يسيطر قلق أمني جدي على المسؤولين في عدد من الدول الأوروبية المعنية بالأزمة الجزائرية، وتصاعد غداة اقتحام الفرنسيين طائرة خطفها مسلحون جزائريون من مطار الجزائر العاصمة الى مدينة مارسيليا ومقتل الخاطفين. ونشرت صحيفة "الفتح المبين" الناطقة باسم "الجبهة الاسلامية للانقاذ" بياناً أعلنت فيه الحرب على فرنسا "في عقر دارها" وفسّر هذا البيان بأنه دعوة الى شن عمليات عسكرية داخل الأراضي الفرنسية. ثم تلاه بعد أيام بيان وقعته "كتيبة العهد" التابعة للانقاذ والعاملة في منطقة "الوسط" الجزائري، يتمسك باعلان الحرب على فرنسا بسبب دعمها النظام الجزائري، لكنه ينفي نية شن هذه الحرب في الأراضي الفرنسية نفسها. ولم تكف البيانات الاسلامية عن الصدور بوتيرة متسارعة. وتلقت المانياوالولاياتالمتحدةوبريطانيا عدداً منها منسوباً هذه المرة الى "الجماعة الاسلامية المسلحة" تنذر هذه الدول بوجوب قطع علاقاتها الديبلوماسية مع الحكومة الجزائرية وإلا تعرضت لعقاب المسلحين. وعلى رغم الغموض الذي يحيط ببعض البيانات الصادرة، فإن العواصم الغربية المعنية وبخاصة فرنسا، اتخذت اجراءات احترازية على الصعيد الأمني تحسباً لعمليات ارهابية على أيدي المسلحين الجزائريين المتطرفين وأنصارهم، أو على أيدي جهات يمكن أن تستفيد من اتساع الهوة بين بعض العواصم الغربية والتيار الاسلامي المسلح في الجزائر. بعبارة أخرى، ان الدول الغربية تجتهد هذه الأيام لتوفير السبل الكفيلة بمنع الحرب الأهلية الجزائرية من الامتداد الى داخل أراضيها، وهي تخشى من فريقي النزاع وليس فريقاً واحداً. "نحن نخشى من مبادرات ارهابية فردية، لأن الشبكات التي تدعم العصابات المسلحة الجزائرية لا تتمتع بتنظيم هرمي متين. فالتعاون يتم بين الاسلاميين الجزائريين المقيمين في الداخل وفي الخارج بدافع انتمائهم الى الحي نفسه أو الى المنطقة ذاتها". هذا ما نسبته صحيفة "الفيغارو" الفرنسية 3 كانون الثاني/ يناير الى مسؤول فرنسي معني بمكافحة الارهاب، في اطار مقال خصصته للحديث عن الاستعدادات الفرنسية المتخذة لمواجهة ردود الفعل "الاسلامية" على حادثة الطائرة واتهام بدعم النظام الجزائري. وهذه الاثارة توحي بأن فرنسا ربما كانت قادرة على ترقب ردود فعل الجماعات المنظمة لكنها تخشى ألا تكون خاضعة لجبهة معروفة. هل يعني هذا الكلام ان باريس مطمئنة الى عدم وجود قرار اسلامي جدي بشن الحرب داخل أراضيها وأن الأمر يقتصر فقط على احتمال قيام ردود فعل فردية؟ بخلاف عادتهم في مثل هذه الظروف، يمتنع المسؤولون الفرنسيون عن الادلاء بتصريحات علنية، ويبدو أن وزير الداخلية شارل باسكوا المعروف بتكتمه في المسائل الأمنية، تمكن من فرض نهجه على الحكومة والمسؤولين المعنيين بالأزمة الجزائرية، ولا سيما منهم وزير الخارجية آلان جوبيه، ذلك ان الجانب الحالي في هذه الأزمة يتصل مباشرة بوزارة الداخلية، أي بصلاحيات باسكوا نفسه. ولعل الاجراءات الأمنية الوقائية التي اتخذتها فرنسا تغني عن التصريحات. فوسائل الاعلام تحدثت عن زيادة الاحتياطات الأمنية في المرافق العامة والمطارات والمرافئ ونقاط الحدود والمباني والمراكز الرسمية الحساسة وقطاع النقل العام. وتفيد المعلومات المتداولة في باريس ان الأجهزة الأمنية تدقق على غير عادتها في هوية المسافرين والوافدين. وتراقب عن كثب مناطق تجمع المهاجرين العرب ولا سيما الجزائريين منهم. وترصد نشاطات الأوساط المقربة من الاسلاميين الجزائريين وسائر الجماعات التي يمكن أن تشكل مصدر قلق أمني داخل الأراضي الفرنسية. ويستفاد من المعلومات المتداولة في باريس أن السلطات الفرنسية تسعى الى التنسيق مع الدول الأوروبية التي تستقبل مسؤولين وممثلين للتيار الاسلامي الجزائري خصوصاً بريطانياوالمانيا. ومن علامات هذا التنسيق نشر معلومات بريطانية عن مجموعة تابعة للانقاذ دخلت الأراضي الفرنسية أواخر الاسبوع ما قبل الأخير، ونشر معلومات صحافية المانية عن نشاطات الاسلاميين في المانيا ورصد نياتهم حيال فرنسا بعد حادثة الطائرة. فضلاً عن رسائل بعث بها السكوتلانديارد الى المسؤولين الفرنسيين تتصل بتحركات اسلاميين جزائريين. ومعروف ان دول الاتحاد الأوروبي، على رغم تباين مواقفها من بعض الأزمات الخارجية ولا سيما منها الأزمة الجزائرية، تنسِّق في ما بينها في المجال الأمني حسب ما تنص عليه اتفاقات الاتحاد علماً أن الموضوع الأمني سيكون واحداً من أهم المواضيع التي ستدرجها في برنامجها الخاص برئاسة الاتحاد التي تولتها فرنسا بدءاً من مطلع العام الجاري ولمدة ستة أشهر. والراجح أن فرنسا عموماً ووزير الداخلية خصوصاً سيعمل على الحؤول دون تكرار تجربة المتفجرات التي انتشرت في شوارع باريس عام 1986 يوم كان باسكوا نفسه وزيراً للداخلية قبل أقل من سنتين من الانتخابات الرئاسية في العام 1986. ولعله - وهو أحد أهم مفاتيح الانتخابات الرئاسية التي ستتم في أيار مايو المقبل - حريص أكثر من أي مسؤول فرنسي آخر على الحؤول دون وقوع حوادث أمنية وبالتالي ربط الانتخابات الرئاسية بالأزمة الجزائرية ربطاً مباشراً. رغبة في خفض التوتر وإذا كانت الاجراءات الأمنية هي الوجه الأبرز للتعامل الفرنسي مع اعلان الاسلاميين الحرب على فرنسا، فإن مؤشرات عدة أخرى تظهر رغبة السلطة الفرنسية في خفض حدة التوتر في علاقاتها بالاسلاميين، ومن بين هذه المؤشرات: 1- تصريح لوزير الخارجية آلان جوبيه في خضم عملية خطف الطائرة الفرنسية أكد فيه ان بلاده لا تدعم النظام الجزائري وانما الديموقراطية في هذا البلد، وقال انه يتوجه بكلامه الى المتشددين في الانقاذ والى "دعاة الحل الأمني" في السلطة معاً. وهذا الكلام لا يروق لتيار الاستئصال الذي يراهن على فرنسا في الحرب التي يشنها على الاسلاميين المسلحين. 2- اعلنت فرنسا أن الرحلات الجوية والبحرية لن تستأنف الى الجزائر قبل اسابيع وحتى التثبت من سلامة الاجراءات الأمنية الجزائرية. ويلحق هذا الاجراء أذى بسمعة النظام الجزائري ويظهره ضعيفاً من جهة، كما أنه يؤثر في امداد الجزائر بجزء مهم من المواد الأساسية الضرورية المستوردة من فرنسا من جهة ثانية. فضلاً عن تأثير ذلك في حركة المواصلات الحيوية بين عاصمة البلدين والتي لا غنى عنها للدولة الجزائرية. وترافق هذا القرار مع المزيد من التسريبات الصحافية المنسوبة الى مصادر رسمية والتي تؤكد خيبة أمل باريس من النظام الجزائري خلال أزمة الطائرة المخطوفة. 3- على رغم مظاهر التوتر القصوى التي تميز علاقات الحكومة الفرنسية بالمسؤولين في الجبهة الاسلامية للانقاذ، وعلى رغم اتخاذ باريس اجراءات بطرد وابعاد واقامة جبرية لعددٍ من ممثلي الاسلاميين ورموزهم في هذا البلد، فإن فرنسا أبدت على الدوام حرصاً على إبقاء قنوات اتصال مهمة مع الاسلاميين، من بينها عدم التعرض للشيخ عبدالباقي صحراوي، أحد مؤسسي الانقاذ ونائب رئيسها عباسي مدني، والسيد موسى قراووش المقرب من الجبهة والناطق باسم "جمعية الاخوة الجزائرية" في فرنسا وهو ما زال يصدر بيانات باسم جمعيته انطلاقاً من الأراضي الفرنسية وآخرها بيان عن خطف الطائرة. يبقى القول ان مساعد وزير الداخلية الأبرز جان شارل مارشياني سبق له أن أجرى اتصالات مع رابح كبير أحد قادة الانقاذ في الخارج أواخر العام الماضي للبحث في ايجاد حلول للأزمة. وأكد كبير هذه الاتصالات في مقابلة صحافية أشار فيها الى استمرار الاتصالات بين جبهته والسلطات الفرنسية. وليس مستبعداً أن تكون هذه الاتصالات تجددت من أجل تفادي القطيعة النهائية بين الطرفين ومحاولة تخفيف حدة التوتر... وتفادي الحرب. وتجدر الاشارة هنا الى أن أسلوب وزير الداخلية الفرنسي في حل الأزمات الأمنية لا يستبعد التفاوض خلف الأضواء. فهو خاض "حرب السفارات" بين باريس وطهران في العام 1987 لكن هذه الحرب انتهت باطلاق وحيد غورجي الديبلوماسي الايراني الذي كانت فرنسا تتهمه بالتورط في متفجرات أيلول سبتمبر 86 وتطالب باعتقاله. الحرب واردة؟ هكذا يبدو أن السلطات الفرنسية حريصة على ابداء كل ما من شأنه أن يستدرك حوادث أمنية عشية الانتخابات الرئاسية. وتستخدم لهذه الغاية كل الوسائل المتاحة محلياً وأوروبياً. لكنها في الوقت نفسه تعمل على تهدئة الموقف سياسياً بالابتعاد مسافة معينة عن النظام الجزائري وبالتالي عدم استئناف المواصلات الجوية والبحرية معه فوراً. في المقابل لا يمكن الاسلاميين الا التعبير عن ارتياحهم الى كل ابتعاد فرنسي عن الحكم الجزائري. ولعل انصار "الجماعة الاسلامية المسلحة" سينظرون الى عدم استئناف المواصلات الفرنسية الى بلادهم كأنه يصب في خانة الأهداف التي وضعوها لعملية خطف الطائرة، خصوصاً ان ذلك يثبت، في نظر الرأي العام المحلي والخارجي، عدم كفاءة النظام وضعفه في حفظ الأمن. وغني عن القول أن هذا الضعف يفيد التيار الاسلامي والعكس صحيح. ولكن هل تكفي هذه المؤشرات للحديث عن احتمال ابتعاد شبح الحرب الجزائرية عن أوروبا عموماً وفرنسا خصوصاً؟ في الرد على هذا السؤال لا بد من التذكير بأن التيار الاسلامي الجزائري المسلح لم يبادر الى القيام بأي عمل عسكري طوال الفترة الماضية من الحرب 1992 لاعتبارات عدة بينها حاجة هذا التيار الى استخدام مناطق وجوده في أوروبا كقواعد لوجستية للحرب التي يخوضها في الجزائر. وإذا افترضنا أن الاسلاميين المتطرفين يعرفون جيداً شروط حرب العصابات، وبعضهم شارك في حرب افغانستان، فإن ألف باء حرب العصابات تحذر من اشعال الحرب في المناطق اللوجستية، خصوصاً ان هذه المناطق تقع خارج البلاد ومنها تأتي "الرساميل الاسلامية" لتمويل الحرب، وتصدر المواقف الاعلامية وتنتشر عالمياً، وفيها تنظم اللقاءات والاتصالات. ما يعني أن خوض الحرب فيها هو بمثابة الخيار الانتحاري. اضافة الى ذلك لا يملك الاسلاميون الجزائريون وسائل خوض هذه الحرب فقادتهم لاجئون سياسيون في البلدان المعنية بريطانيا، المانيا، الولاياتالمتحدة. والجاليات الاسلامية المهاجرة ليست مرشحة للتعاطف معهم فأفرادها لا يملكون سوى جهودهم للحصول على لقمة العيش. ولعل هذا ما يثير الشك في البيانات التي نسبت اليهم والمتعلقة بتلك البلدان. يبقى أن الدول المذكورة وان كانت تتباين مواقفها من الأزمة الجزائرية مع مواقف الحكومة الفرنسية، فانها لا يمكن أن تقبل، لأسباب عدة، بأن تتحول الى قواعد خلفية لشن عمليات ارهابية داخل الأراضي الفرنسية. ويدرك قادة الانقاذ في الخارج هذا الأمر، وقد سارعوا لادانة عملية خطف الطائرة انطلاقاً من معرفتهم بحساسية هذا الموضوع لدى الرأي العام الغربي، وللحفاظ على القواعد الخلفية نفسها. يسمح ما سبق بالقول ان تحول الاسلاميين المقيمين في الدول الغربية من ضحايا العملية الانتخابية الجزائرية الى محاربين للدول الغربية كما تفيد بيانات التهديد المنسوبة اليهم، يعني بداية نهايتهم كقوة سياسية يمكن التعامل معها وبالتالي تحولهم الى ارهابيين وخارجين على القانون وبذلك يخسرون معركة الجزائر ومعركة أوروبا. هذا التقدير ربما فسر التراجع الذي ورد في "بيان الانقاذ" عن شن حرب في الأراضي الفرنسية، ويعني استبعاد شن مثل هذه الحرب في دول أوروبية أخرى. ولعل هذا التراجع يلتقي مع تجميد المواصلات الفرنسية مع الجزائر، فهل يجري البحث عن تهدئة التوتر الفرنسي - الاسلامي انطلاقاً من هذا اللقاء غير المباشر أم تتدخل أطراف ثالثة لاشعال فتيل الحرب بين الطرفين؟ ان التطورات المرتقبة في المدى المنظور لا تسمح بحسم الاجابة، باعتبار ان الأزمة ما زالت في ذروتها، لكن المنطق والتفكير العقلاني يرجحان التهدئة بالاستناد الى مصالح الطرفين. ولعل الخوف الأكبر هو من انفجار الموقف انطلاقاً من مبادرات غير عقلانية، شديدة التطرف، كما هي الحال في كل الحروب المعروفة.