اختتم مهرجان القاهرة السينمائي الدولي دورته التاسعة عشرة التي جاءت واحدة من اكثر دوراته هدوءاً وانتظاماً، وكان بامكانها ان تكون دورة متميزة لولا المفاجأة السيئة التي شكلها اعلان الجوائز في الحفلة الختامية. هنا اطلالة على ما أسفر عنه المهرجان. اسبوعان كاملان انقضيا بين افتتاح واختتام مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، في دورته التاسعة عشرة. اسبوعان امتلاءا بالأفلام واللقاءات والندوات والسجالات وانتهيا الى موعد وخبر. الموعد التقطه الجميع وسعدوا به، اما الخبر فمر مرور الكرام لأن لا علاقة مباشرة له بالمهرجان. الموعد هو لقاء العام المقبل مع الدورة العشرين لمهرجان القاهرة، وهو لقاء ينتظره أصدقاء المهرجان الشاعرين بتشوق لأنه يتكون من مناسبتين انعطافيتين اولاهما اقفال المهرجان لعقدين من عمره يأمله الاصدقاء مديداً، وثانيهما الاحتفال بالمئوية الاولى لدخول السينما الى مصر في العام 1896 على يد الاخوين الفرنسيين لوميا "مخترعي" فن السينما. أما الخبر فيتحدث عن شراء احدى شركات التلفزة العربية في الخارج لنحو 350 فيلماً تنتمي الى افضل ما في ذاكرة السينما المصرية، بمبلغ اجمالي يصل الى نحو ستة ملايين دولار تقبضها المؤسسة العامة للسينما نقداً وعداً. اين ستذهب هذه الاموال في وقت تبدو السينما المصرية بحاجة لأي دولار؟ يتساءل السينمائيون ويضيفون: نعرف انه ليس من الوارد ان يسأل السينمائي نفسه عما اذا كانت له حقوق في هذه الصفقة التي تبيع الحقوق الجماعية لذاكرة السينما المصرية على هذه الطريقة، ولكن هل يمكن لنا ان نأمل بأن يصرف المبلغ الذي ستناله المؤسسة الرسمية، لما فيه نهضة السينما المصرية: دور عرض، دعم للأفلام الشابة، مساهمة في ترسيخ حضور الفيلم المصري في الخارج؟ ذلك ان السينما المصرية تعيش في ازمة وتحتاج الى اية نقطة اوكسيجين. غير ان الأديب سعدالدين وهبه رئيس المهرجان لا يبدو موافقاً الرأي القائل بأن السينما المصرية في ازمة خطيرة، او انها تموت كما يذهب بعض الافلام ومنها قلم كاتب هذه السطور، لذلك جعل خطابه في الحفلة الافتتاحية متمركزاً حول ثلاث افكار رئيسية: اولها تتعلق بالتصدي للمتآمرين الذين يستخدمون الصحافة الخارجية للهجوم على السينما المصرية والزعم بأنها تموت، والثانية تتعلق بتكرار رفضه لأي تطبيع مع اسرائيل، والثالثة مساندته للسينما الفرنسية وغيرها من سينمات العالم ضد هيمنة السينما الأميركية... الأرقام... الأرقام على ذلك النوع تمكن وهبه من توجيه النقاش في وجهة تخرج كلياً عن المهرجان وعروضه، والتيارات السينمائية التي يمكن ان تكون قد برزت فيه. فالمهرجان ضمن اطار هذا المنطق جزء من معركة يخوضها السينمائي. ولأن السينمائي والسينمائي المصري خصوصاً لا ينبغي ان يشعر انه معزول، تأتي الارقام فصيحة، ويركز عليها رئيس المهرجان في خطابه، فإذا بمهرجان القاهرة يتخذ سمات المهرجان السجالي ذي القضية. وهذا التصور الممكن للمهرجان واكبه حضور الفنانة الهندية شعبانة عزمي، رئيسة لجنة التحكيم، التي بدت وهي تتحدث عن المهرجان بدورها، وكأنها تخوض معركة انتخابية في ضاحية من ضواحي بومباي: رنة نضالية وشعارات مختارة بعناية. كل هذا كان يمكنه ان يمهد، بشكل مقابل، للاثبات للجوائز المعطاة منطقية تتلاءم مع المشاعر العامة التي حملها المتلقون إزاء الافلام المعروضة. ولكن لا. شعبانة مناضلة وستظل مناضلة الى الأبد، وهي ستبدو وكأنها استخدمت نفوذها لفرض توجهات معينة على لجنة تحكيم غير متجانسة يبدو واضحاً عليها انها اما مبهورة بجمال وشخصية السيدة، واما غير مبالية بالموضوع على الاطلاق. والا فكيف يمكن لفيلم ساذج، مثل الفيلم الفيليبيني "حكاية فلورا" ان يفوز بالجائزة الكبرى، وان تفوز بطلته نورا او نور بجائزة افضل ممثلة؟ الجواب في منتهى البساطة: هناك في مكان ما خادمة فيليبينية قتلت سيدها الذي كان اغتصبها وشنت حملة عالمية لعدم اعدامها. والفيلم الفيليبيني "حكاية فلورا" يروي قصة مشابهة سبق ان حدثت في سنغافورة، اذن من الواضح ان شعبانة ساندت الفيلم كموقف منها لدعم الخادمة الفيليبينية، مجازفة بأن تسكت عن افلام تبدو في كافة المقاييس اكثر اقناعاً وجمالاً. اما مساندة سعدالدين وهبه للسينما الفرنسية ضد هيمنة السينما الاميركية فانها لم تمنع فيلماً اميركياً ساذجاً عنوانه "مستر إكس" نسي مؤلفه ومخرجه ان الحرب الباردة قد انتهت من الفوز بجائزتين رئيستين: افضل ممثل وأفضل سيناريو. والحال ان توزيع هذه الجوائز الرئيسية على هذين الفيلمين حرم من الفوز افلاماً اخرى، وجعل نوعاً من الشعور بالانزعاج يسري في أوساط المتفرجين الذين كانوا يتوقعون ان تكون ثمة جائزة من نصيب الفيلم المصري "يا دنيا يا غرامي" الذي يضخ دماً جديداً في السينما المصرية وهو ما سنعود اليه لاحقاً في حديث اكثر اسهاباً عن الفيلم، هذا الفيلم شكل مفاجأة حقيقية منذ اول ايام عرضه وأجمع المتفرجون، نقاداً وفنانين واناساً عاديين على انه يستحق الجائزة الكبرى، غير انه لم يتمكن من ان يلفت انظار اعضاء لجنة التحكيم، ولا أنظار عضويها المصريين المخرج حسين كمال والممثل حسين فهمي، بل فضلوا عليه فيلماً مصرياً آخر هو "اشارة مرور" للمخرج خيري بشارة، فمنحوه جائزة الهرم الفضي، وهي ثاني جوائز المهرجان من حيث القيمة. "اشارة مرور" فيلم جيد، وفيه يعود مخرجه الى رهافته السينمائية القديمة، انما من دون ان يتمكن من تجاوز ما كان سبق له ان حققه. ولكن يبدو ان المحكمين ادركوا جرأة الفيلم الشكلية والمهنية وهو الذي يسلط كاميراه على زحام سير ينتج عن مرور موكب رسمي. التجريبية ضد أصحابها جائزة افضل مخرج نالها الأوكراني سيرجي ماتساوبو بسيكوف عن فيلم لم يتنبه له احد من المتفرجين، وكان يمكن ان تعطى لرأفت الميهي عن فيلمه الجديد "ميت فل" الذي أثارت تجريبيته الجديدة وجرأة موضوعه قدراً كبيراً من السجال الصحي، وأعاد الى الفنانة شيريهان كممثلة، اعتباراً كانت فقدته بعد دورها الرائع في فيلم "الطوق والاسوارة" قبل سنوات. غير ان تجريبية رأفت الميهي وجرأته الفكرية والاخراجية لم تشفعا له لدى المحكمين، بل لربما يصح ان نقول بأن هذه التجريبية اشتغلت ضده لدى لجنة تحكيم ترأسها سيدة مناضلة تؤمن بالواقعية ولا شيء غيرها... وما حدث بالنسبة الى الجائزة الرسمية، حدث بالنسبة الى جائزة نجيب محفوظ وهي جائزة جديدة تمنح للعام الثاني على التوالي لأفضل فيلم يكون العمل الاول لمخرجه، وعلى عكس كل التوقعات التي كانت ترجح كفة فيلم "عفاريت الاسفلت" للمخرج الشاب اسامة فوزي للفوز بتلك الجائزة، لكونه، ومن بعيد، افضل الافلام التي عرضت في تلك المسابقة، جاءت النتيجة لصالح فيلم هندي بليد وممل يدعى "غفران" وهو من اخراج ب. ببكرام سنغ، ويتحدث عن زوجين يبحثان عن علاج لابنتهما المريضة ويعيشان وسط بيئة قاحلة ونماذج بشرية متنوعة. الطريف والغريب ان هذا الفيلم "البؤسوي" اعجب لجنة تحكيم تضم أديباً كبيراً هو جمال الغيطاني وسيدة من سيدات الشاشة العربية اي نجلاء فتحي ومخرجاً بوسنياً هو رشيد نرشيو بين آخرين ويرأسها الناقد جابر عصفور، وهي اللجنة نفسها التي لم تجد في جرأة طرح القضية الجنسية، وفي الشاعرية الماثلة في فيلم "عفاريت الاسفلت" ما تقول. مهما كان حين سألنا الكاتب الصديق جمال الغيطاني عن الأمر الذي جعل مثل هذه النتيجة ممكنة ابتسم وقال: "أنا في نهاية الأمر رجل أدب ولا علاقة لي بالسينما". جوائز مع وقف التنفيذ بشكل عام أتت النتائج مثيرة لسخط الكثيرين، وأتت بشكل خاص ظالمة لسينما مصرية، تمكنت رغم أزمتها القاتلة المستشرية، من ان تنتج افلاماً يشكل بعضها "عفاريت الاسفلت" و "يا دنيا يا غرامي" مفاجأة حقيقية. غير ان هذا السخط لا ينبغي ان ينسينا ان المهرجان، في هذه المرة، تبدى اكثر انضباطاً وتنظيماً اكثر من اي وقت مضى، وكأنه بلغ حقاً سن النضج ويستعد لدورته المقبلة التي من المتوقع ان تكون ذات اهمية استثنائية. وكذلك شكل المهرجان، مرة اخرى، لقاء بين فناني السينما ونقادها وجمهورها، وراح الجميع يتبادلون الشكوى من الاوضاع المزرية التي وصل اليها الانتاج السينمائي في هذا البلد او ذاك. ووسط هذا كانت الشكوى المصرية هي الاكبر. السينمائيون المصريون، والصحافيون المصريون أكدوا الأمر وبمرارة: نعم السينما المصرية في ازمة. نعم السينما المصرية تموت. والأمر بحاجة الى انقاذ سريع، لا الى حبات الأسبيرين المعتادة. ومع هذا تتدفق حبات الأسبيرين، وكان آخرها، الجديد الذي اعلن خلال المهرجان ويتمثل في تقديم وزارة الاعلام - بقرار اتخذه وزيرها صفوت الشريف - جوائز قيمة كل منها 15 ألف جنيه لكل فيلم يشارك في المسابقات الرسمية، اضافة الى جوائز اخرى قيمة كل واحدة منها 25 ألف جنيه لكل فيلم يفوز بجائزة. في البداية بدا الامر مفاجئاً وطيباً، ولكن سرعان ما حلت الخيبة حين تبين ان الجوائز عينية، اي ان المبلغ سيدفع على شكل اعلانات تلفزيونية مجانية للأفلام الفائزة! "خير من لا شيء" قال لنا المنتج محمد العدل، منتج فيلم "اشارة مرور"، الذي كان، في رأينا، يحتاج لأن يعطى جائزة الشجاعة الخاصة مقابل خوضه مغامرة انتاج هذا الفيلم. والحال ان "المغامرة" هي الكلمة التي يمكن استخدامها بكل بساطة لوصف الأداء الكامن خلف معظم الافلام المصرية التي عرضت في المسابقة الرسمية ومسابقة نجيب محفوظ. فالسينمائيون المصريون، سواء أكانوا من طينة رأفت الميهي وخيري بشارة، أو من طينة اسامة فوزي ومجدي احمد علي، باتوا يدركون ان الوسيلة الوحيدة والتي يملكونها هم لاخراج السينما المصرية من أزمتها الخانقة تكمن في التجريب والمغامرة الموضوعية والشكلية، ومن هنا اتسمت افلامهم بقدر هائل من الجرأة ومن التجريب، من المفرح انهم لم ينالوا سخط الرقابة، التي سرت شائعات وحكايات عن تدخلها في احدى الصالات التابعة للمهرجان والتي كانت تعرض افلاماً اباحية غير مرخص لها بأن تعرضها. السينما العربية: غياب قاتل مهما يكن، مر المهرجان بسلام وهدوء استثنائيين، ولم يعرف الخبطات الكبيرة، لكنه في المقابل كشف عن ان السينما المصرية ليست وحدها في ازمة، بل - بين سينمات اخرى - تبدو كافة السينمات العربية متأزمة، وهو أمر كشفه الغياب الملحوظ لأية سينما عربية لافتة في المهرجان، ففيلم "حبيبة مسيكة" التونسي لم يكن في المستوى الذي عودتنا عليه السينما التونسية في الثمانينات وأوائل التسعينات. والفيلم الجزائري "كان يا ما كان" لبلقاسم بلحاج، ليس هو الفيلم الذي يمكنه ان يقول ان السينما الجزائرية في خير. اما الفيلم السوري الجديد "صعود المطر" الذي سنعود اليه في عدد لاحق من "الوسط" فإنه يأتي، كثالث فيلم لمخرجه عبداللطيف عبدالحميد، مثيراً للعديد من الاشكاليات المتعلقة بالتجريبية الشكلية، التي يلجأ اليها الفيلم بقسط لا بأس به من النجاح، ويطرح العديد من الاسئلة الفكرية والجمالية التي تبدو - في نهاية الأمر - مباغتة. في نهاية الأمر يحسب هذا الفيلم لصالح مخرجه ويبدو من السيئ انه لم يفز بأي جائزة على الاطلاق. مهرجان القاهرة الذي اختتم اعماله قبل ايام، لم ينس ان يكرم بعض نجوم الفن السابع فكانت تحيات التكريم خلال الافتتاح من نصيب نادية لطفي وماري كويني وكمال الشيخ واحمد مظهر وقد اصدر المهرجان كتيباً عن كل واحد منهم، لكن الكتيب الخاص بأحمد مظهر لم يظهر وقيل ان من كثرة ما فيه من اخطاء وركاكة، أغضبت احمد مظهر وجعلته يهدد بمقاطعة تكريمه ان وزع الكتاب. اما في الحفلة الختامية فكان التكريم من نصيب الممثل الايطالي البرتو سوردي والفنانة الانكليزية سارة مايلز والممثل فرانكو نيرو والفنانة شعبانة عزمي وبعض السينمائيين الآخرين. سعدالدين وهبه، في نهاية الأمر، ضرب للحضور موعداً جديداً للعام المقبل في الدورة العشرين، فهل يمكننا ان نأمل منه في ان يحاول جعل الدورة المقبلة مثالية واستثنائية، في التنظيم، ولكن ايضاً في اختيار الافلام وفي سلوك مبدأ يقوم على ترجيح النوعية على الكمية. فهل يمكننا ان نأمل منه تحقيق دورة تستفيد من اخطاء وحسنات كافة الدورات السابقة؟ نحن نعتقد ان فناناً من طراز سعدالدين وهبه يمكنه ان يجابهه بشجاعة ونقد ذاتي ضروريتين اذ، في نهاية الأمر، لم تعد لغة الارقام والاحصاءات كافية للاقناع. ونود في الختام، ولهذه المناسبة، ان نسر في اذن صديقنا وأستاذنا سعدالدين وهبه، بأن الارقام التي أصر على ايرادها في خطبة الاختتام، كانت اضعف ما في المهرجان ولم تضف اليه شيئاً، لأنه ليس بالأرقام وحدها يحيا الانسان.