يحب الإنسان ان يتميز عن غيره من الناس، وأن يستمتع بسلم الطبقات... فإن فاته الاستمتاع بالتفوق بالثروة والغنى، أو بألقاب زمان، فإنه يتمسك بالتفوق في العلم وجاه العلم وألقابه معروفة. وحتى إن فاته ذلك فإن الدنيا تتسع للتفوق في غير الثروة وغير العلم، والتميز من غير الألقاب الرسمية. إقرأ معي في الصحف عبارات "بقلم الكاتب الكبير" أو "بقلم الأديب الكبير". وتذكر معي ايام الشباب التي مرت، وكانت الصحف تذكر بعض الاسماء مسبوقة بعبارات "المحسن الكبير" و "الطبيب النابغة" و "النجم اللامع" و "الوجيه الامثل" و "الحرم المصون" و "الاستاذ" و "معلم الجيل" و "الكاتب اللوذعي"... ولما ألحت على توفيق الحيكم فكرة الانضمام الى نادي حملة الألقاب، ولم يجد من يسعفه في هذا المجال، اصر على ان يسمي نفسه "عدو المرأة"، وان يحمل هذا اللقب عشرات السنين... والعجيب ان توفيق الحكيم كان يحمل درجة الدكتوراه في القانون من المرتبة الثالثة، وكان يستطيع ان يلقب نفسه بالدكتور. طبعاً كان هذا كله حاضراً في زمان البكوية والباشوية وأصحاب الدولة والمعالي والمقام الرفيع. ومهما كانت ادعاءاتي الديموقراطية، وانكاري للتميز بالألقاب آنذاك، فلم أكن أبداً أتحدث الى كامل الشناوي او توفيق الحكيم او عنهما إلا وأسمهما مقروناً بلقب "بك"، اضف اليهما استاذي يحيى حقي ايضاً. والغريب انه، حتى في ذلك العهد، كان محمد حسنين هيكل يحب من عارفيه، ويحب عارفوه، أن يلقبوه ب "الاستاذ" لا اكثر ولا اقل. ولكن كلمة الاستاذ المقرونة باسم هيكل حملها معه الى كرسي وزارة الاعلام. وفي حين كان كل الوزراء تسبق اسماءهم كلمة السيد، كان هيكل وحده يتميز بينهم بلقب الاستاذ. اول مرة كلمت فيها الدكتور طه حسين في التلفون الذي اعطاني كامل الشناوي رقمه، سألت: "الدكتور طه حسين موجود من فضلك؟". فرد علي المجيب: "الرقم غلط"! وقطع المكالمة. فرجعت الى كامل الشناوي بك من فضلك، فقال لي: الرقم مضبوط والذي رد عليك هو طه حسين نفسه، فقل لي ماذا قلت له؟ أجبته: "سألت بعد ألو هل الدكتور طه حسين موجود؟ ولم أزد حرفاً". فضحك كامل بك من فضلك وقال لي: "ألا تعرف انه طه حسين باشا يا ألفريد؟"... في صوته رنة "عتاب" شناوية حيرتني قلت: "أنا شاب صغير يا كامل بك، قليل الخبرة والتجربة، فأرجو أن تفهمني اذا كان قوة الغاءه والذي حصل عليه طه حسين بالكفاءة والجهد والموهبة والنبوغ ولم يتفضل عليه به أحد. فقال كامل بك: ستتعلم الكثير! وأعدت "الاتصال بالرقم نفسه: "ألو... طه حسين باشا موجود؟"، فأجابني الصوت السابق نفسه: "أنا طه حسين. من يتكلم؟". أما الدكتور لويس عوض، وكان تلميذاً لطه حسين وأحد اقرب الشباب الى قلبه، فكانت لي معه تجربة مختلفة، حين قابلته اول مرة بناء على موعد سابق، في حديقة جروبي الكائنة في شارع عبد الخالق ثروت باشا من فضلك. كنت ادعوه اثناء حديثي باسمه مسبوقاً بلقب الاستاذ، فقاطعني باهتمام وقال لي: "أنا إما الدكتور لويس عوض، او لويس عوض فقط، كما تحب. ولكن لا تدعوني بلقب الاستاذ لا أحبه". فعجبت من ذلك، لأن لويس عوض كان حصل على الدكتوراه حديثاً من أميركا، وكان مرشحاً لدرجة استاذ في جامعة القاهرة، ولكنه لم يلبث ان فصل من الجامعة بسبب بيان وقعه ستون استاذاً، يناشدون فيه الجيش العودة الى الثكنات، فتم فصلهم جميعاً من الجامعة. كان ذلك في العام 1954. وحب الناس للألقاب لا يزال يحير العقل. فالكاتب الكبير المقام والسن محمود السعدني يحب ان يسميه النقاد والقراء "بالولد الشقي"، مع ان الناس كلهم يعرفون عنه انه - على عكس ذلك - الكاتب الكبير الملتزم. فهو من محطمي الارقام القياسية في الاقامة في السجن، والفصل من الصحف من اجل الرأي وشجاعة التعبير. فلا سنه تسمح بتسميته الولد ولا أفعاله من جنس الشقاوة. ومن مفارقات حياتي أني لم اتمتع ابداً بلقب الكاتب الشاب، وهو لقب يوحي بالنضارة والجدة والشباب والتجريب، وهو يماثل صورة النهر في منابعه صفاء وقوة وقدرة على شق الارض ورسم الاتجاه. لم أنعم بهذا اللقب لأني، وأنا اصغر زملائي كتّاب المسرح، كتبت معهم وفي زمانهم، وحظيت معهم ومثلهم بثناء النقاد، واكتسبت معهم وفي جمعهم "بالصح أبو الغلط" ألقاب الكاتب المسرحي الكبير. وكتبوا أسمي في الصحف موصوفاً بالكاتب الكبير، وأنا بعد في الثلاثينات من عمري، وأغراني زهو الشباب وطيشه بالاستمتاع بألقابي، والامتناع عن ردها او رفضها. فلما تقدمت بي السن، وبعد مرور ثلاثة عقود من الزمن، أصبح يزعجني تسميتي بالرائد والكاتب المسرحي الكبير او الراسخ، وأحب ان يضمني النقاد اليوم، ولو على سبيل تكلف المجاملة، الى زمرة الكتّاب الشبان واصحاب التجريب المسرحي والشطحات الفنية والصيحات الجديدة... وأقدم اوراق اعتمادي في هذا المجال بمجموعة مسرحياتي التجريبية الحديثة، وصفحات التجريب في مسرحياتي القديمة. واترك للنقاد البحث عنها والبحث فيها. ثم مراجعة ألقابي الفنية على هواي... إذا وافق ذلك هواهم. * كاتب مسرحي مصري.