احتفلت الكويت، خلال شهر كامل، ب "مهرجان القرين الثقافي الثاني" الذي أقيم تحت رعاية ولي العهد - رئيس مجلس الوزراء الكويتي الشيخ سعد العبدالله السالم الصباح، ومثله وزير الاعلام الشيخ سعود ناصر الصباح في حفلة الافتتاح، بحضور جمهور واسع من المثقفين الكويتيين والعرب. والمهرجان الذي جاء مرافقاً لمعرض الكويت العشرين للكتاب العربي، راعى التنوع على مستوى فعالياته، فجذب جمهوراً واسعاً يتعدى المثقفين الى شرائح المجتمع كافة. استطاع "المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب" في الكويت تنظيم "مهرجان القرين الثقافي الثاني" بحيث يكون عرساً ثقافياً يزرع البهجة في قلوب الناس بمختلف منابعهم وجذورهم الفكرية... و "القرين" هو الاسم الذي ارتبطت به الكويت تاريخياً، كما انه اصبح رمزاً للمقاومة خلال اجتياح الكويت. واليوم يحمل الاسم مدلولاً جديداً بعد ان صار عنواناً لمهرجان ثقافي، يجمع الندوات الثقافية والامسيات الشعرية الى الحفلات الفنية من موسيقية ومسرحية والمعارض التشكيلية وصولاً الى عروض "فرقة نانجينغ الصينية للألعاب البهلوانية". ويبين "مهرجان القرين" اهتمام الكويت بالثقافة التي تعتبر السند الرئيسي لعملية التنمية الكفيلة برفع مكانة المجتمع بما يتماشى مع التطور السريع الذي يعيشه العالم. ففي احتفالات الافتتاح، جاء في كلمة وزير الاعلام الشيخ سعود ناصر الصباح: "كان جوهر رسالة الكويت الثقافية هو الدعوة الى تنوير العقل، وهي رسالة انسانية منفتحة على العالم، تدعو الى مستقبل اكثر اشراقاً، تعلي من شأن العقل والابداع، لكنها قبل كل ذلك عربية اسلامية في حرصها على الهوية وعلى القيم الانسانية النبيلة". فالكويت تولي الثقافة والمثقفين اهمية كبيرة، وما ذلك المهرجان الا واحد من اشكال النهضة الثقافية التي تحاول الانطلاق متخطية العثرات كلها. هذا ما عبّر عنه سليمان العسكري الامين العام ل "المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب": "تشهد الحياة الثقافية الكويتية تطورات متسارعة، تؤكد حرصنا على السير قدماً في سياسة رعاية الثقافة والفنون والانطلاق بها الى آفاق اكثر اشراقاً ورحابة". وجاءت نشاطات هذا العام متنوعة وتحمل الجديد الذي يضفي على الحركة الثقافية رونقاً خاصاً، ويعالج بعض العثرات والحواجز التي تقف سداً في وجه المثقف العربي. ففي "ندوة حقوق التأليف والنشر في الوطن العربي"، قدم المشاركون ابحاثهم التي بينت معاناة وهموم المؤلفين والناشرين في الوطن العربي. كما انصب الاهتمام على النقطة التي أثارها العسكري في قوله: "ان اي راصد موضوعي للواقع الثقافي العربي يلحظ تنامياً متسارعاً لعلاقة غير سلبية وغير حضارية بين الكتاب والمترجمين من جهة، والناشرين من جهة اخرى". وكان أول ابحاث هذه الندوة حول "قوانين وتشريعات المطبوعات في الدول العربية... ما لها وما عليها"، قدمه الصحافي والمحامي محمد مساعد الصالح الذي سلّط الاضواء على قصور بعض القوانين في معظم بلدان الوطن العربي، وأثرها السلبي على حرية الاعلام والنشر...". فبعد البحث في مختلف القوانين العربية اتضح له ان تلك القوانين ليست مشجعة للبحث والنشر ولا سيما في مجال الصحافة بل هي محبطة الى حد كبير، وعقب على البحث احمد الدين بحيث استكمل الموضوع نقاطه كلها. كما قدم ابراهيم المعلم رئيس اتحاد الناشرين العرب مداخلة حول "مشكلات تزوير المطبوعات في الوطن العربي". وبيّن الباحث ان جزءاً من المسؤولية يلقى على عاتق بعض المؤلفين. فهناك بينهم من يبيع نصه لأكثر من ناشر، او يسطو على عمل شخص آخر. واعترف طبعاً بالتزوير الذي يقوم به بعض الناشرين موضحاً ان الكلفة التي تقع على عاتق الناشر المزور لا تعادل 50 في المئة من الكلفة التي يتحمل اعباءها الناشر الاصلي. وتساءل الباحث باستنكار: هل ننتظر اتفاقية "الغات" لتحمي كاتبنا العربي وحقوقه؟ ثم قام الكاتب يحيى الربيعان بالتعقيب على ما جاء في بحث المعلم، وبرهن على تفاقم التزوير من خلال تجربته في النشر. وفي ثالث أيام الندوة ناقش محمد الحسين الفيلي استاذ القانون في جامعة الكويت في ورقته "العلاقة بين القانون والابداع الفكري"، متوقفاً عند القناعة السائدة لدى البعض بأن هناك تناقضاً بين الابداع والقانون. فالقانون تحديد والابداع انطلاق، الا ان المبدع يبقى فرداً ضمن جماعة في حاجة الى قواعد قانونية تستند اليها، والى نظام عام يحمي وجودها. وتعرض الباحث لمحورين يبدو من خلالهما ارتباط القانون بالابداع كحارس او منظم: "حماية حقوق المؤلف" و "تنظيم حرية النشر". ثم عقب على البحث جمال فاخر النكاس فأبدى ملاحظات واضافات مهمة. لكن البحث والتعقيب كانا غارقين في الخصوصية، اذ لم يخرجا من نطاق دولة الكويت. أما ندوة السينما العربية فناقشت محاور عدة، ابرزها "الواقع السينمائي في دول الخليج العربي"، و "السينما في المغرب العربي"، و "سينما المشرق العربي"، و "السينما المصرية بين اعباء الماضي وآمال المستقبل"، وأخيراً "السينما العربية والتحديات المعاصرة". وفي إطار هذه الندوة استضاف الكويت بعض نجوم السينما العربية. فمن مصر شارك كل من نور الشريف وزوجته الفنانة بوسي، ويسرا وأحمد زكي والمخرج داود عبدالسيد، اضافة الى الناقد سمير فريد. اما من سورية فجاء كل من مروان حداد المدير العام ل "المؤسسة العامة للسينما" والمخرج نبيل المالح والفنانة جيانا عيد والناقد بندر عبدالحميد والكاتب والصحافي وليد مشوح. ومن المغرب شارك الباحثان بشير القمري ومحمد المنصف الشنوفي. وقام ضيوف المهرجان بزيارات للتعرف الى أهم وأبرز المعالم الحضارية في الكويت. وإضافة الى الندوتين السابقتين، استضاف المهرجان "الملتقى الادبي الرابع لدول مجلس التعاون" الذي يتم خلاله البحث في مواضيع متنوعة أبرزها: "تاريخ النقد الادبي في دول المجلس"، "الاتجاهات التعبيرية والاجتماعية في النقد الادبي"، "اتجاهات النقد الادبي وآفاقه"، "الخطاب القصصي في النقد الادبي في دول مجلس التعاون" و "نقد النقد الأدبي". وشاركت في هذه المحاور نخبة من كبار الادباء والنقاد الاعلاميين الكويتيين والعرب. وكان للشعر حضوره في "مهرجان القرين الثاني"، إذ وقف بعض الشعراء العرب فجادوا بما لديهم. وتمثلت مختلف الاتجاهات والمدارس الأدبية من دون تمييز. بين الشاعرات والشعراء المشاركين نشير الى: خليفة الوقيان، خزنة بورسلي، الزميلة ثريا العريض، يعقوب الرشيد، يعقوب السبيعي وبعض الشعراء الشباب... ومن مصر الشاعر محمد ابراهيم أبو سنة والشاعر عبدالرحمن الابنودي. وحضر من سورية الشاعر نزيه أبو عفش. واستطاع هؤلاء الضيوف امتاع الجمهور، ونشير خصوصاً الى الأمسية التي أحياها نزيه ابو عفش الى جانب خليفة الوقيان، وقدمتها الكاتبة ليلى العثمان. بث الوقيان الحزن والفرح في نفوس المستمعين، أحزنهم بقصيدتيه اللتين يستنكر فيهما حوادث تفجير السفارة المصرية في باكستان، وتفجير المقاهي الشعبية الكويتية في الثمانينات، ثم أفرحهم وداعب عواطفهم بقصيدة غزلية. أما نزيه أبو عفش، وهو على الرغم من تواريه عن الأنظار من أبرز شعراء جيله على الخريطة العربية، فتنتمي قصيدته الى عالم اكثر حميمية. القى الشاعر السوري بعض هذه القصائد ك "سعداء" و "القلعة" التي يستعيد فيها ايام طفولته وذكرياته في البيت الذي عاش فيه. وكثرت في مهرجان هذا العام النشاطات الفنية. إذ خصص يوم للفنون الشعبية، قدمت خلاله كل من فرقة الرندي وأولاد عامر وفرقة موسيقى الشرطة وموسيقى القرب وفرقة العميري وفرقة معيوف مجلي وفرقة بن حسين عروضاً فولكلورية من النوع المحبب لدى الكويتيين. كما قدمت "فرقة أم كلثوم" بقيادة المايسترو سامي نصير حفلتين استحوذتا على اهتمام المشاهدين، وأظهرتا الامكانات الكبيرة لهذه الفرقة المصرية المعروفة. ولم تقتصر الاغنيات التي قدمتها الفرقة على شكل دون آخر، او على بلد محدد، بل كانت عربية بكل ما لهذه الكلمة من معنى. وظهر جلياً تجاوب الجمهور الذي غصّ به المكان معها. وحفل المهرجان بالامسيات الفنية الموسيقية، إذ شاركت "فرقة اميون للفنون الشعبية"، وهي من الفرق العريقة في سورية... وفي اطار اتفاقية التعاون والتبادل الثقافي بين الكويت وبولندا قدمت "الفرقة السيمفونية" التابعة ل "أكاديمية شوبان الموسيقية" البولندية، بإشراف المايسترو يانوش بشيبيلسكي، حفلتها الموسيقية، وبين الاعمال التي عزفتها بعض مؤلفات السفير علي زكريا الانصاري. وكان ل "المعهد العالي للموسيقى في الكويت" دوره ايضاً، حيث يقدم عروضاً موسيقية تعبر عما وصل اليه الطالب الكويتي في هذا المضمار. وتضمن برنامج المهرجان عروضاً مسرحية، بينها "بنت عيسى" الاماراتية، و "هاللو GULFa التي قدمها الفنان القطري غانم السليطي. وشارك ايضاً المعهد العالي للفنون المسرحية بمسرحيتي "فيدرا" لراسين و "الفيل يا ملك الزمان" لسعد الله ونوس... كما شهد المهرجان نشاطاً تشكيلياً لافتاً، فضلاً عن معارض التراث والحرف اليدوية والخزف، والتصوير الفوتوغرافي، ومعرض الطوابع البريدية، ومعرض ابداعات المعوقين والفئات الخاصة... ولعل الحضور التشكيلي الابرز في "القرين"، على مستوى الفنون التشكيلية، كان للأميركية سوزان كرايل التي دخلت منطقة الحقول المشتعلة، وكان هناك أكثر من 500 بئر، مضى خمسة اشهر على اشتعالها وما زالت خارج السيطرة. وبعين الفنان استطاعت التقاط بعض المناظر المؤلمة، وتجسيدها على لوحات وصل حجم احدها الى 40 قدماً، تبدو الأرض فيها سوداء، والسماء مكتظة بالدخان، والمياه متلوثة... كما اشتمل المهرجان على معرض شامل للفنانين التشكيليين الكويتيين، يعكس واقع الحركة الفنية التشكيلية في دولة الكويت... وفي الاطار نفسه ألقت زينات البيطار، أستاذة تاريخ الفن في الجامعة اللبنانية، محاضرة حول "الاستشراق في الفن" تقدم فيها عرضاً لقضية الاستشراق في الفن لأن هذا الموضوع يثير جدلاً واسعاً في الحياة الثقافية على المستويين العربي والعالمي. ولا بد من التطرق الى حفلة "فرقة نانجينغ الصينية للألعاب البهلوانية" التي قدمت حفلتين اشتمل كل منها على سبع عشرة لعبة. امتازت العروض جميعها بدقة متناهية، وبمناظر نالت اعجاب المتفرجين واثارت في نفوسهم الدهشة... فالحركات كانت متقنة يؤديها اصحابها ببراعة ومهارة، على رغم صغر سن بعض اعضاء الفرقة، وبساطة الادوات التي يستعملونها اثناء تأدية لعباتهم. والجدير بالذكر أن "مؤسسة الكويت للتقدم العلمي" قامت بتوزيع جوائزها التقليدية التشجيعية للباحثين والمبدعين كويتيين وعرباً، في شتى مجالات العلم والمعرفة. ووزع "المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب" جوائزه ايضاً على الطلبة المبدعين، لتشجيعهم وحثهم على المزيد من التقدم في ميادين العمل الابداعي. انطلق "معرض الكويت للكتاب العربي" في العام 1975، الا انه احتجب في العام 1990 بسبب الاحداث الأليمة التي عصفت بالبلاد. وها هي التظاهرة تعود بكامل رونقها، وتتزامن مع "مهرجان القرين". في معرض هذا العام بلغ عدد الكتب المعروضة مليون ونصف المليون كتاب، تندرج تحت 33219 عنواناً، منها 1080 كتاباً باللغات الاجنبية، من احدى عشرة دولة عربية وتسع منظمات عربية ودولية... ووصل عدد دور ومؤسسات النشر الحكومية والاهلية المشاركة في المعرض الى 376 داراً ومؤسسة، تتوزع معروضاتها على 200 جناح... وزود المعرض بأجهزة كومبيوتر لمساعدة الزائرين على البحث. ولكن بعض القراء الباحثين عن عناوين مهمة تثير النقاش، او تطرح قضايا راهنة، لم يخفوا خيبتهم ومعاناتهم. فقائمة الممنوعات لم تخل بموعدها هي الاخرى، مع انها تقلصت بعض الشيء. ولا يزال بعض الكتب غائباً والبعض الآخر بقي "تحت الدرس" في مكاتب الرقابة.