يرتدي اتفاق التعاون العسكري الذي وقعته اخيراً روسيا واسرائيل اهمية تاريخية على اكثر من صعيد سياسي واستراتيجي، كونه الاول من نوعه في تاريخ العلاقات بين البلدين. لكن التوصل إلى مثل هذا الاتفاق بين موسكو وتل ابيب لا يجب ان يكون مفاجئاً، بل ان الاعلان عنه خلال زيارة وزير الدفاع الروسي الجنرال بافل غراتشيف الاخيرة لاسرائيل، وهي بدورها الاولى التي يقوم بها وزير دفاع روسي او سوفياتي من قبله للدولة العبرية منذ انشائها، لم يكن اكثر من تتويج رسمي لرغبة متبادلة ظهرت منذ البدايات الاولى لقيام جمهورية روسيا الاتحادية الجديدة على انقاض الاتحاد السوفياتي وكتلته الاشتراكية. واذا كان البيان الرسمي لم يكشف الكثير من بنود الاتفاق او تفاصيله، مكتفياً بالاشارة إلى العموميات، الا ان المصادر الديبلوماسية التي تابعت محادثات الجنرال غراتشيف مع المسؤولين في المؤسسة العسكرية الاسرائيلية اكدت ان الاتفاق، الذي اطلق عليه رسمياً اسم "مذكرة تفاهم"، تضمن بنوداً وملاحق سرية تتعلق بتطوير الاسلحة الجديدة والدخول في برامج انتاج مشتركة إلى جانب تحديث الاسلحة الروسية والسوفياتية العاملة حالياً في روسيا ودول اخرى. وعلى رغم المحاولات التي بذلها المسؤولون الروس منذ الاعلان عن الاتفاق للتخفيف من وقعه و "طمأنة" الاطراف العربية التي شعرت بالدهشة والامتعاض حياله، فإنه كان واضحاً ان تلك المحاولات كانت من باب "المعالجة الديبلوماسية" وعلى أمل التخفيف من انعكاساته السلبية على علاقات موسكو بدول عربية لا تزال تعتبر ان بمقدورها متابعة علاقاتها مع روسيا كامتداد طبيعي للعلاقات التحالفية والاستراتيجية التي كانت تربطها بالاتحاد السوفياتي. وكان مثل هذا التوجه واضحاً من خلال التصريحات التي أدلى بها في كل من دمشق وبيروت نائب وزير الخارجية الروسي لشؤون الشرق الاوسط فيكتور بوسوفاليوك الذي "صادف" قيامه بجولة في المنطقة شملت سورية ولبنان وتزامنت مع زيارة الجنرال غراتشيف لاسرائيل، اذ شدد بوسوفاليوك على ان الاتفاق "لا يشكل تحولاً في سياسة روسيا حيال الشرق الاوسط"، وانه مجرد "خطوة روتينية وتقليدية" من شأنها "تدعيم وجود روسيا في المنطقة وتعزيز دورها كراعية مع الولاياتالمتحدة لعملية السلام". وقد يكون ذلك صحيحاً إلى حد كبير. بل ان المسؤولين الروس هم اول من يعترف بأن الفرصة الوحيدة لموسكو للعب دور مؤثر في عملية السلام، هي من خلال التعاون مع واشنطن واقامة علاقات سياسية طبيعية ومتوازنة مع اسرائيل إلى جانب غيرها من دول المنطقة. لكن العلاقات السياسية والتفاهم والحوار شيء، والدخول في تعاون عسكري يصل في الكثير من أطره إلى حد الشراكة الكاملة شيء آخر. ومن هنا تنبع الاهمية الخاصة التي يتسم بها الاتفاق الروسي - الاسرائيلي، لأنه يدل على عمق الاقتناع لدى الجانبين بحجم المصالح المشتركة التي يمكن ان تجمع بينهما مستقبلاً، وتتجاوز الاطار العسكري والتسليحي. ولعل العنصر الاكثر اهمية في الاتفاق انه يوفر القاعدة للجانبين لإرساء علاقاتهما على اساس من التعاون عوضاً عن التنافس. وينطبق هذا في الدرجة الاولى على الادوار التي يمكن للصناعات العسكرية الروسية والاسرائيلية ان تلعبها في صورة مشتركة في اسواق دولية كانت تشكل حتى الآن ميداناً لتنافس شديد بين هذه الصناعات كاد يصل احياناً إلى حد النزاع القانوني. والأمثلة على ذلك كثيرة. فاسرائيل لم توفر جهداً منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك الكتلة الاشتراكية في اوروبا الوسطى والشرقية وبلدان عدة من العالم الثالث للانفتاح على دول كانت تنطلق في علاقاتها مع الدولة العبرية من منطلقات الخصومة والعداوة. وكان واضحاً ان الاهتمام الاسرائيلي بتلك الدول لم يكن مقتصراً على السياسة والتجارة المدنية، بل انه تركز على الجوانب العسكرية والتسليحية، خصوصاً في مجال تحديث الاسلحة والمعدات العسكرية السوفياتية الصنع. والفرصة التي رآها الاسرائيليون في هذا المجال كانت سانحة فعلاً. فالغالبية العظمى من تلك الدول تعاني اوضاعاً اقتصادية متردية لا تسمح لها برصد مبالغ كبيرة لاعادة تسليح قواتها وتجهيزها معدات عسكرية غربية. كما ان الكثير منها لا يزال يعيش اوضاعاً سياسية قد لا تشجع الدول الغربية وشركات انتاج الاسلحة فيها على تلبية حاجاتها العسكرية حتى ولو توافر لها التمويل اللازم. من هذا المنطلق برزت خلال السنوات الماضية سوق تسليحية دولية جديدة تقوم على تحديث الكميات الضخمة من الاسلحة السوفياتية التي لا تزال تعمل لدى الكثير من الدول بما يضمن الاستمرار في استخدامها بفاعلية لسنوات عدة اخرى. وتقدر المصادر الدفاعية الدولية القيمة الاجمالية التي يمكن ان يصل اليها حجم الصفقات في هذا المجال خلال السنوات العشر المقبلة بما يتراوح بين 5 و10 بلايين دولار. وهي تشتمل على انواع من الاسلحة الرئيسية التي لا تزال تتمتع في نظر مستخدميها بكفاءة الامر الذي يشجع على ابقائها في الخدمة الفعلية، مثل طائرات "ميغ - 21" و "ميغ - 23" و "ميغ - 27" و "سوخوي - 22"، و طائرات الهليكوبتر من طراز "ميل - 8" و "ميل - 17" و "ميل - 24"، والدبابات من طراز "ت - 54 / 55" و "ت - 62"، وأنواع من العربات المدرعة ومدافع الميدان والراجمات الصاروخية وأنظمة الدفاع الجوي الصاروخية والمدفعية. ولاسرائيل خبرة طويلة في ميدان تحديث الاسلحة السوفياتية تعود إلى السبعينات، بفضل الكميات التي غنمتها من تلك الاسلحة في حروبها مع الدول العربية، فقامت باجراء تعديلات وتحسينات متنوعة على الكثير منها وانتجت نسخاً عن بعضها الآخر وادخلتها إلى خدمة قواتها، مثل دبابات "ت - 54 / 55" و "ت - 62" التي زودتها مدافع وأنظمة رؤية ومحركات جديدة ولا تزال تعمل حتى الآن في صفوف الجيش الاسرائيلي، وكذلك طرازات من العربات المدرعة ومدافع الميدان والراجمات والمدافع المضادة للطائرات والصواريخ. والى جانب استخدامهم لهذه الاسلحة السوفياتية المعدلة او المنتجة محلياً، صدّر الاسرائيليون خلال العقدين الماضيين كميات من الاسلحة إلى دول اخرى في مبادلات سرية وغير شرعية في معظم الاحيان، كما حصل مع اثيوبيا وزائير ونيجيريا وجنوب افريقيا خلال الثمانينات، اضافة إلى التعاون السري الذي قام بين اسرائيل والصين طوال اكثر من عقد ولا يزال مستمراً. واعتباراً من مطلع التسعينات، وبفضل التحولات الدولية، اتخذ النشاط الاسرائيلي في هذا المجال اوجها علنية ورسمية، اذ تعرض "مؤسسة الصناعات الجوية الاسرائيلية" طرازاً محسناً من المقاتلة "ميغ - 21"، أطلقت عليه اسم "ميغ - 21 / 2000"، على الدول التي تستخدم هذه المقاتلة في برامج تتضمن اجراء عمرات كاملة على تلك الطائرات وتزويدها انظمة رادارية والكترونية وصواريخ جو - جو وذخائر جديدة من صنع اسرائيلي. وبالفعل، بدأت ثمار هذا التوجه الاسرائيلي بالظهور تباعاً، حيث فازت الصناعات الاسرائيلية بعقد مع رومانيا بلغت قيمته حوالي 450 مليون دولار لتحديث 100 مقاتلة "ميغ - 21" وتحويلها إلى الطراز "ميغ - 21 / 2000"، بما في ذلك تزويدها صواريخ جو - جو اسرائيلية الصنع من طراز "بايثون". كما فازت اسرائيل بعقدين مماثلين مع كل من كمبوديا 24 طائرة وزامبيا 14 طائرة، في الوقت الذي تتفاوض منذ مدة على تنفيذ برامج تعاون مع كل من المجر وتشيكيا لتحديث مقاتلات البلدين من طرازي "ميغ - 21" و "ميغ - 23" وأنواع اخرى من الاسلحة السوفياتية. كل هذا لم يغب عن الصناعات الروسية التي تحاول منذ سنوات اكتساب اسواق دولية جديدة لتعويض ما خسرته من اسواق تقليدية ايام الاتحاد السوفياتي، إلى جانب اهتمامها بالاحتفاظ بأسواقها القديمة في اوروبا الشرقية والعالم الثالث. وسارعت تلك الصناعات إلى عرض برامج تحديث متنوعة لأسلحة كانت تنتجها، ما وضعها في موقع المنافسة المباشرة مع نظيرتها الاسرائيلية، حيث برز هذا الامر مثلاً مع الهند التي تعتزم منذ مدة تحديث مقاتلات "ميغ - 21" العاملة لدى قواتها. ووصلت حدة التنافس بين شركة "ميكويان" الروسية المنتجة لعائلة مقاتلات "ميغ"، والتي تعرض حالياً طرازاً محسّناً من المقاتلة "ميغ - 21" اطلقت عليه اسم "ميغ - 21 / 93"، والصناعات الجوية الاسرائيلية على الفوز بالبرنامج الهندي ان هدد معه الجانب الروسي باللجوء إلى المحاكم لمنع الاسرائيليين من الفوز به على اعتبار ان هذه المقاتلة روسية في الاصل وبالتالي فإن اي محاولة لتحديثها او انتاج نسخ معدلة منها من دون ترخيص تشكل "قرصنة". لكن الامور لم تصل إلى هذا الحد، بل فاز الجانب الروسي في نهاية الامر بالعقد الهندي الذي يشتمل على 150 طائرة "ميغ - 21" في برنامج سيتم تحويلها بموجبه إلى مقاتلات من طراز "ميغ - 21 / 93". الحلف الجديد وتكمن أهمية الاتفاق الروسي - الاسرائيلي في انه مخصص لمنع تكررا مثل هذه المنافسات مستقبلاً، بل ان الواضح انه يهدف إلى تحقيق تعاون بين الجانبين يكفل دخولهما معاً إلى هذه الاسواق الدولية وتقاسمهما الارباح. وسواء كان الأمر متعلقاً بتحديث الاسلحة القديمة فقط، او الدخول في برامج تعاون لتطوير اسلحة جديدة، فإن الفوائد المتبادلة للجانبين تبدو جلية. ولعله من قبيل المصادفة ان الاعلان عن هذا الاتفاق الاسرائيلي - الروسي تزامن مع كشف وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية عن معلومات تؤكد ما كان شائعاً منذ مدة عن قيام الصين بتطوير طائرة مقاتلة تحمل اسم "ف - 10" تستند في تصميمها إلى المقاتلة الاسرائيلية "لافي" التي جرى العمل على تطويرها بدعم مالي اميركي في الثمانينات قبل ان يتم الغاؤها بضغط من الولاياتالمتحدة آنذاك. لكن الأكثر إثارة في الموضوع ان الطرف الثالث في هذا البرنامج الصيني - الاسرائيلي هو روسيا بالذات التي ستزود هذه المقاتلة محركاتها وبعض انظمتها الالكترونية والتسليحية، ليصبح المشروع برمته برنامجاً ثلاثياً مشتركاً فريداً من نوعه بين الصناعات الجوية الصينية والروسية والاسرائيلية. وربما كان هذا هو الشكل الذي سترسو عليه الامور مستقبلاً، فالسوق الصينية وحدها توفر لتحالف صناعي وتكنولوجي روسي - اسرائيلي مثل هذا فرصة فريدة لتشكيل نواة كتلة جديدة لتطوير الاسلحة وانتاجها. واذا ما دخلت في اطار مثل هذا التحالف الجديد دول اخرى ذات اهتمامات مشابهة، وجنوب افريقيا هي المثال الأبرز على ذلك بحكم علاقتها التقليدية الوثيقة في مجال التعاون العسكري مع اسرائيل، فإن الحديث يصبح ممكناً عن قوة جديدة لا يمكن تجاهلها في التحالفات الاستراتيجية الدولية تجمع بين روسياوالصين واسرائيل وجنوب افريقيا. وقد تكون نواة هذه الكتلة بدأت في الظهور، بل انها قد تتحول إلى بديل استراتيجي حقيقي من الاتحاد السوفياتي وكتلته الاشتراكية السابقة.