لا تزال أوساط لبنانية سياسية وشعبية تعتقد أن الدكتور سمير جعجع قائد "القوات اللبنانية" المنحلة يحاكم لأسباب سياسية لا علاقة لها بعملية تفجير كنيسة سيدة النجاة في زوق مكايل في شهر شباط فبراير 1994 أو بعملية اغتيال داني شمعون التي تمت بعد ايام من ازالة تمرد العماد ميشال عون في 13 تشرين الاول أكتوبر من العام 1990 اللتين أوقف وسيق الى المحاكمة بتهمة التخطيط لهما وإعطاء الاوامر بالتنفيذ. وتلخص هذه الاوساط الاسباب بإثنين: الاول رفض الدكتور جعجع الانخراط في التركيبة السياسية التي انبثقت من اتفاق الطائف على رغم قبوله به وتغطيته اياه سياسياً وعسكرياً في الساحة المسيحية. وقد برر موقفه الرافض بعدم استعداد السلطة لتطبيق هذا الاتفاق نصاً وروحاً وإقدامها على ممارسات أخلّت بالتوازن الوطني الذي يعتبر أساس العيش المشترك الاسلامي - المسيحي. كما برره بامتناع سورية راعية تطبيق الاتفاق عن اتخاذ أي موقف من شأنه تصحيح المسيرة. أما الثاني فهو اعتقاد السلطة وسورية، حليفتها، ان السلبية التي ظهرت من الدكتور جعجع ترجع الى عدم اقتناعه الفعلي باتفاق الطائف واضطراره الى السير فيه وتغطيته بسبب التطورات السلبية في تلك الفترة في الشارع المسيحي والتي جعلته يحتاج الى دعم من السلطة اللبنانية وكذلك من سورية للاستمرار والفوز على خصمه المسيحي الاول العماد ميشال عون. وكان سببها ايضاً بقاءه خطراً على تركيبة الطائف وعلى سورية في لبنان وذلك نظراً الى تعبئته المستمرة للناس واحتفاظه بقواته جاهزة وان من دون سلاح ظاهر والى استمراره في تشغيل اجهزته في انتظار حصول متغيرات خارجية وتحديداً اقليمية تمكنه من الامساك بالزمام من جديد في الشارع المسيحي ومن فرض الشروط التي يقبل على أساسها الانخراط في التركيبة السياسية. وتعتبر الاوساط السياسية اللبنانية اياها ان مضمون القرار الظني في عملية تفجير الكنيسة أظهر في وضوح البعد السياسي لمحاكمة جعجع وذلك عندما أسهب المحقق العدلي في الحديث عن مواقف جعجع السياسية وان على حساب الادلة والقرائن على تورطه في العملية المذكورة. كما تعتبر أن القرار الذي اتخذه مجلس الوزراء بحل "القوات اللبنانية" ومصادرة ممتلكاتها قبل صدور حكم يدينها من المحكمة، وهي المجلس العدلي، هو دليل آخر على أن المحاكمة الجارية سياسية، ولا يغير في هذا الواقع في رأيها قول البعض ان قرار حلّ القوات في مجلس الوزراء لم يكن مخالفاً للقانون لأن قيادتها غيرت في نظامها الذي على أساسه نالت الترخيص من وزارة الداخلية، وكان التغيير ضد مصلحة لبنان كونه مس تركيبته ودعا الى إقامة دولة اتحادية فيه، في حين ان الاتحادية تعني في نظر الطائفولبنانيين كثيرين تقسيماً، والتقسيم مؤذ للبنان وخيانة له. وتمضي هذه الاوساط في التحليل قائلة إن محاكمة جعجع تشبه الى حد كبير محاكمتين سياسيتين كبيريتين جرتا في لبنان الاولى في أواخر الاربعينات أو مطلع الخمسينات وطالت الاولى انطون سعادة زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي والثانية جرت في مطلع الستينات وطالت الحزب كله. فالاولى كان سببها الخطر الذي شكله سعادة والحزب على النظام وهي لم تراع على ما يؤكد معاصرو تلك الحقبة والمطلعون على تفاصيل ما جرى فيها، حتى الذين منهم يعادون القوميين، الاصول القانونية ولا مفهوم العدالة، ما أثار في حينه ولا يزال يثير سخرية الناس والاوساط السياسية والقضائية. والاوساط السياسية والشعبية المذكورة أعلاه تخشى حصول شيء مشابه مع جعجع على الاقل من حيث المضمون باعتبار ان احترام الشكل قائم علماً أن معظمها لا يحبه ولا يؤيد خطه السياسي لكنه يحرص على العدالة وتالياً على استمرار النظام الديموقراطي في البلد بكل مقوماته. أما الثانية فكان سببها محاولة الانقلاب، على حكم الرئيس اللواء الراحل فؤاد شهاب، التي قام بها الحزب القومي والتي يقول كثيرون ان خروقات عدة للقوانين والاصول المتعارف عليها قد حصلت في أثنائها. الاّ أن تشبيه محاكمة جعجع بالمحاكمتين المذكورتين للتأكيد على طابعها السياسي لا يقنع جهات سياسية عدة. ذلك ان محاكمة الزعيم سعادة على صوريتها كان سببها معلومات عن محاولة ضد النظام قام بها في وقت سابق. كما أن محاكمة الحزب القومي تسببت فيها محاولة الانقلاب. في حين أن محاكمة جعجع وحل حزبه ومصادرة ممتلكات هذا الحزب، لم يسببها عمل انقلابي وانما اتهامه بعملية تفجير كنيسة. وهذا الامر يجعل الجهات هذه متمسكة باعتقادها بأن المحاكمة اساساً سياسية وأن المعنيين كانوا ينتظرون فرصة سانحة للنيل من جعجع "العاصي" فلما اعتبروا انهم عثروا عليها استفادوا منها الى أقصى درجة ممكنة ولا يزالون يستفيدون. السياسة والقضاء هل يعني ذلك أن الاحكام التي ستصدر بنتيجة المحاكمتين ستكون سياسية بدورها؟ الاوساط السياسية والشعبية المذكورة أظهرت بعض ارتياح بعد بدء المجلس العدلي جلسات المحاكمة أولاً بقراءة القرارات الظنية وثانياً باستجواب المتهمين وثالثاً باستجواب الشهود. ذلك أنها كانت تخشى تأثيراً ما للسياسة وللسياسيين ولكل المؤسسات على القضاء يجعله يصدر احكاماً سياسية تتماشى وتوجهات السلطة القائمة. علماً أن المسؤولين اكدوا اصرارهم على استقلال القضاء وحرصهم على هذا الاستقلال وعلى عدم المس به اياً تكن الظروف والاعتبارات. ويعود بعض الارتياح هذا الى عوامل عدة أبرزها الآتي: 1 - تراجع متهمين رئيسيين عن الافادات التي أعطوا في أثناء الاستجواب الذي أجري معهم في وزارة الدفاع. وفي مقدم هؤلاء جريس الخوري الذي قلبت أقواله أو بالاحرى تكاد أن تقلب الاجواء داخل المحاكمة لمصلحة جعجع. 2 - تحدث متهمين عديدين عن ضغوط نفسية وغير نفسية تعرضوا لها في أثناء التحقيق معهم وتمسكهم بهذا الحديث ما يوحي بأن أحداً لم يضغط عليهم ثانية للعودة الى إفادتهم السابقة. 3 - وفاء السلطة السياسية وتالياً السلطة القضائية بالوعود التي أطلقتها وأبرزها على الاطلاق علنية المحاكمات والجلسات والسماح بتغطيتها اعلامياً على رغم المفاجآت التي حصلت فيها حتى الآن والتي قد تحصل فيها مستقبلاً والتي ليست في مصلحة السلطة مثل الرجوع عن الافادات والتناقض في الاقوال الامر الذي يجعل مهمة المجلس العدلي قضائية بحتة. 4 - وجود القاضي فيليب خيرالله على رأس المجلس العدلي وهو معروف بنزاهته وأدميته وعلمه. وكان يخشى البعض عليه لاعتقاده بعدم قدرته على تحمل الضغوط السياسية من خارج. لكن سير المحاكمات، على الاقل لغاية الآن، يدل على قوته وعلى حرصه على استقلاليته واستقلالية القضاء. وهو كان أكد ذلك اكثر من مرة لاصدقاء كثر حريصين على سمعته وعلى نجاحه في مهمته الجديدة. وجود دلالة هل يمكن منذ الآن التكهن بنتائج المحاكمات الجارية؟ يعتقد الكثيرون من رجال القانون ان ما جرى لغاية الآن في المحاكمة المتعلقة بتفجير كنيسة سيدة النجاة في زوق مكايل لا يدين الدكتور سمير جعجع وهم يرجحون، ما لم تظهر مفاجآت في الجلسات المقبلة، تبرئته او منع المحاكمة عنه في هذه القضية لعدم كفاية الادلة او لعدم توافرها. وتوافق على ذلك الاوساط السياسية والشعبية التي تعتبر المحاكمة هذه سياسية ولذلك فإنها تدعو المجلس العدلي الى عدم ابطاء سيرها والى لفظ الحكم بها في اسرع وقت. ذلك ان الابطاء قد يفسر بالرغبة في عدم اصدار حكم التبرئة تلافياً لانعكاسه على المحاكمة الجارية بقضية اغتيال المهندس داني شمعون رئيس حزب الوطنيين الاحرار وكذلك بالرغبة في انتظار الحكم في القضية الاخيرة التي يرجح كثيرون ان يتضمن ادانة لجعجع. فالحكم الادانة من شأنه عدم الافساح في المجال امام جعجع وأمام الاوساط المعارضة ولا سيما المسيحية لاستثمار التبرئة في محاكمة الكنيسة لتعزيز اوضاعهم والتأثير سلباً على هيبة الحكم والقضاء والمؤسسات. إلاّ أن رجال القانون المشار اليهم أعلاه يعتقدون على رغم خوفهم من حدوث أمر كهذا ان الوقت لم يحن بعد وان المجلس العدلي لم ينه عمله بعد وذلك فإن رميه بتهمة التباطؤ غير جائز او على الاقل سابق لأوانه. ويستنتج من هذا الكلام ان الحكم الادانة في قضية شمعون شبه مؤكد إلاّ إذا حصلت مفاجآت غير محسوبة. والادانة في هذه الجريمة، وحتى الادانة المستبعدة في جريمة تفجير الكنيسة، لن توصل الدكتور جعجع الى الاعدام في رأي جهات قانونية عدة. ذلك ان الحكم سيكون مبنياً على مقولة ان لا شيء يحصل في "القوات" من دون معرفة قائدها وليس على معلومات حسية او وقائع تفيد بأنه أعطى لفلان وفلان وفلان أوامر بالاغتيال أو بالتفجير أو بأي شيء آخر. والبديل من حكم الاعدام سيكون الحبس الطويل وربما المؤبد الامر الذي قد يفتح مستقبلاً ولا سيما مع استقرار الاوضاع في لبنان والمنطقة الباب في وجه تسويات معينة لوضعه خصوصاً حين يصبح غير قادر على الحاق أذى بأي كان. إدانة لمن؟ ماذا سيكون اثر البراءة أو منع المحاكمة لعدم كفاية الدليل في تفجير الكنيسة على الرأي العام وتحديداً على الشارع المسيحي اللبناني الذي شكك معظمه في البداية بالعملية كلها على رغم فقدان الود بينه وبين جعجع؟ الجميع في لبنان وربما خارج لبنان سيعتبرون ذلك نصراً للقضاء وبرهان ساطعاً على استقلاليته وعلى بعده عن التأثيرات والضغوطات والمغريات. لكن ما يخشاه الكثيرون هو ان تكون البراءة ادانة للسلطات اللبنانية الاخرى سواء التي منها اتخذت قرارات سياسية او التي منها مارست مهمات أمنية، وما يخشونه ايضاً هو ان تستعمل التبرئة حجة مهمة لاقناع الناس بالنتيجة التي ستنتهي اليها المحاكمة في قضية اغتيال شمعون والمرجح أن تكون ادانة. وما يخشونه اخيراً هو ان يحاول البعض اشاعة اجواء في البلد تفيد بأن ملف تفجير الكنيسة المتهم به جعجع وقواته كان "مفبركاً" ولا شيء يمنع ان لا يكون ملف اغتيال شمعون المتهم به جعجع وقواته أيضاً مفبركاً أيضاً. طبعاً يبقى كل هذا الكلام في اطار التحليل وسيبقى كذلك الى ان تنتهي المحاكمات وأياً تكن الاحكام التي ستصدر عنها فإن اللبنانيين يتمنون على القضاء أن يبقى منزهاً وبعيداً عن أي تأثير وحينها فإن أحداً لن يستطيع التشكيك في الاحكام التي ستصدر سواء قضت بالسجن أو بالاعدام او بالتبرئة. وهم يستطيعون أن "يشموا" الصح من الخطأ على هذا الصعيد ولن تنجح معهم حملة تعبئة تقوم بها هذه الجهة أو تلك. وفي هذا المجال يدعو بعض الذين عاصروا التجربة الشهابية والاحداث التي حفلت بها الى تذكر المواقف الجريئة التي اتخذها القضاء في حينه على رغم الجو العسكري الذي كان سائداً اذا جاز التعبير. ففي أثناء محاكمة القوميين بتهمة محاولة الانقلاب على السلطة كان الجو عند العسكريين الاعضاء في المحكمة هو الاصرار على الأحكام بالاعدام. لكن وزير العدل في حينه فؤاد بطرس نصح القاضي أميل أبو خير، وكان القاضي المدني الوحيد في هيئة المحكمة، عندما أتى اليه يسأله ماذا يفعل حيال هذه الجو بأن يتخذ الموقف الذي يمليه عليه ضميره ووعده بأنه سيقف الى جانبه. وهكذا فعل أبو خير وكان العضو الوحيد في هيئة المحكمة الذي رفض حكم الاعدام وسهل ذلك للرئيس الراحل فؤاد شهاب اصدار قرارات العفو عن المحكومين في مرحلة لاحقة. وفي عهد الرئيس شهاب أيضاً شكا كثيرون من أن قوى الامن تبقي الموقوفين عندها فترة أطول من التي يسمح بها القانون. فحصلت اعتراضات ادت بالوزير بطرس نفسه الى رفض الواقع والى تهديد المعنيين الامنيين في حينه بإحالة العسكريين الذي يخالفون القانون على النحو المشار اليه الى القضاء، وأحد هؤلاء المعنيين كان قريباً جداً من شهاب وقد راجعه في ذلك، لكن إصرار بطرس فعل فعله.