يعيش حزب الرفاه الاسلامي أسعد أيامه الآن في تركيا فأنصاره يعملون بحماسة شديدة من اجل انتصار كبير في الانتخابات التشريعية المبكرة تتوقعه استطلاعات الرأي التي تتنافس الصحف التركية الكبرى في اجرائها والتي تضع الحزب المذكور في المرتبة الاولى، خصوصاً في المدن الكبرى. ويستفيد الحزب من السمعة الطيبة التي اكتسبها بفعل حسن ادارة النجم الصاعد رئيس بلدية اسطنبول الكبرى رجب اردوغان الذي حظي بثناء علني على جهوده من رئيس الجمهورية، السياسي المخضرم، سليمان ديميريل مؤسس حزب الطريق المستقيم الذي ترأسه حالياً رئيسة الوزراء تانسو تشيلر وهو الحزب المنافس للرفاه. وقال ديميريل عن اردوغان: "لقد حققت في عام ونصف ما لم يحققه سلفك في خمسة اعوام". هذه الاجواء المتفائلة لا يشوبها خوف من "الحالة الجزائرية" على رغم ان بعض الصحف التركية أثار مثل هذه الحالة في اعقاب الانتخابات البلدية العام الماضي والتي خرج منها الرفاه فائزاً بالموقع الثالث بين الاحزاب الكبرى وببلديتي انقرةواسطنبول. فالرفاه لن يحصل، وفي احسن الظروف التي يتمناها، على اكثر من 30 في المئة من مقاعد البرلمان. وفي اسوأ النتائج سيحل ثانياً. وفي الحالتين سيحكم مع شريك او سيكون شريكاً في الحكم وهي تجربة سبق ان عاشها في منتصف السبعينات. قيادي في الرفاه أكد ل "الوسط" ان حزبه لن يتنازل عن حقه في الفوز "وسنسعى للحصول على أعلى الاصوات وأكبر عدد ممكن من المقاعد فنحن مثل اي حزب اخر نفضل ان نحكم وحدنا كي نستطيع ان ننفذ برنامجنا السياسي والاقتصادي الذي نعد به الشعب التركي، اما التجربة الجزائرية المؤلمة فلا ننظر اليها لأن الديموقراطية ليست طارئة على تركيا وعلاقتنا جيدة مع معظم الاحزاب والقوى السياسية وكذلك مع الجيش والجميع يعرفوننا فنحن في الساحة السياسية منذ عقود كما ان عهد الانقلابات العسكرية في تركيا قد ولّى". المسألة الاخرى التي تعمل لمصلحة حزب الرفاه هي نجاحه في ابعاد صفة التطرف والعنف بعدما قبل أصول اللعبة السياسية بكاملها في تركيا ولم يثر جدلاً حول الديموقراطية ولم يطرح اسلمة الحياة أو تطبيق الشريعة الاسلامية. ويكتفي زعماء الحزب بالحديث عن الاصلاح عموماً وبطرح اسلامي معتدل. ويلاحظ ان زعيم الحزب نجم الدين اربكان يتحدث عن الاقتصاد اكثر مما يتحدث عن السياسة والدين ويقدم للاتراك باستمرار بديله المقترح الذي سمّاه "النظام الاقتصادي العادل"، مشيراً الى انه "النظام الذي يقوم على مبدأ ان الحق هو الاعلى ولا يسمح تحت اي ظرف باستبعاد الانسان ويعطي لكل حقه ويساوي بين الناس في الفرص ويؤازر كل مجهود بناء يقوم به الانسان ويزيل كل العقبات التي تحول دون التقدم والرفاهية والسعادة". ويبدو انه لم يذهب بعيداً عن طرح توماس جيفرسون واضع الدستور الاميركي ولكن كثيراً ما انتقد نظام اربكان باعتباره مجرد حلم طوباوي سيسقط امام صخرة الواقع التركي. صعود اربكان اربكان ليس جديداً على الساحة. فهو استعد لهذا اليوم منذ اكثر من 30 عاماً اي منذ فاز بمقعد قونية في انتخابات 1969 واعلن في العام التالي عن تأسيس أول حزب اسلامي تركي النظام الوطني وسط ذهول القوى العلمانية المتأصلة في تركيا بجناحيها المتباغضين يساراً ويميناً، واستمر صعوده الحاد رغم حل حزبه في العام التالي فشكل حزباً آخر السلامة ودخل به الانتخابات واصبح المرجح في تشكيل الحكومات بين اليسار واليمين فشارك في وزارة ائتلافية مع حزب الشعب اليسار ثم مع العدالة اليمين وفي المرتين كان يستغل الفرصة لغرس مزيد من الاسلاميين في الأرض والمؤسسات التركية فهو كان نائباً لرئيس الوزراء ووزع حقائب مهمة مثل الداخلية والتعليم والصناعة على قيادات اسلامية اخرى. وكان ابرز عمل قام به عام 1974 هو الامر بغزو قبرص اذ كان رئيساً للوزراء بالنيابة فاتفق لأول مرة مع الجيش ولا يزال يفخر انه لولا الاسلاميين لكانت قبرص اليوم جزءاً من اليونان. والمؤكد ان اربكان لن يتردد في ارسال السلاح علانية الى البوسنة اذا تولى الحكم ولم تكن مشكلة البوسنة قد حلت. حل حزب السلامة اسوة ببقية الاحزاب التركية اثر آخر انقلاب عسكري في 1980 وحوكم اربكان وسجن لكنه عاد الى الساحة السياسية من جديد في 1987 بعد الغاء قرار منع قادة الاحزاب من مزاولة النشاط السياسي. وشكل اربكان من جديد حزبه الاسلامي واطلق عليه تسمية حزب الرفاه ودخل الانتخابات في العام نفسه وحصل على 16.7 في المئة ولكن من دون مقاعد في البرلمان اذ كان هناك نظام يمنع الاحزاب التي تفشل في تجاوز عتبة ال 10 في المئة من ان تتمثل في البرلمان. أهمية الصوت الاسلامي وانطلق اربكان ممارساً السياسة التي اجادها وتجاوز حد العشرة في المئة في الانتخابات التالية 1991 ويدخل البرلمان مع 62 نائباً من حزبه. وفي العام الماضي تقدم في الانتخابات البلدية واصبح القوة الثالثة بعد حزبي اليمين المتنافسين الطريق المستقيم والوطن الام وحصل على 18 في المئة من الاصوات بالاضافة الى رئاسة بلدية عدد من المدن الكبرى. هذا الوضع المريح الذي يجد الرفاه نفسه فيه يجعله بالتأكيد اسعد الاحزاب الاسلامية في العالم الاسلامي فمعظمها مشتت بين المعتقلات أو اجراءات الحظر أو المضايقات السياسية أو في اتون حروب اهلية مؤلمة وفي احسن الاحوال هموم الحكم الصعب والحصار الاقتصادي والسياسي كالسودان. اما الرفاه فينعم بحرية كاملة ويتميز عن امثاله من الاحزاب في العالم الاسلامي بعزوفه عن العمل السري وتشبثه بالعمل التنظيمي العلني من خلال الجمعيات والنقابات فهناك جمعيات نسائية وثقافية تابعة له في معظم المدن التركية وله نقابة عمال هائلة حق ايش تضم نصف مليون عامل واتحاد للتجار المستقلين يمثل الفين من كبار رجال الاعمال الاتراك، ويتبع الاتحاد أحد افضل مراكز الابحاث الاقتصادية في تركيا. وهناك حوالى خمس صحف يومية قريبة من الرفاه بدرجات متفاوتة توزع مجتمعة نحو مليون نسخة يومياً وأربع محطات تلفزيون وعدد كبير من دور النشر والانتاج الاعلامي بل ان أول مسلسل برسوم الكرتون عن مؤسس حركة الاخوان المسلمين حسن البنا وموجه للناشئة انتجته شركة اعلامية تركية. ويشعر قادة الرفاه باطمئنان أكبر تدريجياً على مستقبل الاسلام السياسي في تركيا فالاحزاب اليمينية ادركت اهمية الصوت الاسلامي، منذ أيام رئيس الوزراء رئيس الجمهورية الراحل تورغوت اوزال الذي كان قريباً من الرفاه في أول حياته السياسية، وباتت ترشح متدينين مثل السيد برهان الدين أوسفاثورة رئيس بلدية أزمير عن الطريق المستقيم وسعد الدين كبام رئيس بلدية الفاتح في اسطنبول عن الوطن الام. ويلاحظ ان رئيسة الوزراء تانسو تشيلر حرصت على ابراز لقائها مع الشيخ فتح الله جولان وهو شخصية اسلامية مستقلة ويدير عدداً من المدارس الخاصة والشركات التجارية الكبرى والاوقاف. وتبقى امام الرفاه تحديات عدة في حال وصوله الى الحكم. فزعيمه اربكان عدو لدود للصهيونية وكثيراً ما يتهم اليهود الاتراك بابتزاز الاقتصاد التركي وهو ضد "النظام العالمي الجديد" وضد دخول تركيا السوق الاوروبية المشتركة ومع انسحابها من حلف الاطلسي. قرارات خطيرة كهذه لا يستطيع اربكان اتخاذها منفرداً فهناك الجيش التركي وهو مؤسسة لا تزال تعتقد انها مسؤولة عن قرارات استراتيجية كهذه اما في مسائل الارث "الاتاتوركي" الذي يدافع عنه الضباط بقوة فقد نجح اربكان في التعامل مع الواقع والتدرج في الطرح الاسلامي في المجتمع التركي وتفادي الشكليات التي تؤدي الى حساسيات، فاربكان يحضر مثل سائر قادة الاحزاب الاحتفال بوفاة اتاتورك رغم علم الجميع بموقفه من مؤسس تركيا الحديثة وهو قبل مبدأ المشاركة قي السلطة مع الاحزاب العلمانية بيسارها ويمينها وعلاقاته الخارجية تتجه جنوباً وهو يريد علاقات اقتصادية وسياسية قوية مع ايران والسعودية والسودان في آن واحد ولا يتردد في دعوة زعماء الاخوان في مصر والأردن وتونس الى منصة الاحتفال السنوي الكبير الذي يعقده الحزب كل عام احتفالاً بذكرى فتح القسطنطينية. وفي العام الماضي زار اربكان الولاياتالمتحدة تلبية لدعوة من اعضاء في الكونغرس ولم يعرف ما اذا كان نجح في طمأنتهم ام انه اثار قلقهم. ويمكن الانتهاء بالقول ان الرفاه لا يحمل ثورة "الانقاذ" الى تركيا وانما سيكمل حلقة في مشروع التغيير الكبير الذي يعد به على طريق "النظام العادل".