كان حضور الكويت الثقافي في الساحة العربية، مقروناً على الدوام بإصداراتها الأدبية والفنية منذ صدور "مجلة العربي" في 1958، مروراً بمنشورات كثيرة أغنت المكتبة العربية، كسلسلة "من المسرح العالمي"، وسلسلة "عالم المعرفة"، وإصدارات ثقافية وأدبية وفنية كثيرة، استطاعت أن تكون زاداً ثقافياً متميزاً. وإذا كانت طبيعة الكتاب تستطيع أن تصل به إلى أبعد الأصقاع، فإن قيام مهرجان ثقافي سنوي على أرض الكويت، كان بمثابة موعد مهم للقاء كوكبة متميزة من الأسماء العربية اللامعة في ساحة الفكر والثقافة والأدب والفن، وبما يتيح لها فرصة ثمينة للمحاورة وتبادل الرأي، ومواجهة الجمهور والوقوف على مشاعره وآرائه ومحاولة التواصل معه والوصول إليه. انطلقت فاعليات مهرجان القرين الثقافي الأول في العام 1994، مدشناً مشروعاً ثقافياً فنياً كويتياً عربياً، جعل من أرض الكويت موعداً سنوياً للقاء ثقافي فني، وبمرور السنوات اكتسب مهرجان القرين الثقافي سمعته وحضوره خصوصاً، تنوع فاعلياته وجديتها، وامتدادها قرابة شهر. وتواصلاً وتفاعلاً مع الظروف والمستجدات التي تمر بها منطقة الخليج والمنطقة العربية، حملت الندوة الرئيسة لمهرجان القرين هذا العام الدورة التاسعة بعنوان "التحولات الدولية الراهنة وتأثيرها في مستقبل الخليج"، وامتدت جلساتها على ثلاثة أيام، قدم عبدالرزاق الفارس في جلستها الأولى بحثاً بعنوان: "العولمة والتحولات الاقتصادية، آثارها الاجتماعية والسياسية: خطر البطالة السافرة، مستقبل دولة الرعاية الاجتماعية، والاقتصاد الريعي". وعقب على البحث ماجد المنيف. بينما قدم الباحث أبو بكر باقادر بحثاً بعنوان: "عولمة التعليم ومسألة الهوية الثقافية: المنهج الوطني والمدارس والمعاهد الأجنبية والتعليم باللغات الأجنبية: تجارب قرن في المنطقة العربية". وعقب على البحث خلدون النقيب. وفي اليوم الثاني، قدم باقر النجار في الجلسة الصباحية بحثاً بعنوان: "تحديات العولمة ومستقبل الأسرة العربية: وسائل الإعلام وعمل المرأة وتأثيرها في عادات الزواج والطلاق، في ظل الصراع بين التقاليد وتحرر المرأة". وعقب على البحث فهد الناصر. وفي الجلسة المسائية قدم غانم النجار بحثاً بعنوان: "مسيرة الديموقراطية في الخليج والمنطقة العربية وآفاق المستقبل". وعقب على البحث محمد غباش. واختتمت الندوة جلساتها بحلقة نقاشية شارك فيها كل من: إبراهيم كروان، وأحمد البغدادي، وإسماعيل الشطي، وسعد محيو، ورضوان السيد، وعلي الزميع. وإذا كان من مؤشر يدل على نجاح الندوة فهو واقعية أبحاثها، وكذلك الحضور الكبير والملحوظ للجمهور، والمشاركات الكثيرة في التعقيبات والتداخلات، وربما يعود سبب ذلك إلى ملامسة مواضيع البحوث الهم الاجتماعي اليومي، وخوضها مواضيع تهم شريحة كبيرة من المواطنين. وإذا كانت الندوة الرئيسة للمهرجان تناولت ما هو سياسي واجتماعي وثقافي، فإن بقية فاعليات مهرجان القرين الثقافي، توزعت على أنشطة فنية متعددة، ثقافية وأدبية وموسيقية وتشكيلية ومسرحية. واحتفل المهرجان بإصدار منارتين من منارات الأدباء في الكويت، والمنارات عبارة عن مشروع كتب سير شخصية تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، محتفية بأهم الأسماء الأدبية والثقافية والفنية الكويتية التي تركت أثراً طيباً يشهد لها بأصالة عطائها، وذلك عرفاناً بدور المبدع الكويتي، وتكريماً لحضوره وذكراه. وكانت منارة مهرجان القرين الأولى لهذا العام هي منارة الأديب الراحل أحمد العدواني، أحد أهم الوجوه الثقافية والتنويرية في تاريخ الكويت، الشاعر والأديب وأحد الأعمدة الذين نهض على جهودهم المجلس الوطني. وقد احتضنت رابطة الأدباء أمسية صدور المنارة، بمشاركة من دلال الزبن زوجة الأديب العدواني، ونجمة إدريس أستاذة النقد الأدبي في جامعة الكويت، وسلطت دلال الضوء على السيرة والخصال والعوالم المتعلقة بالأديب في محيط أسرته ومجتمعه، بينما تناولت نجمة دراسة النواحي الجمالية المبدعة في شعر العدواني. أما المنارة الثانية فكانت لشاعر الكويت فهد العسكر، الذي يعد من الأصوات الشعرية الكويتية المهمة والمتميزة، والذي تمسك بشعره وأخلص له بشجاعة نادرة، محتملاً في سبيله الكثير من المواجع وكان أقلها إصابته بالعمى وانفضاض الأهل والعشيرة عنه. وصدرت منارته بمشاركة بحثية من الدكتورة نورية الرومي، وكذلك بمداخلة من أحد مزامني الشاعر العسكر وهو الأديب عبدالمحسن الرشيد البدر. مواهب كويتية وللمزيد من التواصل الثقافي والأدبي بين مختلف الأجيال، نظم المجلس الوطني في مركز المدرسة القبلية الثقافي، ليلة إبداع للمواهب الكويتية الشابة، شارك فيها كل من: القاصة مي محمد الشراد، القاصة ميس العثمان، القاصة هبة بوخمسين، القاصة آمنة وليد المسلم، القاص يوسف ذياب خليفة، الشاعر عبدالناصر الأسلمي، الشاعر محمد هشام المغربي وعازف العود فيصل المغربي. ولكون الثقافة هي الصفة الملازمة لمهرجان القرين، جاء اختيار الشاعر والروائي والسياسي والوزير غازي القصيبي، بصفته شخصية المهرجان، وبما أضفى على المهرجان ألقاً وعبقاً ونكهة خاصة، إذ تم الاحتفاء بالقصيبي في لقاء مفتوح في جمعية الصحافيين الكويتية، ثم جرى حفل تكريم القصيبي. ولقي تقديم نورية الرومي المؤثر للشاعر الأثر الطيب لدى الحضور، كما كانت مشاركة الشاعر البحريني عبدالرحمن رفيع، مفاجأة جميلة للشاعر القصيبي، خصوصاً مع القصيدة الرقيقة التي ألقاها رفيع، ثم جاءت كلمة القصيبي، مركزة ووافية ودالة تناول فيها طريقه نحو الحرف، وكيف أنه لم يخطط ليكون شاعراً، ولا رتب الأمر ليكون روائياً، ولكنها الموهبة التي لا تدفع إلا لمزيد من العمل، إن على مستوى الشعر أو الرواية أو حتى المسؤولية في الوظيفة سواء كانت لأستاذ أو لوزير أو سفير. وكان لقاء الليلة التالية يفوح بعطره وعبيره، وأنشد القصيبي في أمسيته كشخصية للمهرجان، أنشد قصائد للحب، ولا شيء إلا الحب، حب الحبيبة والوطن والمبدأ والإنسان في كل صوره. وإذا كانت الثقافة حاضرة على امتداد مهرجان القرين، فإن الفن التشكيلي كانت له حصة مشهودة ومتميزة على خريطة المهرجان هذا العام، وكان البدء بمعرض للنحات السوري مصطفى علي، احتضنته صالة الفنون/ قاعة أحمد العدواني، وقدم خلاله الفنان مجموعة متميزة من أعماله النحتية النحاسية، وكذلك تجربته في المزاوجة بين مادة النحاس وخامة الخشب الطبيعي. وكانت محاضرة الفنان مصطفى في جمعية الفنون التشكيلية، إضافة مهمة الى المعرض، ولتقف أمام أهم المنعطفات في مسيرة الفنان الحياتية والفنية. وتزامن مع معرض النحات مصطفى علي، افتتاح معرض الفن التشكيلي البحريني، الذي احتوى على نتاجات الفن البحريني في أجمل تجلياته وفي مختلف مدارسه الفنية. وفي قاعة جمعية الفنون التشكيلية، كان لمحبي الفن التشكيلي موعد مع المعرض الشامل للفنانين الكويتيين، وقد احتوى على نتاج الفنانين الكويتيين من مختلف الأجيال والأعمار، وبما قدم من فرصة طيبة للمتلقي للوقوف على خريطة تطور الحركة التشكيلية في الكويت. وتواكباً مع هذا المعرض، جاءت محاضرة الفنان التشكيلي حميد خزعل، الذي يعد أحد الوجوه التشكيلية الكويتية النشطة والمتجددة بعملها وكتاباتها النقدية وبوجودها المحلي والعربي. وتمثل الحدث الأهم في النشاط التشكيلي هذا العام، بافتتاح متحف الفن الحديث في واحدة من أقدم المدارس الكويتية، المدرسة الشرقية، التي أعاد المجلس الوطني ترميمها في مشروع يهدف إلى ترميم المباني التاريخية في الكويت، بغية المحافظة عليها، وتعريف الجمهور بدورها التنويري. وظل وجود متحف للفن الحديث، حلماً بعيد المنال يراود مخيلة الفنانين والجمهور الكويتين. وكان ختام النشاط التشكيلي معرض الفنان أسعد عرابي، الذي قدم خلاله أعمالاً فنية مشغولة بحساسية لونية عالية، تمثل الرمز وفكرة الإنسان والوحش والخير والشر. وكانت محاضرة الفنان عرابي في جمعية الفنون التشكيلية إضافة مهمة للمعرض، إذ قدم الفنان خلالها صورة متكاملة لمسيرته الفنية وانتقاله من اللوحة التي تطبع دمشق عوالمها، إلى لوحة أخرى أكثر تجريدية ورمزية، وذلك ترجمة لبعده عن وطنه واستقراره في باريس ما يزيد على ثلاثة عقود. ولعل احتفال مهرجان القرين بكل ما هو ثقافي وفني يستلزم الوقوف عند محطة المسرح، وتمثل جانب النشاط المسرحي هذا العام، بعرض مسرحية "نقطة بيضاء" بالتعاون مع المعهد العالي للفنون المسرحية، وكذلك حفل توزيع جوائز مسابقة العروض المسرحية السنوية، إضافة إلى عرض مسرحية "سقوط مكبث" من أداء طلبة وطالبات من المعهد العالي للفنون المسرحية. يهدف مهرجان القرين الثقافي إلى جعل الثقافة الجادة والمبدعة زاداً يومياً في متناول الجمهور، مؤمناً بأن أقرب الطرق إلى إعلاء شأن الثقافة والفن إنما يتمثل في تكريم المبدعين. وهكذا اختطَّ مهرجان القرين لنفسه تقليداً سنوياً يحرص من خلاله على تأكيد العلاقة بين المبدع والمؤسسة الثقافية، وراعي الشأن الثقافي، وهكذا جاء الاحتفال بتوزيع جوائز الدولة التقديرية والتشجيعية لكوكبة متميزة من أبناء الكويت، بحضور ومشاركة الشيخ أحمد الفهد وزير الإعلام ووزير النفط بالوكالة رئيس المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، والأستاذ بدر سيد عبدالوهاب الرفاعي الأمين العام للمجلس الوطني. وفاز بجائزة الدولة التقديرية لهذا العام كل من: الشاعرة سعاد الصباح، والشاعر عبدالعزيز سعود البابطين، والفنانة سعاد عبدالله، بينما حصل على جائزة الدولة التشجيعية كل من: الفنان عبدالله القصار في مجال الرسم، والفنان غسان بورحمة في مجال التصوير الفوتوغرافي، والفنان حميد خزعل في مجال الدراسات النقدية في الفنون التشكيلية، والأديب طالب الرفاعي في مجال الأدب - الرواية، والناقدة نجمة إدريس مناصفة مع الروائي إسماعيل فهد إسماعيل في مجال الدراسات الأدبية واللغوية والنقدية، والباحث محمد المسيليم في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية، والمؤرخ عادل عبدالجادر في مجال التاريخ والآثار والجغرافيا.