون ذواتهم على بساط البحث. وكانت المدينة المكان بشكل عام يلعب دوراً أساسياً في الفيلم وكأنه شخصية من لحم ودم، وكان الفيلم كله سؤالاً مطروحاً على الواقع وعلى الحياة. هذا كله يبدو اليوم غائباً، وتبدو سينما محمد خان منخرطة في لعبة السائد، حتى من دون ان تعود عليها من ذلك الانخراط فوائده المرجوة. فهل هذا لأن محمد خان لا يزال حتى الآن يدفع ثمن مغامرته المجنوعة في "فارس المدينة". ابداً، يقول محمد خان "كل ما في الأمر انني بعد فارس المدينة الذي كان، كما وصفته أنت بالذات خلاصة لعملي السابق، كنت بحاجة إلى بعض المراجعة مع الذات ولأن أطرح على نفسي أسئلة حول السينما ودورها ومستقبلها. وفي اعتقادي ان "الغرقانة" و"مستر كاراتيه" يحملان خلف واجهتهما البراقة، أسئلة من هذا النوع حول السينما والصورة والاسطورة، فإذا كانت هذه الأسئلة فشلت في الوصول إلى النقاد، يتعين البحث عن سبب هذا الفشل دون أن ننسى أن الجمهور العريض تبعنا وأدرك ما نريد قوله في الفيلمين". - هل هي، إذن، مشكلة نقاد يا محمد خان؟ "إلى حد ما، أجل، فالناقد يرسم عالماً يريد للسينمائي أن يقولب نفسه على أساسه غير مدرك أن الدور الأول للفنان هو المشاكسة، والمشاكسة على النقد كذلك". من شاهين إلى الشاهينيين مراهنة محمد خان المتجددة على تمرير فيلمه عبر العلاقة بين النجم، والموضوع الجذاب، من ناحية، وبين الجمهور "العريض" من ناحية ثانية، تبدو مشروعة ولا سيما بالنسبة إلى السينما المصرية التي تبدو أقل من كافة السينمات العربية الأهرى قدرة على التجريب بسبب تراثها المكبل لها أو بسبب كونها السينما الوحيدة التي لها جمهورها. و"أقل تجريبية في هذا المجال قد تكون قاضية ليس على مشروع واحد فقط، بل على تيار بأسره"، كما يقول ناقد حديث يلفت النظر إلى أن اخفاق "وداعاً يا بونابرت" قد وضع على الرف العديد من المشاريع "أما إذا كان مرسيدس يسري نصرالله أفلت من هذا المصير، رغم ان عرضه القاهري لم يدم سوى ثلاثة أيام، فما هذا إلا لأنه حقق بأموال أوروبية انفقت عليه، ليس لكي يدر أرباحاً ولكن لكي يوجد وحسب". مهما يكن فمن الواضح ان كل النجاح الذي حققه "مرسيدس" في الخارج، وكل السمعة التي حصل عليها في المهرجانات، لم تشفع له لدى جمهور يقف، بطبعه، ضد كل تجريبية. فكيف إذن تمكن "المهاجر" من تحقيق النجاح الذي حققه؟ عن هذا السؤال تجيب ناقدة صديقة بقولها: "المهاجر، على أي حال، ليس فيلماً تجريبياً من ناحية اسلوبه السردي. بل هو أكثر أفلام شاهين خطية وكلاسيكية، وهنا نجد أنفسنا مرة أخرى أمام شاهين وقد قدم العديد من التنازلات على صعيد الاسلوب الشكلي. ثم ان الحكاية نفسها التي يقتبسها الفيلم، حكاية معروفة لا تحتاج من الجمهور إلى أي جهد لمتابعتها". الجهد يفرض نفسه، في المقابل، من أجل فهم أساليب ثلاثة مخرجين مصريين على الأقل، أولهم يسري نصرالله الذي عمد في "مرسيدس" إلى تفجير اسلوبه بشكل خلاق، تفجيراً ربط الشخصيات ببعضها البعض وشبك الأحداث بحيث خلق للفيلم أصواتاً متوازية عدة. اسلوب شبيه بهذا تبعه شريف عرفة، منذ أفلامه الأولى التي كشفت عن توجه فانتازي جديد، شاركه في المسؤولية عنه كاتب السيناريو ماهر عواد. في فيلمين على الأقل من أفلام شريف عرفة: "سمع هس" و"يا مهلبية يا" تمكنت هذه السينما من أن تخرج كلياً عن المألوف عبر مزج الخيال بالواقع في بعد ما - بعد - حداثي، بعد أن استمد واستكمل مسيرته انطلاقاً من بعض تجارب رأفت الميهي لكي يطورها في ما بعد، في "الارهاب والكباب" كما في "المنسي" والفيلمان من تمثيل عادل امام، وعاد شريف عرفة الى نوع من الكلاسيكية التي افقدت سينماه بعض سحرها وان كانت قربتها اكثر في اتجاه الجمهور العريض. فهل جرى هذا تحت ضغط عادل امام، الذي لم يعد منذ "الحريف" على الأقل راغباً في خوض أية تجريبية تسيء الى علاقته المميزة مع جمهوره، كما يقال؟ ليس هذا التفسير دقيقاً. اذ، بعد كل شيء، علينا ألا ننسى ان عادل امام كان عمل مع شريف عرفة نفسه في واحد من الافلام الاكثر طموحاً "اللعب مع الكبار". الاتجاه الى الكلاسيكية على حساب "فانتازيا" يبدو انها استوفت كل اغراضها لدى شريف عرفة، يبدو وكأنه توجه ارادي سلكه شريف عرفة نفسه، الذي يبدو لنا على أي حال كواحد من اكثر مخرجي جيله رغبة في التجديد والتنويع. سينما قادرة على التنويع مهما يكن فإن هذين التجديد والتنويع يبدوان وكأنهما السمتان الاساسيتان اللتان تطبعان توجهات السينما المصرية في التسعينات. ومن المؤكد ان هذين العنصرين، من دون ان تكون ثمة رغبة في ايصالهما الى حدود التجريبية المطلقة، نالا ما هما بحاجة اليه من تشجيع أولاً بفعل النجاحات التي كان سينمائيو الموجة الجديدة حققوها خلال الثمانينات، ولكن ايضاً بفضل تقلبات الجمهور الذي لم يعد بإمكان أحد ان يتنبأ سلفاً باختياراته. ولعل المثال الأكثر سطوعاً على هذا، هو النجاح الكبير الذي حققه فيلم "ثلاثة على الطريق" لمحمد القليوبي. فكل شيء في هذا الفيلم كان يفيد بأنه سيكون ذا نجاح متوسط وعادي. فهو من ناحية الفيلم الاول لصاحبه، وهو من ناحية ثانية يصور رحلة عبر مصر، ومن المعروف انه ندر لفيلم "متنقل" ان حقق نجاحاً في مصر. ولكن "المعجزة" حصلت، وحصد الفيلم نجاحاً تجارياً ادهش اصحابه قبل ان يدهش أي شخص آخر. هذا النجاح هو الذي أتاح لمحمد القليوبي ان يخوض تجربة ثانية في فيلم طريف وبسيط عنوانه "البحر بيضحك ليه". هذا الفيلم الذي كان واحداً من أربعة أفلام مصرية عرضت خلال مهرجان القاهرة السينمائي الاخير ولفتت الانظار، يكشف بحد ذاته عن قدرة السينما المصرية على التنويع، في وقت تعيش فيه هذه السينما فترة انتقالية مدهشة. وهذا الانتقال يتمحور من حول سؤال أساسي هو: ما هي السينما السائدة وما هي السينما الطليعية في مصر اليوم؟ اذا كان في وسعنا ان نورد بعض عناصر الاجابة، كما فعلنا في السطور السابقة، فإن أي استنتاج نهائي لن يكون ممكناً في هذا السياق، خصوصاً وان أي تيار بات عاجزاً عن التحول الى مدرسة: فإذا كان من الطبيعي اعتبار فيلمين لشريف عرفة على الأقل، امتداداً غير ارادي لمدرسة كان رأفت الميهي واحداً من مؤسسيها مدرسة السينما "الفانتازية"، واذا كان يمكن اعتبار فيلم "الحب في الثلاجة" لسعيد حامد، امتداداً لسينما شريف عرفة كاتب السيناريو ماهر عواد بأسلوبه المميز هو على أي حال، صلة الوصل بين عالمي شريف عرفة وسعيد حامد فإن بامكاننا ان نتوقف عند واقع اساسي يقول انه في الوقت الذي عاد شريف عرفة وتخلى عن "فانتازيته"، فإن رأفت الميهي فجّر اسلوبه الى حدوده القصوى في فيلمه الاخير "قليل من الحب، كثير من العنف". ففي هذا الفيلم خلق رأفت الميهي عالمين متوازيين واتبع اسلوباً تخريفياً حديثاً من المؤكد ان سماته سوف تتأخر في الوصول الى الجمهور. ومن هنا القول بأن "قليل من الحب، كثير من العنف" فيلم مستقبلي، خطوة قد يكون من الصعب خطوها، وذلك لسبب بسيط، وهو ان الفيلم في جانب اساسي منه فيلم معاصر الى ابعد حدود المعاصرة وواضح ومفهوم في نظرته الساخرة التي يلقيها على الواقع. مشكلة الفيلم ان "التأثيرات" الاساسية فيه، والتي تشبه شخصية رأفت الميهي نفسه، تظل عاجزة الآن عن الوصول الى الجمهور رغم دورها الاساسي في الفيلم. بعد كل شيء، اذا كانت سينما رأفت الميهي انقسمت دائماً الى تيارين اساسيين: تيار واقعي وتيار فانتازي، فإن الميهي عرف هنا كيف يمزج بين التيارين في بوتقة واحدة بحيث يمكن اعتبار هذا الفيلم الذي أدت دوره الرئيسي ليلى علوي بابداع جعلها تنال، عن حق، جائزة أفضل ممثلة خلال مهرجان القاهرة محصلة حياة رأفت الميهي السينمائية. وبعده بات على مخرجنا ان يعثر على طريق جديدة يخوضها. من بشارة الى عاطف الطيب هذه الطريق يبدو ان خيري بشارة قد عثر عليها. فبشارة الذي كان عبر افلام مثل "العوامة رقم 70" و"الطوق والاسورة" وحتى "يوم مر يوم حلو" واحداً من ابرز صانعي الموجة الجديدة في الثمانينات، عرف في التسعينات كيف يحقق سينما مختلفة، وسائدة في الوقت نفسه: سينما ما - بعد - حديثة، تخلط الواقع بالأفق المسدود آيس كريم في جليم والكوميديا الموسيقية بالنظرة الصارمة الملقاة على الواقع كابوريا والتساؤل الفلسفي بالسؤال عن مقومات النجاح والسعادة حرب الفراولة، في كل هذه الافلام كما في غيرها، وفي الوقت الذي راح خيري بشارة يسعى للوصول الى سينما شعبية، سعياً أوصله لأن يصبح واحداً من رموز السينما السائدة في مصر اليوم، بكل ما تحمله هذه العبارة من تناقضات، في نفس هذا الوقت تمكن بشارة من ان يحقق انجازاً طريفاً: فهو على عكس عاطف الطيب الذي يبدو التفاوت لديه بين فيلم وآخر، يضع التفاوت والقوة والضعف داخل الفيلم الواحد، بحيث ان المتفرج أو الناقد يجد نفسه في النهاية وامام كل فيلم من افلام خيري بشارة الجديدة، عاجزاً عن معرفة ما اذا كان أحب الفيلم أم لا. الذين شاهدوا فيلم خيري بشارة الاخير "اشارة مرور" قالوا انه ربما كان متميزاً في مسيرته الجديدة. ولكن في أي اتجاه؟ متميزة هي على أي حال الصفة التي يمكن ان تطلق على فيلم عاطف الطيب الجديد "ليلة ساخنة" من تمثيل نور الشريف ولبلبة. اذ على الرغم من ان سينما عاطف الطيب في التسعينات تبدت على الدوام متميزة بشكل اجمالي خاصة في "دماء على الاسفلت" و"كشف المستور" فإن النقاد والمتفرجين النبيهين ظلوا على شيء من التردد ازاء اتخاذ حكم نهائي على مسيرة هذا الذي يبدو من أغزر المخرجين المصريين نشاطاً في أيامنا هذه يحقق فيلماً في كل عام على الأقل، خصوصاً وأن نوعاً من المقارنة كان يفرض نفسه على الدوام بين بدايات هذا المخرج ومسيرته الراهنة. من هنا جاء "ليلة ساخنة" ليحسم الجدل: فالفيلم قورن، وبشكل ايجابي، بپ"سواق الاوتوبيس" الذي كان واحداً من أفضل أفلامه وأولها. والحال انه منذ اللحظة التي انتهى فيها عرض الفيلم في مهرجان القاهرة، وأضيئت فيها الأنوار ظهر كل شيء واضحاً: عاطف الطيب استعاد أخيراً اناقة تعبيره وقدرته الهائلة على التكثيف، وادارته المتميزة للممثلين، في فيلم قد يشكل، بنهايته المدهشة والرائعة، صدمة اخلاقية للكثيرين، لكنه بالتأكيد يعتبر - حتى في تعبيره عن الواقع المصري الراهن - واحداً من أفضل الأفلام التي حققت في مصر أخيراً، والى سينما عربية لا تزال تبحث عن دروبها. العيش لمجرد العيش إذا كان داود عبدالسيد اكتفى خلال سنوات الثمانين بتحقيق فيلم واحد هو "الصعاليك" الذي أثار يومها ضجة انما من دون ان يتيح لمخرجه فرصة تقديم عمل آخر على الفور، فإن النصف الأول من سنوات التسعين كان فترته الذهبية. فمن "الكيت كات" الى "البحث عن سيد مرزوق" وصولاً الى "أرض الأحلام" قدم داود عبدالسيد سينما متنوعة وشاعرية، سينما تروي شرائح الحياة ومصير الأفراد في مواجهة التغيرات الكبيرة التي يعيشها المجتمع المصري. ولكن كان على داود عبدالسيد ان ينتظر قراءة نص لكاتب مبدع من طينة خيري شلبي، حتى يوصل منطق سينماه الى منتهاه. حدث هذا في فيلمه الأخير "سارق الفرح" الذي يعتبر، في كافة التقديرات، واحدة من اجمل المغامرات في مسيرة السينما المصرية الجديدة. فالفيلم، كما هو أدب خيري شلبي عادة، يتحدث عن أمل هامش الهامش، عن تخوم المدينة، عن الأفق المسدود. ثم خاصة عن العيش: امكانية العيش حتى من دون البحث عن أي ارتقاء. فحين تختم لوسي الفيلم بعبارة تقول فيها: "لازم تعرف تسامح علشان تقدر تعيش" يتبدى واضحاً هنا ان الغاية المرجوة الآن هي "العيش" لا أكثر. في سبيل البقاء على قيد الحياة، كل شيء مباح وممكن ومن الضروري التسامح معه. فيلم جريء وشاعري وحنون، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بواحد من أجمل أفلام داود عبدالسيد "الكيت كات" وإن كان يتميز عنه بجرأة أسلوبية وأخلاقية مدهشة. والفيلم جريء في انتاجه، فهو من ناحية من دون أبطال، حيث تكاد تبدو كافة أدواره الرئيسية متكافئة عبلة كامل، وحسن حسني وحنان الترك، في قمة ادائهم، ثم هناك ايضاً استخدامه لوجه جديد ماجد المصري للقيام بالدور الرئيسي في مواجهة لوسي. والحال انه إذا كان منتج الفيلم سلطان الكاشف يقول في تقديمه لهذا العمل انه يحب السينما المصرية الجديدة وانه قام "بتأسيس شركة السلطان فيلم لكي أعبر عن حبي للسينما ولكي أساهم في صنع السينما المصرية الجديدة"، فإن هذا الكلام يتبدى صادقاً، بالمقارنة مع النتيجة التي أسفر عنها فيلم داود عبدالسيد هذا. مهما يكن فإن هذا الفيلم الشاب يبدو منخرطاً في تيار سينمائي يمكننا ان نطلق عليه اسم "سينما الحارة الجديدة" تمييزاً لحارته عن حارة صلاح ابو سيف التي كانت ذات يوم اكثر وعداً وأكثر حملاً للآمال. الحارة عند داود عبدالسيد محبطة وقاسية ويائسة، تماماً كما كانت تبدت قبل عامين لدى رضوان الكاشف في فيلمه الأول "ليه يا بنفسج؟" الذي يمكن اعتباره بدوره علامة أساسية في سينما لا تزال قادرة، على رغم كل شيء، على ان تفاجئ وتدهش. الوصول الى ابن رشد هذه السينما التي تبدو متفجرة الآن، نوعياً ان لم يكن كمياً، أكثر مما كان عليه حالها في أي وقت مضى، مدهش فيها انها تجدد نفسها بنفسها، بحيث لا تمرّ سنوات عديدة إلا وتعيش هذه السينما انزياحاً أساسياً. فاليوم، لئن كان يبدو ان ثمة جيلاً بأسره قد انتهى او هو على وشك الانتهاء، ولئن كان يبدو بأن جيل الثمانينات يعيش أزمته الكبرى، الأزمة التي بدأت تعتصره منذ أدرك انه لم يعد الجيل الشاب، وأن محمد خان وخيري بشارة، بعد حسين كمال وسعيد مرزوق وغيرهما، هم الذين في طريقهم لأن يصبحوا جيل الشيوخ، من المؤكد ان الجيل الحالي، الذي يبدأ مع داود عبدالسيد رغم انتمائه سناً الى محمد خان وخيري بشارة وعاطف الطيب ويصل الى شريف عرفه ويسري نصرالله وأسماء البكري وخالد الحجر، هو الجيل الانتقالي الذي يمهد لولادة جيل تالٍ، بدأ يفرض حضوره منذ اليوم، ولكن في عالم الأفلام القصيرة والتسجيلية. مهما يكن، ورغم هذا الحديث عن الأجيال، من الواضح ان واحداً من مميزات السينما المصرية على مدى تاريخها ان لا شيء فيها ينتهي حقاً، ولا شيء يبدأ حقاً. فهي مثل أتون شديد التقلب والتدبل. أتون يختلط فيه كل شيء بكل شيء. وإلا، فكيف يتاح لمخرج مخضرم مثل توفيق صالح ان يسعى، وهو الآن جاوز الستين من عمره، الى تحقيق فيلم شديد المعاصرة وشديد الدلالة عن الفيلسوف الاندلسي ابن رشد؟ ذلك هو، على أي حال، سر هذه السينما المصرية العريقة العتيقة والمتجددة، التي تكاد تبلغ السبعين من عمرها، ولا تزال قادرة على ان تكون شابة بكل ما في هذه الكلمة من معنى.