يعيش المثقف العربي اليوم، في مختلف الاقطار والمنافي، حالة من العزلة، لكي لا نقول الاستقالة، ومرحلة تساؤلات واعادات نظر وتحولات جذرية. "الوسط" جمعت خمسة مثقفين مصريين، لمحاولة رصد تلك الهجرات الفردية أو الجماعية من أيديولوجية الى أخرى ومن مناحٍ ثقافية وجمالية الى مناحٍ مغايرة، على ضوء المتغيرات التي عصفت بالعالم في نهايات هذا القرن. وننشر في ما يلي نشر ما تبقّى من وقائع الندوة التي شارك فيها الروائيان يوسف القعيد وجمال الغيطاني، الناقد جابر عصفور، القصاص محمد مستجاب وأستاذة علم الاجتماع سامية الساعاتي. إعتبر الدكتور جابر عصفور أن فشل المشروع السياسي قاد المبدع في بعض الحالات "الى نوع من اليأس"، ومن ثم الى نوع من "المهادنة قد تبدو في اختيار مجموعة مواضيع لابداعه لا تمثل اصطداماً مباشراً بهذه السلطة". وخلص الناقد المعروف ورئيس "المجلس المصري الأعلى للثقافة"، بعد أن ساق ثلاثية نجيب محفوظ مثالاً، الى أن هذه الظاهرة في حد ذاتها، تمثل نوعاً من الترحال. ف "بدلاً من أن يبقى الهم السياسي أو الاجتماعي هو المسيطر على أبطال هذه الرواية أو تلك القصّة، يترك مكانه لهمّ آخر هو البحث عن حقيقة مطلقة واشراقية". لكن محمد مستجاب حمل على "التعميم" الذي ينطوي عليه كلام عصفور، معتبراً أن رحلة النص باتجاه الماضي، ناتجة "عن ضياع المشروع القومي وانهياره تماماً، ثم الاحساس باستحالة المستقبل، وبأن الليل المقبل سيطول"... وعندما انهارت الفترة الناصرية، ختم مستجاب، "بدأنا نتنبه فعلاً الى سقوط النموذج وانظمته كلها وأصبحنا أكثر نقداً وأكثر تجريحاً للذات". وها هي الباحثة الاجتماعية الدكتورة سامية الساعاتي تحوّل مجرى النقاش، مثيرة مسألة تغير وجهة نظر الناس مع تبدل المرحلة، ورد الفعل المتوقع أو المطلوب من قبل المبدع. - سامية الساعاتي: ذكر جمال الغيطاني أن وجهة نظره التي يحملها، وتعبر عن وجهة نظر الناس، لا تتغير. وأنا لا أوافق على هذا الكلام لأن وجهة نظر الناس تتغير. - جمال الغيطاني: أنا قلت إن على الكاتب أن يعبّر عن وجهة نظر الناس. - سامية الساعاتي: ولكن من دون أن يغيّر وجهة نظره! - جمال الغيطاني: المهمّ أن يعكس وجهة نظرهم. - سامية الساعاتي: هل هذا يفترض أنه يجاري التحولات التي طرأت على وعيهم؟ - جمال الغيطاني: الكاتب يسير مع الناس باتجاه التغيّر، ويعبّر عن وجهة نظرهم. ولكنه يقدم الاشياء كما يعتبر أنها تكون في سيرها نحو الافضل. وهذا لا يعني بالضرورة أن يتحرك الناس بناء على وجهة نظر الكاتب. هذا يعني بمعنى آخر، الا يتنازل الاديب عن "وعيه الطبقي" حتى لو تبدّل وضعه الاجتماعي و"موقعه الطبقي"؟ - جمال الغيطاني: بما أنني أنتمي الى الناس البسطاء، فإن مجرد شعوري بالتخلي عن هؤلاء الناس، فيه انتقاص من قدري. ولدينا في الصعيد من ينسى أهله يعتبرونه "ابن حرام". - سامية الساعاتي: أريد أن أتحدث أيضاً عن موضوع علاقة المثقف بالسلطة. فالدكتور عصفور ذكر أنماطاً من التحولات، واعتقد أن هناك حالة من "الارتحال" لم يذكرها، وهي خاصة بأدباء هاجروا من مكان الى مكان آخر ليستطيعوا التعبير بحرية أكبر. بمعنى أنهم لم يفعلوا مثل الذين "لوّنوا" أدبهم، او انتقلوا الى اختيار مواضيع بعيدة عن الصدام مع السلطة. هناك أيضاً شيء لا يمكن تفسيره الا من منطلق اجتماعي، ويتعلّق بالتوجه الى "القارئ المفرد" بدلاً عن "القارئ الجمع". إذ أعتقد أن الخطاب الذي يتوجّه الى جماعة تعاني هموماً واحدة وتربط بين أفرادها آمال مشتركة، لم يعد موجوداً في مجتمعنا، ولعلّ السبب يعود الى التغيرات السوسيولوجية التي طرأت عليه. - جابر عصفور: في الماضي كان الشاعر يقف ليلقي القصيدة في مجموعة هائلة من الناس. وحتى مطلع الستينات كانت عادة الذهاب الى المنتديات الثقافية للاستماع الى الشعراء سائدة وطبيعية، ولم يكن للرواية القدر نفسه من الاهمية... أما الآن، فالصورة "انعكست" تماماً، اذ احتلت الرواية موقع الصدارة، وبات الشعر أقل أهمية وحضوراً. وهذه المسألة مرتبطة بالقارئ: ذلك أن الشاعر - أو لنقل أجيال معينة من الشعراء - يكتب قصيدته ونصب عينيه مجموعة من المستمعين. أما الرواية فهي مكتوبة لقارئ واحد. إن عملية التلقي بحد ذاتها، صارت عملية فردية مرتبطة بفن مختلف، كل الدراسات الاحصائية تؤكد هذا التحوّل. ومما لا شك فيه أن هذا الأمر مرتبط بحركة تحول عميقة في بنية المجتمع، في طبيعته وايقاعه وأيديولوجيته. - سامية الساعاتي: هناك أيضاً نقطة أخرى أثارها عصفور، وتتعلق بتحول زاوية النظر من الحاضر الى الماضي. وأعتقد أن هذا الميل موجود منذ الازل في الشخصية المصرية. هناك بين الامثال الشعبية واحد يقول: "إن من فات قديمه تاه"، والناس في مصر يقولون في كل الحقب والفترات: "زمان احسن من دلوقتي". وهكذا فإن أسلوب الحياة المصرية قائم على تمجيد الماضي. ونحن نعيش باستمرار في ظل التاريخ، ونجاور في حياتنا اليومية حضارة عريقة ونفخر بالاهرامات والآثار القديمة... وحينما يأتينا زائر نصحبه لمشاهدة معالمنا الحضارية ولا نجعله يرى الاشياء الحديثة. واليوم بالذات، لم يعد الواقع يشد الناس، ولا المستقبل يغريهم، فارتموا في أحضان الماضي. وفي اعتقادي أنها سمة بارزة من سمات شخصيتنا القومية: نحن نعيش في ماضينا أكثر مما نعيش مع الحاضر! - محمد مستجاب: بالنسبة الى موضوع القصيدة والقصة. أرى أنهما تساويا حالياً في عدم جماهيريتهما! وذلك لأسباب كثيرة أولها التلفزيون. فهو قتل الحاجة الى أو الرغبة في تذوق أي نص أدبي، وتكييف العقول بمسلسلات سهلة وبرامج تسلية. هكذا صار الهامش المتبقي في الذهن لتذوق النص الادبي ضيّقاً جداً. إن فكرة "تعويد" الناس على القراءة التي بدأت أيام لطفي السيد وأحمد أمين وطه حسين والعقاد... حينما كانت الصحف تزهو بالمشاجرات والجدل، وتجعل البسطاء يحرصون على القراءة، انتهت للأسف. بين "الماضوية" و"الطوباوية"... - جابر عصفور: تعقيباً على مداخلة الدكتورة سامية الساعاتي، حول العودة الى الماضي، صحيح أن هذه النزعة تبدو مترسخة في الثقافة الشعبية لكن الامر يقتصر هنا على مستوى واحد من مستويات الثقافة الشعبية. فالثقافة العربية بشكل عام قائمة على مجموعة من النزعات المتناقضة: هناك نزعة يمكن أن تبقى "ماضوية" تماماً، واظن انها السائدة. لكن هناك نزعات مضادة ومختلفة! هذا بخصوص ما يتعلق بالماضي. أما بخصوص الحاضر، فاسمحوا لي أن أعطي مثالاً بسيطاً: في لحظات التحول واعادات النظر، ينشغل الناس بما هو آت. يكفي أن نأخذ قصائد صلاح جاهين التي غناها عبد الحليم حافظ، لنفهم أن المستقبل كان هو الشاغل الاساسي لتلك المرحلة. أما الآن، فإن وطأة الحاضر هي التي جعلت الناس تفكر في الماضي، كما لو كان الماضي أفضل من الحاضر. من ناحية أخرى هناك مجموعات ضاغطة تشدنا باستمرار الى الماضي تحقيقاً لمصالحها، فنضطر لكي تقاوم هذا التيار أن نرد بلغة الماضي أيضاً. وهكذا يصبح العقل مشغولاً بالماضي عن المستقبل. أنا أعتقد أننا في غمرة غرقنا وهوسنا بالماضي، لا نعطي أنفسنا الفرصة الكافية للتفكير في المستقبل. - سامية الساعاتي: لماذا ننكر أن هناك بعداً غير "ماضوي" للتحوّل عن الحاضر، مثلاً في أوساط أهل العلم والشباب؟ فحتى الترحال الى المستقبل يقوم أحياناً على حلم، على رؤية "طوباوية". ألا تنطوي محاولة استشراف المستقبل، على حاجة الى تجاوز الواقع، بهمومه وآلامه وضغوطه، الى مساحة متوهمة تكون أكثر اشراقاً وبعثاً على التفاؤل؟ أعتقد أن هذه الشريحة موجودة، على الرغم من النزعة الى تجاهلها، في صفوف الادباء والمبدعين. - جمال الغيطاني: الحنين الى الماضي او التطلع الى المستقبل وجهان لحالة انسانية واحدة. يزداد الحنين الى الماضي الذي عاشه الانسان، عندما تصبح وطأة الماضي ثقيلة. ولكن في كل الاحوال لا يغيب التفكير في المستقبل، لأنه لو غاب في رأيي، لانحدر الانسان الى حالة حيوانية، ولأصبح ويصبح كال "أميبا" التي تنقسم على نفسها لتتناسل. أعمال نجيب محفوظ بعد مرحلة "الشحاذ" و"الطريق"، كانت بمثابة صرخة تحذير مما هو قائم بالفعل، ومما قد يكون. واسمحوا لي أن أعتبر أننا لو قرأنا "ثرثرة فوق النيل" بدقة، لتفادينا ربما ما حدث في 1967. كان الفنان بضميره يرى ما هو آت، ويحدس بالخطر المقبل. إنه الاحساس بالظلام، بالمستقبل المظلم. وأريد أن أؤكد، من جهة أخرى، على أنني لم أكن في يوم من الايام أكثر إيماناً مني الآن بدور الفرد. لا أعتبر أن الفرد هو المخلّص والمنقذ... ولكن هناك الفرد الذي يحمل هموم شعب، أو يعبّر عن آلام جماعة. وسواء نظرنا الى الامور من منطلق الرأسمالية أو الاشتراكية سنجد أن الفرد ضروري، وكلما كان قوياً وشجاعاً ومكتملاً كان الأمل أقوى. هذه مسألة لا أخشى من التصريح بها الآن بل انني، على العكس، أبشّر بها! ولماذا لا يمكن أن يأتي الفرد الذي يخلّص جماعة لا تستطيع أن تخلّص نفسها؟ الأدب لا يغيّر! لكن طبعاً لا ينبغي أن نخدع أنفسنا... فالأدب لا يغيّر، الادب يعبّر. لا توجد رواية تصنع ثورة، ولا توجد رواية تنشئ مصنعاً، ولكن يوجد أدب يعبّر عن واقع وعن مرحلة، ويقدّم رؤية متكاملة عن هذا الواقع وتلك المرحلة. موضوع آخر أود التحدث فيه، ويتعلّق بفكرة التوجه الى الجماعة. بعض الزملاء يتغافل عن مسألة بديهية، فحينما أكتب رواية لا بدّ أن تصل الى القارئ بصفته فرداً. لكن هذا الفرد هو، في المحصلة الاخيرة، جزء من جماعة، ويمثل شريحة محددة. وهو بالتالي جسر عبوري الى الجماعة التي ينتمي اليها. وأعود هنا الى فكرة الثوابت والمتغيرات. فكما سبق أن قلت، هناك خط أحمر اذا تعداه الترحال فأصبح يطال الثوابت، يصبح بمثابة موت أدبي للمبدع. نجيب محفوظ عاش ترحالاً واسعاً في أدبه، لكنّه ترحال على مستوى التقنية ومستوى الموضوع ومستوى متابعة الواقع. فمحفوظ لم يكن "استاتيكياً"، أي لم يغلب جانب الجماليات، ولم يجعله أساساً لانعطافة حاسمة. أما كشخص وكانسان، فهو يعيش الآن في الشقة نفسها التي كان يعيش فيها حينما كان موظفاً. مطالبه في الحياة متواضعة جداً، وهكذا فإن الأديب حينما "يحجّم" طموحاته، لا يعود في حياته بديل من الابداع: لا السلطة، ولا الرخاء المادي، ولا أي شيء آخر. وحينما لا يحافظ على "منطقة القتل"، فهو ينتهي كمبدع. هناك مواهب كثيرة قدم أصحابها تنازلات على مستوى الابداع، فانطفأت. واذا سُئلت عن حلمي أجبت: أن أجد ما يكفيني الحاجة واتفرغ للكتابة. لكن وضع الادب في العالم العربي لا يسمح بذلك. وكما لا يخفى على أحد، فإن الانقسامات الحادة في الحياة السياسية العربية، وما يترافق معها من اضطرابات تخلق مناخاً مستمراً من عدم الاستقرار... تنعكس على الاديب وتدفعه على طريق الهجرة والمنفى. ولعلنا هنا أمام التجسيد المباشر والحرْفي ل "الترحال". وماذا عن تجربتك أنت مع هذا الترحال؟ - جمال الغيطاني: أنا شخصياً قد أكون هجرت أشخاصاً، ولكنني لم اهجر مبدأً. في السنوات الاخيرة تفاقم مناخ المزايدات، وسمعت تهماً من كل الانواع، منها أنني غيرت مواقفي. لماذا؟ لمجرد أنني نشرت مثلاً نصاً في مجلة معينة، تصدر في بلد عربي معيّن. مع العلم أنني أنشر قصصاً ومقالات في جميع البلاد العربية مذ بدأت أكتب. فأنا أكتب للقراء العرب، ومن حقي أن أنشر في أي منبر عربي، مادام لا يمول من قبل اسرائيل!! هناك بعد آخر للمسألة، وهو أننا نرتحل في العمر من سن الى أخرى. ففي عمر معين يكتب الأديب بطريقة واقعية مثلاً. قد يكون الدكتور عصفور محقّاً حين يدّعي أن الواقعية بمفهومها الساذج القديم انتهت. ولكن أنا أيضاً اجتزت حقبات عدّة بين سنواتي العشرين والخمسين التي قاربتها. ادراكي للحياة بات مختلفاً. كما أن هناك المكانة المهمة التي يحتلها الهم الشكلي والتقني، فأنا في صراع دائم مع المادة، مع اللغة، أريد التوصل الى أفضل تقنية ممكنة في الكتابة. - سامية الساعاتي: أختلف مع الغيطاني حين يعتبر أن الاديب يعبّر عن حالة عامة ولا يغير الواقع. فالكاتب يستطيع عن طريق التعبير، أن يحدث ثورة عن طريق أدبه. وهذا حدث ليس في مصر فقط، ولكن أيضاً في حقبات عدة من التاريخ البشري، لننظر مثلاً الى الادبيات التي مهّدت للثورة الفرنسية. والغيطاني يتناقض مع نفسه، حين يطلع علينا بهذه النظرية، وقبلها بقليل ذكّر أنه لو قُرئت رواية "ثرثرة فوق النيل" بعناية لدى صدورها، لتفادينا ربّما أعباء وتبعات نكسة 67. أفليس في ذلك التحليل دليلاً كافياً على أن الأدب يمكن أن يغير؟ رواية أشعلت حرباً - يوسف القعيد: أعتقد أن رواية "كوخ العم توم" تسبّبت في الحرب الاهلية في أميركا! وهناك جملة شهيرة لأحد الرؤساء الاميركيين، عندما شاهد المؤلفة قال عنها: "هذه هي السيدة الصغيرة التي أشعلت الحرب الكبيرة برواية واحدة". وأعتقد أنه في ظل قارئ نبيه ورأي عام مستنير ومجتمع متماسك يمكن للاديب أن يُساهم في حركة التغيير. مشكلتنا الاساسية في العالم العربي، هي الامية الرهيبة والبطون الجائعة التي تشغل الناس وتشدهم الى أشياء أخرى ليس من بينها الادب على الاطلاق! وبخصوص علاقة المثقف بالسلطة، فأنا شخصياً لم أكن لألتحق بمدرسة لو لم تقم ثورة تموز يوليو، ويتولى عبد الناصر حكم مصر. لذا لم أجرؤ على الاختلاف معه في الاستراتيجية العامة، لكن مسألة الحريات والديموقراطية والتعددية كانت مآخذ بالطبع. لم أطالب بعودة فاروق، كنا نريد أن يبقى عبد الناصر شرط أن يخلص حكمه من بعض الهنات والعيوب. وفي عهد السادات، كنت ضد السلطة بشكل كامل وعنيف لا يقبل أي مساومة أو حلول وسطى. أما حالياً، فالموقف في منتهى التعقيد، اذ يقوم على عناصر متشابكة وشديدة التداخل: لأوّل مرة تقوم سلطة لي عليها تحفظات، ولكنني أفضّلها ألف مرة على الارهاب الموجود في الشارع. لذا قررت أن أقف مع هذه السلطة، ضد التعصب الاعمى الذي أرى أنه يشكّل خطراً عليّ وعلى أبنائي ومستقبلهم، ويتهدّد الزمن الآخر في مصر بشكل عام.