كان موقع الإسكندرية، بجواره الساحلي، يتمتع فيما يبدو بقدر من الأهمية منذ القدم وحتى قبل أن يؤسس الإسكندر الأكبر هذه المدينة. فبعض المصادر الأدبية اليونانية التي يرجع تاريخها إلى عصر هوميروس تذكر أن جزيرة فاروس كانت إحدى محطات الإرساء التي تستخدمها الملاحة الدولية. وهناك بعض الأدلة على وجود مرافق لميناء فرعوني يقع في الشمال الغربي من تلك الجزيرة. وكانت قرية راكوتيس، الواقعة على البر في ذلك الموقع، إحدى القرى العديدة التي كانت تحمي الساحل المصري خلال العهد الفرعوني من أية غارات يمكن أن تأتي من البحر. بيد أن تأسيس الإسكندرية في عام 331 قبل الميلاد هو الذي أدخل الموقع تحت أضواء التاريخ بحق. فقد بنيت طريق مرتفعة عرفت باسم"الهبتاستاديون"أو طريق الاستوديومات أو الفراسخ السبعة لربط البر بجزيرة فاروس، فنشأ بذلك مرفآن هامان هما"بورتوس ماغنوس"شرقاً و"يونوستوس"غرباً. وعند أقرب ركن داخلي من المرفأ الغربي، بجوار طريق"الهبتاستاديون"، شيدت منشأة عرفت باسم"كيبوتوس"كانت عبارة عن هويس يصل بين البحر وبحيرة مريوط جنوباً. ثم وصلت البحيرة بدورها بنهر النيل بواسطة قنوات، ففتح بذلك معبر يقود النقل البحري إلى المسالك المائية الداخلية لمصر، ما أدى إلى ازدهار حركة النقل والتجارة ازدهاراً كبيراً. وبفضل هذا الموقع الجغرافي الفريد والمرافق التي أنشئت فيه، ازدهرت الإسكندرية حول المرفأ الشرقي حيث قامت المنارة على جزيرة فاروس غربي المدخل، بينما امتد الحيّ الملكي على رقعة رأس لوخياس والسلسلة ناحية الشرق. ولعلّ أفضل وصف تصويري للمرفأ الشرقي هو ذلك الذي خلّفه سترابون، وهو جغرافي من القرن الأول قبل الميلاد"إذ قال: لدى دخول المرفأ الكبير، تشاهد إلى اليمين جزيرة ومنارة فاروس، ويُشاهد إلى الشمال كوم من الصخور ورأس لوخياس الذي يعلوه أحد القصور. وعندما تقترب السفينة من الساحل تلوح خلف رأس لوخياس قصور يعجب المرء لكثرة ما بها من ديار، ولتنوّع مبانيها، واتساع حدائقها. بُنيت منارة فاروس، فنار الإسكندرية وإحدى عجائب الدنيا السبع في العالم القديم، في القرن الثالث قبل الميلاد في عهد بطليموس الأول وبطليموس الثاني. وهي عبارة عن منشأة تعلو إلى ارتفاع يناهز 120 متراً، تلقي ضوءاً ساطعاً يمكن رؤيته من على بعد 30 ميلاً بحرياً. ووصفها سترابون بأنها بنيت من الرخام الأبيض. تفردت المنارة لأهميتها وضخامتها بمكانة بارزة في تاريخ الهندسة المدنية. وترك المسعودي رواية شاهد عيان موثوق بها عن المنارة كما رآها عام 944، أي قبل أن يتهدم الجزء العلوي من البرج من جراء زلزال عنيف وقع عام 955. ثم حدثت سلسلة من الزلازل من القرن العاشر إلى القرن الرابع عشر أكملت هدم المنارة، التي ترقد بقاياها الآن تحت الماء بالقرب من مدخل مرفأ الإسكندرية الشرقي. أما قلعة قايتباي، التي بناها السلطان المملوكي أشرف قايتباي في أواخر القرن الخامس عشر، فهي تقبع فوق موقع المنارة القديمة. وكان تيرش هو الذي ألمح في عام 1909 إلى أن موقع المنارة قد أعيد استخدامه على هذا النحو. وكان الأثريون يدركون منذ زمن طويل أن جزءاً مهماً من المدينة القديمة قد غمرته المياه نتيجة حدوث تغيّرات تكوينية محلية، والارتفاع العام في مستوى سطح البحر. فثمة آثار يرجع تاريخها إلى عام 500 قبل الميلاد مغمورة بعمق يتراوح بين 2.5 متر و5 أمتار تحت سطح البحر، حيث بقيت بعض المعالم الأثرية المغمورة واضحة للعيان بينما ظل الكثير منها قابعاً تحت أعماق البحر. واستمر هذا الوضع إلى أن أثار التحات الساحلي عند قاعدة القلعة القلق إزاء استقرارها. وفي عام 1993، وضعت قرابة 180 كتلة خرسانية يتراوح وزن كل منها بين 7 أطنان و20 طناً، على مسافة 30 متراً داخل البحر من الجزء المتضرر بالتحات من قاعدة القلعة، لتشكل حاجزاً مغموراً ضد الأمواج. وللأسف، وضعت تلك الكتل مباشرة على قمة الآثار التي عثر عليها على امتداد حدود موقع فاروس المغمور بالمياه. وأدّى الغضب العارم الذي ثار بسبب ذلك في الصحافة الوطنية والدولية إلى وقف إلقاء الكتل الخرسانية إلى حين التمكن من إجراء مسح هندسي وأثري أكثر شمولاً، والتوصّل إلى حلّ متكامل يضمن الحماية المثلى لكافة جوانب الموقع. ودفع التحات الساحلي الذي يهدّد قلعة قايتباي، والجدل الذي أحاط بطريقة حمايتها، المجلس الأعلى للآثار لأن يطلب من مركز الدراسات السكندرية، التابع للمركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي، أن يدرس المنطقة المحيطة بالقلعة. فشكلت بعثة فرنسية مصرية يمولها القطاع الخاص وتضم 30 غواصاً ويقودها جان - إيف أومبرور مدير مركز الدراسات السكندرية. وبدأت البعثة عملها في خريف عام 1995. وكان الهدف الذي تتوخاه هو توثيق الموقع بأسره توثيقاً كاملاً وكذلك ترميم مجموعة من القطع ذات الأهمية. وواصلت البعثة عملها منذ ذلك الوقت لعدة فصول وكشفت وسجّلت العديد من القطع الأثرية والكثير من العناصر المعمارية، مثل كتل البناء، والأعمدة، وتيجان الأعمدة، ومعظمها مصنوع من غرانيت أسوان. وتمّ انتشال أربع وثلاثين قطعة وجرى ترميمها، وهي معروضة الآن في الحدائق الأثرية بكوم الدكة بالإسكندرية. ويشهد وصف القطع، البالغ عددها 500 2 قطعة والمتناثرة على رقعة تصل مساحتها إلى هكتارين ونصف الهكتار، على الثراء الاستثنائي للموقع الأثري المغمور بالمياه. وتمّ توثيق المعلومات عن مئات الأعمدة من الطراز الفرعوني واليوناني، معظمها من غرانيت أسوان الوردي وبعضها من الرخام، تتراوح ما بين عُقيدات صغيرة وأعمدة غرانيتية ضخمة يبلغ قطر اسطواناتها 2.4 متر. واكتشف ثمانية وعشرون تمثالاً على هيئة أبي الهول تحمل شارات فراعنة مشهورين من القرن التاسع عشر إلى القرن السادس قبل الميلاد. كما عثر على أربع مسلات: ثلاث منها فرعونية نهاية القرن الرابع عشر قبل الميلاد وواحدة بلطمية أقرب عهداً أوائل القرن الثالث قبل الميلاد. وكل هذه العناصر تساعد على تكوين صورة عن موقع فاروس. ولقد تشكلت القناعة عند بعثة جان إيف أمبرور بأنها عثرت على العناصر الأولى لمنارة الإسكندرية وتمكنت من التعرف على 12 كتلة حجرية مميزة تنتمي إلى صرح غرق في شرق جزيرة فاروس. ويؤكد حجم الكتل الحجرية الضخمة من غرانيت أسوان، والتي يصل ارتفاعها الى 11 متراً ووزنها من 50 إلى 70 طناً، إضافة إلى موقعها تحت البحر جانب قلعة قايتباي، انتماءها إلى منارة الإسكندرية، وربما كانت أطر أبواب وشبابيك الفنار. إعادة بناء الفنار... رقمياً يعتبر مركز دراسات الإسكندرية والبحر المتوسط Alex-Med أحدث الأعضاء بين الهيئات الأوروبية والمتوسطية المشاركة في برنامج سترابو Strabo Program الذي يهدف لإنشاء موقع على شبكة المعلومات الدولية بغرض التوعية والتعريف بالتراث الثقافي لدول حوض البحر الأبيض المتوسط. وبما أن مكتبة الإسكندرية ممثلة بالفعل في برنامج سترابو من خلال مركز توثيق التراث الحضاري والطبيعي CULTNAT التابع للمكتبة، فسوف يشترك المركزان في خادم إلكتروني واحد موجود بالمركز الأول. يتمثل إسهام مركز دراسات الإسكندرية والبحر المتوسط في حفظ تراث الإسكندرية على موقع سترابون في المشروعات التالية: - إعادة بناء فنار فاروس القديم بشكل رقمي. - المساجد العثمانية بالإسكندرية. - نموذج ثلاثي الأبعاد لقلعة قايتباي. وحصل فريق العمل بالمركز على دورات تدريبية في مجال تجميع البيانات وعرضها على شبكة المعلومات الدولية، كما سيتم تدريب أعضاء وحدة التراث على برنامج MAP، وهو من أحدث الأساليب في تسجيل التراث باستخدام تقنيات المسح ثلاثية الأبعاد والتصوير المساحي الضوئي. وسيتم التدريب على تلك التقنيات من خلال التوثيق الفعلي وإنشاء النموذج ثلاثي الأبعاد لقلعة قايتباي. ومن جانب آخر، لطالما داعب فنار الإسكندرية القديم خيال الباحثين والمهندسين المعماريين والعلماء الذين لم يحصلوا إلا على وصف لتلك الأعجوبة من دون صورة واضحة. لذلك يعمل المركز على إعادة بناء الفنار من خلال نموذج ثلاثي الأبعاد باستخدام الوثائق التاريخية المختلفة، كما يحاول إعادة تصور أسباب انهياره. وتمكننا التكنولوجيا الإلكترونية المُتاحة اليوم من إعادة بناء نموذج تخيلي للفنار والتعرف على مختلف الافتراضات والنظريات المتعلقة بتصميمه الأصلي بالإضافة لإمكان تحري بعض القضايا الأخرى المتعلقة بالموضوع. وستعرض نتائج المشروع على أقراص مدمجة CD إلى جانب تحميلها على موقع مشروع سترابو على شبكة المعلومات الدولية. كما يجري العمل أيضاً على إعادة بناء تخيلي لمناطق أثرية أخرى بالإسكندرية منها السيرابيوم ومنطقة كوم الدكة.