أم كلثوم أكثر من ظاهرة ثقافية وفنية، فهي عبرت عن وجدان شعب كامل من المحيط الى الخليج، ورافقت كل التحولات والثورات والنكبات حتى اواسط السبعينات. هنا لمحة سريعة عن علاقة "سيدة الغناء العربي" بالسلطات السياسية والعهود المتلاحقة التي عايشتها جميعاً، تاركة في كل مرة طيفها يخيم على ذاكرة المرحلة. فيما سكون الصحراء الغربية يشتعل بأحلام جنود اوروبا واخفاقات قادتهم السياسيين والعسكريين، والحلفاء والألمان يخوضون معارك ضاربة ضد سراب الموت، كانت القاهرة مسرحاً لمعارك من نوع اخر، اما محور هذه المعارك فكان صوت ام كلثوم! فالمخابرات البريطانية كانت اول من تنبه الى نفوذ أم كلثوم، وتأيرها على الوجدان المصري والعربي. وأثناء الحرب العالمية الثانية، وبينما كان رومل يتقدم نحو القاهرة، وضعت المخابرات البريطانية خطة لخطف ام كلثوم، وانشاء اذاعة في صعيد مصر لبث اغنياتها، على ان تستغل هذه الاذاعة ايضاً ضد قوات المحور. وبرر المستر فيرغسون مدير الاذاعة البريطاني في مصر خطته، مشيراً الى ان "بريطانيا حريصة على "اقتناء" صوت ام كلثوم حرصها على سلامة الاذاعة المصرية. فنحن نعلم ان محطة الاذاعة التي "تقتني" صوت ام كلثوم هي التي سيستمع اليها العرب في كل انحاء العالم". وهكذا منع البريطانيون فيفيان لي بطلة "ذهب مع الريح"، من احياء حفلة لصالح جنودهم كان مفترضاً ان يقام على مسرح الازبكية في قلب القاهرة، لأن موعده وافق الخميس الاول من الشهر، حيث اعتاد المصريون ان يتركوا كل شيء ويتفرغوا للاستماع الى "كوكب الشرق". وتاقت النجمة البريطانية البارزة الى رؤية السيدة التي عطلت برنامجها، فحضرت حفلة الازوبكية، وخرجت من الحفلة مندهشة وهي تردد: "ما اكثر معجزات هذا البلد"، مشيرة الى ام كلثوم والى اهرامات الجيزة التي زارتها في اليوم نفسه. ولن تكون هذه المقارنة بين المعجزتين حكراً على بطلة أشهر فيلم سينمائي. ففي حزيران يونيو 1962 كتب صحافي اميركي في مجلة "لايف": "في الساعة العاشرة من مساء الخميس الاول من كل شهر، يحدث شيء غريب في الشرق الاوسط. يهدأ الضجيج فجأة في شوارع القاهرة، وفي الدار البيضاء التي تبعد 2500 ميل الى الغرب ويكف الشيوخ في المقاهي عن لعب الطاولة، وفي بغداد التي تبعد 800 ميل الى الشرق يحدث الشيء نفسه. وعلى طول الصحراء وعرضها، يأوي الاعراب الى خيمهم ينتظرون، اذ لا يعود هناك الا حدث واحد هو الشغل الشاغل للجميع. فالكل ينتظر برنامجا معيناً يذيعه راديو القاهرة، ونجمته مطربة تدعى ام كلثوم!". وينهي الصحافي الاميركي مقالته بالعبارة الشهيرة "هناك في الشرق الاوسط صرحان لا يتغيران" ام كلثوم والاهرامات". وعندما مرضت المطربة اواخر الاربعينات بالغدة الدرقية، وسرت شائعات عن اضطرارها الى اعتزال الغناء، بادرت الولاياتالمتحدة الى علاجها في مستشفى البحرية الاميركية، وهو لا يعالج من غير رجال البحرية سوى عظماء العالم و"ذوي الحيثية السياسية". كما انتخبت في العام 1953 عضواً شرفياً في جمعية "مارك توين" الاميركية الدولية "تحية لجهدها العظيم في الموسيقى واسعادها الملايين بفنها"، وكان من بين اعضاء الشرف في هذه الجمعية ايزنهاور وتشرشل وروزفلت. وهكذا كانت ام كلثوم "واجهة العرب الحضارية"، ووحدت المزاج العربي بصوتها وعبقريته، وألهبت المشاعر القومية من مسقط الى تطوان، واتسعت عباءتها للذين يأكلون الحصرم والذين يشترون القلاع! وما اكثر الاوسمة والنياشين التي منحت لسيدة الغناء العربي: وسام الكمال وقلادة النيل من مصر، نيشان الرافدين العراقي، وسام الارز اللبناني، وسام النهضة الاردني، وسام الاستحقاق السوري ... وأين العجب في ذلك ما دامت الدليل الحي على ان "وحدة العرب" ليست من رابع المستحيلات؟ فما اهدرته السياسة، يمكن ان يعوضه الغناء! نشيد سعد زغلول كانت ام كلثوم في الثالثة والعشرين عندما رفضت ان تغني في حفلة عامة، قبل مرور اربعين يوماً على وفاة الزعيم المصري سعد زغلول. وكانت في تلك الايام تحيي حفلة كل مساء جمعة. ثم كتب شاعرها المقرب احمد رامي "نشيد سعد زغلول" الذي لحنه محمد القصبجي، وغنته في اللقاء الذي سجل عودتها الى جمهورها بعد انتهاء الحداد. ولم يكن النشيد بالطبع الا مرثية كلها دموع وآهات. وعندما اشتعلت نيران حرب فلسطين في العام 1948 طلبت من الفريق حيدر باشا وزير الحربية في ذلك الوقت ان تسافر لتغني للجنود على خطوط القتال، لأنه رفض اشفاقاً عليها. ولم تستسلم ام كلثوم، اذ قامت بحملة لحساب المجهود الحربي بلغت حصيلتها آنئذ 22 الف جنيه، اضافت اليها خمسمائة جنيه من مالها، واربعين جنيها اجرها من الاذاعة عن كل مرة يذاع فيها "نشيد الشباب" الذي انشدته خصيصاً من اجل فلسطين. وأثناء حصار قوات الفالوجا في معركة 1948، أرسلت القوات المحاصرة برقية الى القيادة تطلب فيها ان تغني لهم ام كلثوم في حفلتها الشهرية اغنية "غلبت اصالح روحي". اما المطربة فوجدت في مطلع الاغنية، ما يمكن ان يسيء الى هذه القوات، فغنتها من دون ان تشير الى من طلبها. لكنها غنت في الحفلة نفسها "انا في انتظارك"، بعد ان اعلن مذيع الحفلة انها تؤديها تلبية لطلب قوات الفالوجا المحاصرة. مثل هذه الوقائع وغيرها مما سيأتي لاحقاً، ارست تقاليد جديدة في علاقة الفنان بقضايا وطنه وأمته. وربما كانت من الأسباب التي حدت بضباط ثورة 1952 الى اعتبار ام كلثوم "شاهد ملك" على تحولات النصف الاول من القرن. فهو بدأ بنهوض الحركة الوطنية الذي سرعان ما تجلى في ثورة الجماهير عام 1919، وانتهى بسلسلة فواجع بلغت ذروتها مع حريق القاهرة. أفلتت ام كلثوم من جردة الحساب التي وضعت غالبية رموز العهد السابق على ثورة 1952 في سلة واحدة، وألقت بها في مجاهل التاريخ. واذا كانت الثورة دأبت منذ سنواتها الاولى على مصادرة كل القوى والاحزاب السياسية السابقة، فهي استثنت من تلك المصادرة حزبين اثنين: حزب ام كلثوم وحزب عبدالوهاب. لا بل انه سيتم لاحقاً 1964 دمج هذين الحزبين - بأمر مباشر من الرئيس عبدالناصر شخصياً - في ما عرف وقتها ب "لقاء القمة" او "لقاء السحاب". وهو اللقاء الذي اثمر عن روائع كثيرة اشهرها "أنت عمري". كما ان الثورة منذ بدايتها لم تغفل بالطبع ضرورة وجود "الحزب" الذي سيروج لاهدافها ويعزي الجماهير في انكساراتها، وهو الدور الذي مثله عبدالحليم حافظ، وأوقفه صلباً في مواجهة حزبي ام كلثوم وعبد الوهاب حتى بعد تحالفهما. فذات صباح من العام 1952، علم عبد الناصر ان مسؤولاً في الاذاعة يدعى "العميد الرحماني" امر بوقف بث اشرطة ام كلثوم، فرفع سماعة الهاتف وسأله مستنكراً: "هل صحيح انك فعلت ذلك؟". فرد العميد الرحماني بالايجاب. ولما سأل عبد الناصر عن سبب جاءه الجواب: "لأنها كانت تغني ايام العهد البائد!". وكانت سرت شائعات بأن الثورة غاضبة على ام كلثوم لانها غنت للملك فاروق، كما ان اصداء اغنيتها المجلجلة "حبيبي يسعد اوقاته" لم تكن خفت بعد! غير ان عبد الناصر سأل العميد الرحماني بغضب: "طب ما الشمس كانت بتطلع ايام العهد البائد.. نلغيها؟". وهكذا لم يكن امام الثورة سوى ان تسعى الى الافادة من جماهيرية ام كلثوم، ومحاولة استيعابها لمصلحة توجهاتها القومية. في العام 1967 أدت اغنية وطنية كتبها شاعر الثورة البارز صلاح جاهين بعنوان "راجعين بقوة السلاح". لكن الرياح لم تجر بما تشتهي السفن. وذات صباح مشؤوم من حزيران يونيو وقعت الهزيمة. العداء مع جيهان السادات في الايام الاولى مرضت كلثوم لاسباب غير معروفة. فقدت شهيتها للطعام وعاشت فترة على المقويات والفيتامينات، وظلت تلازم بيتها على نيل الزمالك، لا تزور ولا تزار ولا ترد على هاتف. غير انها سرعان ما استعادت صلابتها وثقتها في طاقات الوطن الكامنة. ولما اعلن عبد الناصر تنحيه وتحمله المسؤولية الكاملة عما جرى، وخرجت الجماهير تطالبه بالبقاء، غنت ام كلثوم: "إبق ... فأنت الامل الباقي"... ثم كان ان اسست "التجمع الوطني للمرأة المصرية" ونشطت تجمع المال وحلى النساء، وتخصص ايراد حفلاتها لما عرف وقتها ب"المجهود الحربي". واستطاعت خلال عامين ان تجمع مليونين من الجنيهات، بعض المصادر قدر رقماً اقل، والبعض الاخر وصل بالرقم الى اثني عشر مليوناً! وبرحيل عبد الناصر، وتولي الرئيس السادات سدة الحكم في العام 1970، بدأت ام كلثوم تواجه حربا لا تليق بتاريخها الفني ومواقفها الوطنية الرائدة. كانت تربطها بالرئيس السادات علاقة ود، وكان من عادتها ان تناديه "ابو الانوار" وهو ما كان يثير حسب البعض حفيظة، وربما غيرة، السيدة جيهان السادات. وعندما ذهبت ام كلثوم الى بيت الرئيس وهنأته مداعبة كعادتها بعبارة "مبروك يا ابو الانوار!"، فوجئت بالسيدة جيهان تنتهرها بشدة: "اسمه الريس اذا ما كنتيش تعرفي، بذمتك كنتي تقدري تقولي لعبد الناصر كده"! ولم يقف العداء بين ام كلثوم وجيهان عند هذا الحد. ففي سعي الثانية الى سحب البساط من تحت اقدام الاولى، اطلقت على نفسها لقب "سيدة مصر الاولى"، لكي تعادل لقب "سيدة الغناء العربي" الذي اسبغته الجماهير العربية على ام كلثوم. وفي العام 1972 طرحت ام كلثوم على حمدي عاشور - محافظ القاهرة في ذلك الوقت - فكرة انشاء دار خيرية تحمل اسمها، ويكون من بين اهدافها، رعاية اسر المقاتلين والشهداء والمجندين واعادة تأهيل الفتيات الريفيات بشكل خاص، ثقافيا ومهنياً. ووافق حمدي عاشور وسجل المشروع بالفعل في وزارة الشوون الاجتماعية وخصصت له محافظة القاهرة ستة فدانات على النيل قرب فندق الميريديان، وتم ارساء حجر الاساس ل"دار ام كلثوم للخير" في 18 حزيران يونيو 1973. لكن المشروع تعرقل في الوقت الذي كانت السيدة جيهان السادات تضع حجر الاساس ل"جمعية الوفاء والامل". وبسبب اضطراب علاقة ام كلثوم بمؤسسة الرئاسة، وبزوجة الرئيس، على وجه الخصوص، احيطت حياتها طوال السنوات الاولى من السبعينات بالشائعات والمكائد. فقد اتهمها احد الصحافيين بأنها كانت احد اهم اسباب الهزيمة، لان صوتها كان يخدر الجماهير ويقتل فيها نخوة الوعي، وهي التهمة نفسها التي وجهت الى عبد الحليم حافظ وصلاح جاهين وكل من غنى للثورة. غير ان ام كلثوم ردت بحسم: انا مستعدة لاعتزال الغناء بشرط ان يكسب العرب الحرب. وعندما تأخر اعلان وفاتها بضع ساعات، حاول بعض الخبثاء اثارة الشكوك حول مكانتها الوطنية، وقيل ان التأخير كان قراراً سياسياً "حتى لا يطغى خبر وفاتها وجنازتها التي لا بد ستكون مهيبة، على الاحتفال بذكرى الاربعين لوفاة المشير احمد اسماعيل علي. القائد العام للقوات المسلحة في حرب 1973، والذي صادفت ذكراه في اليوم نفسه".