حين غطس كامل ابو السعادات - المواطن السكندري - في مياه الاسكندرية وتحديدا في منطقة قلعة قايتباي في اوائل الستينات، لم يكن يعلم انه سيكشف الستار عن احد اكبر الاكتشافات الاثرية، وانه سينقذ لاحقاً جزءاً كبيراً من مدينة الاسكندرية القديمة الغارقة. وفي العام 1963، نجح رجال الضفادع البشرية المصرية في انتشال تمثالين ضخمين احدهما للالهة ايزيس. وفي الأعوام اللاحقة اجرى فريق تابع لمنظمة اليونسكو دراسات محدودة بسبب قصور التكنولوجيا في ذلك الوقت. ويرجح اثريون أن عمر اكتشاف الآثار الغارقة يعود الى العام 1911 حين اكتشف غاستون عويد يد كبير مهندسي مصلحة الموانئ أرصفة ميناء كامل شمال غرب رأس التين على عمق حوالي ثمانية امتار. مفاجأة وضوء أخضر على اية حال ظل الموضوع منسياً حتى قبل عامين، حين بدأت هيئة الآثار تصب كتلا خرسانية ضخمة في المياه لحماية قلعة قايتباي، وفجأة اكتشف العاملون أنهم يصبون الكتل على الآثار الغارقة. وكان هذا الاكتشاف بمثابة ضوء أخضر لفريق عمل مصري فرنسي مشترك كي يقوم بعملية مسح بحرية شاملة لتحديد مواقع القطع وتصويرها معتمداً على التقنيات الحديثة في هذا المجال. وكانت المفاجأة مدناً وآثاراً تعود الى عصور قديمة قدم الفراعنة. ومع تقدم البحث والتصوير والتقويم تأكد وجود حوالي ألفي قطعة اثرية. يقول السيد كولين كلمنت المتحدث الصحافي باسم البعثة الفرنسية في الاسكندرية ل "الوسط" إنه تم خلال شهر تقريبا التأكد من وجود عدد هائل من القطع الأثرية وتأكدت كذلك اهمية المنطقة اثريا. ويقول إنه في الوقت نفسه، وافقت مؤسسة ثقافية فرنسية على دعم المشروع ماديا، وفي شهري ايار مايو وحزيران يونيو الماضيين قام فريق يتكون من 35 شخصا بين اثريين ومصورين وعلماء مصريات مصريين وفرنسيين مدربين على الغطس بتصنيف نحو الف قطعة اثرية غارقة. وقد لعبت التكنولوجيا دورا مهما في المشروع، إذ مكنت الاختصاصيين من وضع خريطة كاملة ومفصلة للمنطقة. يقول كلمنت انه امكن - عن طريق اجهزة كمبيوتر على الشاطئ متصلة بأجهزة حساسة يحملها الاختصاصيون اثناء الغطس - تسجيل كل المعلومات اللازمة عن القطع الاثرية، حجمها، وزنها، حالتها، تفاصيلها المعمارية. ويقول الدكتور عبد الحليم نور الدين الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار ل "الوسط" إن الاثار الغارقة تتراوح بين قطع منفصلة واخرى ثابتة مثل مقاطع من موانئ ومدن هابطة تعود الى العصور الفرعونية واليونانية والرومانية والبطلمية. ويضيف إن بعض تلك الآثار يعود الى عصور رمسيس الثاني وسيتي الاول وبسماتيك "الاسرة ال 26". وجهتا نظر وفي حين يؤكد الفريق الفرنسي أن بعض الكتل الضخمة الغارقة يمثل اجزاء من فنار الاسكندرية الشهير أحد عجائب الدنيا القديمة السبع، يدعو نورالدين الى التروي والانتظار. يقول نورالدىن: لا يمكن أن نحكم على تلك القطع في المرحلة الحالية، علينا الانتظار إلى أن ننتشلها ونفحصها لتحديد هويتها والتأكد من أنها جزء من الفنار. أما كلمنت فيقول: مبرراً تأكيد الجانب الفرنسي - وجدنا قطعاً ضخمة عدة يصل وزن الواحدة منها الى حوالي 75 طنا، متراصة في صف واحد، وتحديدا في شمال شرق القلعة، وهو الموقع الاصلي المرجح للفنار ما يشير بصفة شبه مؤكدة أنه فنار الاسكندرية". ومعروف أن الفنار الجرانيتي الشهير كان يتكون من ثلاث طبقات، وتعرض لسلسلة من الهزات الارضية كان آخرها في القرن ال 14. خطة على مراحل وقد وضعت خطة لانتشال بعض القطع على مراحل متعددة وبدأت المرحلة الأولى قبل ايام وتقرر خلالها انتشال 30 قطعة. يقول نورالدين عن كيفية انتقاء القطع الثلاثين من دون غيرها إنه وقع الاختيار على الاحسن والأهم تاريخيا والافضل حالا والاسهل رفعا، اذيصعب انتشال القطع التي تزن مئة طن مثلا. وفي الاسبوع الماضي وفي احتفال ضخم حضره السيد فاروق حسني وزير الثقافة المصري والسيد جان ايف امبرور مدير المعهد الفرنسي للآثار في الاسكندرية والسيد باتريك لوكليرك سفير فرنسا لدى مصر ونور الدين وعد كبير من الاثريين والصحافيين انتشلت القطعة الأولى من المنطقة المتاخمة لقلعة قايتباي. والقطعة عبارة عن الجزء العلوي من تمثال ضخم من الجرانيت لامرأة تعود الى العصر البطلمي اي مايزيد على الفي عام. استغرقت العملية حوالى أربع ساعات بسبب سوء الأحوال الجوية ما عرقل عمال الغوص خصوصا أن التمثال يزن 12 طنا. ويرجح انه كان موضوعا في واجهة أحد المعابد التي كانت تنتشر في المنطقة. ويذكر ان سوء الأحوال الجوية كان السبب وراء تحمل الجانب المصري جزءاً من تكاليف الانتشال، بعدما زادت أيام العمل المتوقعة. وتبع انتشال التمثال عدة عمليات اخرى في الايام التالية، فانتشل تمثال منزوع الرأس والقدمين قد يكون لملك فرعوني يزن 12 طنا ايضا، كذلك تمثالان لأبي الهول احدهما منزوع الرأس والآحر كامل و جزء من عمود اثري، وجزء من تمثال أثري يزن حوالي 600 كيلو غرام. كما انتشل تمثال ضخم لأبي الهول طوله ثلاثة أمتار، ويزن خمسة أطنان، وعمود من الغرانيت الوردي على شكل زهرة اللوتس طوله ثلاثة أمتار ويزن أربعة أطنان ويعود الى العصر البلطيمي. وانتشلت أيضاً مسلة فرعونية عليها نقوش باللغة الهيروغليفية وزنها 750 كيلوغراماً وطولها 1.25 متراً. تنتشل القطع بربطها ببالون هوائي ضخم ثم تسحب الى داخل البوغاز بواسطة قاطرة بحرية وتتولى رافعة عملاقة عائمة مهمة رفعها الى الرصيف. ويشير كلمنت الى انه نظريا يمكن انتشال القطع الثلاثين في يوم واحد، إلا أن الظروف الجوية هي صاحبة القرار. ومن المقرر ان يجري للقطع المنتشلة ما يشبه الاسعافات الأولية فتعالج لتخليصها من الأملاح والشوائب ، ثم تنقل الى أحواض الترميم في كوم الدكة. وفي الوقت الذي يؤكد فيه الجانب المصري الاهمية البالغة للاثار الغارقة، ويرى وزير الثقافة المصري انها ستزيد من الاهمية التاريخية لمدينة الاسكندرية وأنها نقطة جذب سياحي جديد، يشير الجانب الفرنسي الى أن الاهمية التاريخية للآثار ليست بالغة وان كان بعض القطع المنفردة له اهمية كبيرة. يقول كوليني إن أهمية الآثار تكمن في أنها تلقي الضوء على الاسكندرية القديمة ويمكن من خلالها التوصل الى ملامح المكان. الى كونها تعتبر اضافة جديدة للتاريخ. ويعود الى قضية الفنار ويقول: مثلا يمكن عن طريق دراسة اجزاء الفنار التعرف الى الطريقة التي شيد بها واسلوب تصميمه. ورغم ان الجانبين المصري والفرنسي يؤكدان أنهما يعملان في جو يسوده التعاون والتفاهم، إلا أن الاجواء لا تخلو من شائعات تلوح باحتمال قيام الجانب المصري باهداء فرنسا بعض تلك الاثار. وينفي نورالدين ذلك الاحتمال بشدة، ويقول إن الآثار ستبقى في مصر ولن نهدي فرنسا أياًمنها، ويؤكد انها بعد ترميمها ستنقل لتعرض في المتاحف المفتوحة او تلك الموجودة في الاسكندرية وفي حال وجود آثار بالغة الاهمية، فانها ستودع المتحف المصري في القاهرة. المشكلة الوحيدة التي تعكر صفو العمل على حد قول كلمنت هي الصرف الصحي، يقول: أعلم أن التصريف في البحر مشكلة عامة في مصر، لكن غواصينا يسبحون في مياه ملوثة كريهة الرائحة.