برعاية أمير الرياض ..الجمعية السعودية لطب الأسنان بجامعة الملك سعود تنظم المؤتمر الاقليمي للاتحاد العالمي لطب الأسنان    الرياض تحتضن مؤتمر تكنولوجيا الرعاية الصحية الدولي 2025 الشهر القادم    إنشاء مجلس الشراكة الإستراتيجية بين السعودية وسنغافورة    اعتقال رئيس كوريا الجنوبية.. وبدء استجوابه    ارتفاع أسعار الذهب مع ترقب بيانات تضخم أمريكية    "الخلاص" و "السكري" يتصدران إنتاج السعودية من التمور بأكثر من مليون طن    الإيسيسكو ومؤسسة سلطان بن عبدالعزيز الخيرية تطلقان مشروعًا لتعزيز تعليم العربية في موريشيوس    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال11 لمساعدة الشعب السوري الشقيق    اقتصادي / "مدن" و "اكتفاء" توقعان مذكرة تفاهم للتعاون في توطين سلاسل إمداد قطاع الطاقة    الأقل بين دول ال20.. التضخم السنوي في السعودية يتباطأ إلى 1.9%    استشهاد خمسة فلسطينيين في قصف إسرائيلي على مركز إيواء للنازحين بمدينة غزة    «وزارة الصناعة» توقع مذكرات تفاهم مع 6 دول لتطوير قطاع التعدين والمعادن في المملكة    «إثراء الضيافة القابضة» تدشن هويتها الجديدة بحضور وزير الحج والعمرة    «التعليم»: الفحص اللياقي.. شرط لقبول الطلاب المستجدين العام القادم    حج آمن    الأهلي يصطدم بالخلود.. وصراع «الوسط» ب «ديربي الرياض»    الشباب ينهي عقد كويلار    الاتحاد يتخلى عن صدارته    رونالدو وبنزيما يهددان ميتروفيتش بخطف صدارة هدافي «روشن»    فيصل بن بندر يطلع على أعمال أمن المنشآت    المتحدث الأمني لوزارة الداخلية يؤكد أهمية تكامل الجهود الإعلامية بمنظومة الحج    أمير الشرقية يتسلم تقرير الملتقى العلمي    فيصل بن نواف يطلق ملتقى «جسور»    أمير القصيم يدشن مشروعات محافظة أبانات    سعود بن بندر يستقبل مدير الالتزام البيئي ورئيس «رياضة الأساتذة»    المملكة والسَّعي لِرفع العقوبات عن سورية    "سلامة الأغذية" بالرس يحصل على "الأيزو"    البروتين البديل    سعود بن خالد يشهد اتفاقية «الفاحص الذكي»    مستشفى المذنب يُجري 1539 عملية جراحية    مفتي الطائفة العلوية ل«عكاظ»: السعودية محل ثقة.. ودورها محوري في سورية    «أمن الدولة»: انتقلنا من مرحلة توفير الأمن إلى صناعته    مدير الجوازات: أجهزة ذكية لقياس مدة بقاء الحجاج في «الكاونتر»    ولي العهد يتلقى اتصالاً هاتفياً من رئيس جمهورية البرازيل الاتحادية    "سلمان للإغاثة" يحلق عالمياً    صراع «الفاشنيستا» تديره فَيّ فؤاد    الدبلوماسي الهولندي ما رسيل يصف بعض جوانب الحياة في قنا حائل    أمريكا والتربية    م ق ج خطوة على الطريق    زمن السيارات الصينية    بايدن يرفع كوبا عن اللائحة الأميركية للدول الراعية للإرهاب وهافانا ترحب    برينتفورد يفرض التعادل على مانشستر سيتي بالدوري الإنجليزي    مفوض الإفتاء في جازان يحذر من خطر الجماعات المنحرفة خلال كلمته بالكلية التقنية بالعيدابي    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين.. نائب أمير منطقة مكة المكرمة يفتتح» مؤتمر ومعرض الحج 2025»    يا رجال الفتح: كونوا في الموعد    مجلس الوزراء: تشكيل لجنة مركزية دائمة للجهات الأمنية في المنافذ الجمركية    من أعلام جازان.. الشيخ الجليل ناصر بن خلوقة طياش مباركي    الآثار المدمرة بسبب تعاطي المخدرات    «الغذاء والدواء»: الجنسنغ بجرعات عالية مضر بالصحة    أفكار قبل يوم التأسيس!    انطلاق فعاليات معرض مبادرتي "دن وأكسجين" غدًا في جازان    ألمانيا.. بين دعم السلام والأسلحة الفتاكة!    الدكتور علي مرزوق إلى رتبة أستاذ مشارك بجامعة الملك خالد    نائب أمير تبوك يتسلم التقرير السنوي لانجازات واعمال فرع وزارة التجارة    أمير الشرقية يقدم التعازي لأسرة السماري    إنجاز علمي جديد.. «محمية الملك عبدالعزيز الملكية» تنضم للقائمة الخضراء الدولية    أمير الجوف يشيد بدور "حقوق الإنسان"    برعاية الأمير فيصل بن خالد.. إطلاق جائزة الملك خالد لعام 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفصل الأخير في رواية كاسترو . الحكومة تعلن عصر الدراجة والريفيون ينتقلون بالدواب
نشر في الحياة يوم 15 - 08 - 1994

بدا واضحاً، اثر الاضطرابات التي شهدتها العاصمة الكوبية اخيراً، ان الرئيس فيديل كاسترو يمر بأسوأ أزمات حكمه منذ العام 1959. وتوجه بنفسه الى مبنى البرلمان في هافانا ليبلغ النواب ان محصول قصب السكر سيكون "الأضعف منذ عشرات السنين"... كأنه يخشى على مستقبل نظامه الشيوعي عندما قال: "ما لم تبدأ كوبا بتحسين انتاجها من السكر فإنها ستواجه مخاطر تدمير الثورة".
كل شيء في هافانا يدل الآن على ان الثورة الكوبية لم تعد قادرة على مقاومة تيارات التغيير، والصعوبات الاقتصادية. فللمرة الأولى منذ ثلاثة عقود وافق البرلمان الجمعة الماضي على فرض ضريبة على الدخل الشخصي.
وقد اعترف كاسترو بأن الصدامات التي وقعت الاسبوع الماضي بين مواطنين راغبين في الهجرة وقوات مكافحة الشغب اسفرت عن مقتل شرطيين. غير ان صحيفة "جوفنتود ريبيلدي" التي يصدرها اتحاد الشبيبة الشيوعية في هافانا نسبت الى مصدر في وزارة الداخلية ان الصدامات اسفرت عن اصابة 35 شخصاً بينهم 10 من أفراد الشرطة.
وقال مراسلون صحافيون ان مئات المتظاهرين الغاضبين كانوا يهتفون "الحرية... الحرية". لكن صحيفة "لوموند" الفرنسية رأت الأحد الماضي ان لا أمل في ان يتنحى كاسترو أو نظامه الشيوعي، "لأنه لا يزال يعتقد بأن التخلي عن الحكم موازٍ للهروب". فهل ستكون صدامات هافانا الأخيرة، والتهديدات المتبادلة بين واشنطن وكوبا، بداية نهاية "حقبة كاسترو" في كوبا وغيابه عن مسرح السياسة الدولية عموماً؟
هذا التحقيق الخاص ب "الوسط" يتلمس الاجابة من أعماق تاريخ هذه الجزيرة الكاريبية الشيوعية. كتبه سيريل دروهيه وصوره أرن هوداليك من "جي. ال. ام. آر."
يبدأ تاريخ كوبا المدون بعدما رست سفن كريستوف كولومبوس على سواحلها في 12 تشرين الأول اكتوبر 1492. كان كولومبوس، وهو بحار ايطالي ينحدر أصلاً من مدينة البندقية، غير أنه لم يكن يتحدث سوى الاسبانية، يحلم بالذهب وثروات لا تحدها حدود. وبعدما اكتشف جزر البهاماس والجزر الأخرى المجاورة لها، لم يشعر بالارتياح الى الهدايا التي تلقاها من أهالي تلك الجزر. ولم يهدأ له بال الا عندما أبلغه أهالي البهاماس بوجود أرض شاسعة الى الجنوب من جزيرتهم، فأحيا ذلك الأمل في نفسه في اكتشاف طريق غربي يفضي الى الشرق.
وكانت تلك الجزيرة الواسعة التي رست على سواحلها سفن المستكشف كولومبوس هي جزيرة كولبا Colba كما يسميها سكانها، وهي نفسها الجزيرة التي تسمى اليوم كوبا.
رست السفن الى الشمال من الساحل الكوبي، وشعر كولومبوس بالزهو أثناء سيره راجلاً وسط الأزهار والنباتات الجميلة. وعندما التقى أول مجموعة من سكان الجزيرة كتب في مفكرته عن الرجال والنساء الذين كانوا منهمكين في تدخين أعشاب تجفف بطريقة معينة، ثم تُلفّ في ورقة مجففة أيضاً، "يشعلونها من جانب ثم يستنشقون هواءها من الجانب الآخر ليملأوا صدرهم بهذا الدخان الغريب الذي يبدو أنه يريح أعصابهم الى درجة الثمالة".
السيجار
وكانت تلك هي المرة الأولى التي يعلم فيها الأوروبيون بوجود السيجار الذي لا يزال حتى اليوم أحد أكبر مصادر الدخل الخارجي لكوبا.
بقي كولومبوس متعلقاً بأهدافه القديمة: اما الذهب واما التوابل، فأرسل جمعاً من رجاله للبحث عن المعدن النفيس. وكانوا يضطرون الى التفاهم بلغة الاشارة مع الأهالي ليسألوهم السؤال نفسه: هل يوجد ذهب هنا؟ إذ ان العرش الاسباني كان في حاجة الى الذهب. وكان كولومبوس نفسه في حاجة الى الذهب ليتسنى له تبرير أسباب رحلته. وكان الأهالي يشيرون جنوباً كأنما يريدون التخلص من رجاله.
وعندما حل كانون الأول ديسمبر بدأ كولومبوس يفقد اهتمامه بكوبا ورحل منها ليواصل البحث عن أحلامه الكبيرة. غير ان الجزيرة بدأت تغص بالنبلاء والمغامرين الاسبان والبحارة الذين كانت سفنهم تنقل ثروات العالم الجديد الى أوروبا.
وما ان حل القرن السابع عشر حتى أضحت كوبا محطة رئيسية للقراصنة الأوروبيين الذين تخصصوا في نهب السفن المحملة بالثروات في عرض البحر، خصوصاً القراصنة الذين منعوا من العودة الى بلدانهم فوجدوا ملاذاً في الاستيلاء على السفن المحملة بالبضائع المنهوبة من المكسيك وبيرو. حتى أضحت الجزيرة تعتبر "فردوساً للقراصنة"، وشهرها الروائي روبرت لويس ستيفنسون في روايته الشهيرة "جزيرة الكنز".
البحث عن الكنوز
ولا يزال البحث عن الكنوز مستمراً في كوبا حتى اليوم، يتولاه أسطول السفن والزوارق التابع لشركة "كاريسب" CARISUB التي تملكها الدولة. ويقود القبطان رافائيل سالازار احدى سفن الشركة المزودة أجهزة الكترونية من أحدث طراز.
وتستخدم "كاريسب" نحو 60 غوّاصاً بينهم عدد من خبراء الآثار والعملات القديمة. وتقول حكومة كاسترو ان أكثر من 1300 سفينة تجارية اسبانية ترقد في أعماق الشواطئ الكوبية منذ قرون عدة.
وبقيت "كاريسب" تبحث عن الكنوز منذ نحو 13 عاماً، اذ ان الكثير من السفن الغارقة كان محملاً بالبهارات والذهب والنقود والمعادن النفيسة الأخرى. وتعتبر الشركة تلك الكنوز ملكاً للشعب الكوبي ما دامت مدفونة في قاع مياهه الاقليمية.
وقد بدأت عمليات البحث تأتي أكلها رويداً رويداً. ففي العام الماضي انتشل الغواصون حطام 21 سفينة غارقة تحوي كنوزاً قدرت قيمتها بملايين الدولارات. ويحوي كل كنز آلاف القطع المعدنية الذهبية والفضية من القرن السابع عشر والقرون التالية، وعقوداً موشاة بالياقوت والزمرد، وحلياً من الأحجار الكريمة التي لا تقدر قيمتها بثمن. وغالباً ما تنقل القطع المكتشفة الى أحد متاحف هافانا أو تباع في أحد بيوت المزادات الفنية في عواصم العالم الأخرى.
وبالطبع فإن عمليات البحث التي تقوم بها سفن "كاريسب" وغواصوها مكلفة جداً، غير أن الشركة لا تعاني صعوبات تذكر في توفير موازنتها وحاجاتها. ويعزو رئيسها فنسنت دولاغارديا ذلك الى ضخامة المبالغ التي تذهب الى خزانة الدولة من جراء الاكتشافات التي تقوم بها فرق غواصي الشركة. غير أن الحقيقة ربما كانت تتمثل في أن مؤسس "كاريسب" هو فيديل كاسترو نفسه. اذ يعتبر هو نفسه غطاساً بارعاً، وأحد المفتونين بعالم قيعان البحار والمحيطات.
كاسترو "الثوري"
ولا يزال كاسترو - على رغم مضي السنوات - محتفظاً بجاذبيته وشعبيته. وكان حصل على تقدير الكوبيين منذ أن قرر ذات يوم ابان العقد الخامس ان يطيح نظام الجنرال باتيستا. كانت كوبا يومها لا تعدو ان تكون ولاية أميركية في قلب المحيط. وكانت تخضع لها في كل مجالات حياتها الثقافية والاقتصادية. يقصدها السياح الأميركيون الذين ينشدون الاستمتاع بطقس المناطق المدارية. وكانت حلم الكثير من الشركات المتعددة الجنسية التي تنشد استغلال الموارد الطبيعية للجزيرة الى أقصى حد ممكن.
وهكذا كانت الشركات الأميركية تملك 90 في المئة من المناجم الكوبية، و50 في المئة من العقارات الموجودة في كوبا، وكانت تسيطر على 70 في المئة من صادراتها وتتحكم ب 75 في المئة من وارداتها.
واقتداء بخطى خوسيه مارين مؤسس الحزب الثوري الكوبي وأهم غلاة الدعاة الى استقلال الجزيرة عن اسبانيا في القرن التاسع عشر، قاد كاسترو كفاحاً مسلحاً مضنياً ضد "الامبريالية الأميركية"، كان إيذاناً بتحويل الجزيرة الجميلة من ألعوبة اقتصادية وثقافية بيد الأميركيين الى مجتمع ماركسي متشدد.
ويؤخذ كثيرون بقدرة كاسترو الفائقة على التحول من بورجوازي نشأ في كنف الآباء اليسوعيين الى قائد ماركسي ثوري ومدافع عن حقوق العالم الثالث بأسره. ومن قدراته الفريدة حقاً انه يتولى أعباء جميع المسؤوليات التنفيذية العليا في حكومته. ويبدو حين يتمسك بضرورة ان يطلق عليه رفاقه لقب "القائد" كمن لم يغادر منطقة جبال "سييرا مايسترا" التي اندلع فيها التمرد الذي أتى به الى الحكم في العام 1959.
لم يتغيّر
لم يتغير فيه شيء، اذ لا يزال يرتدي زيه العسكري وقبعته المميزة. ولا يزال مرسلاً لحيته المبيضة. بل لا يزال مؤمناً في حماسة شديدة بقضية الاشتراكية. وما فتئ يغيّر مكان نومه كل ليلة، ويرفض الظهور في الأماكن العامة الا نادراً. ويبدو لكثيرين كمن يحاول تجسيد خلود أبطال حروب العصابات، أو كممثل مخبول لا يطيق النزول عن خشبة المسرح. فما ان استولى على الحكم حتى أمر باعادة فرض عقوبة الاعدام، وبدّل المواعيد التقليدية للكرنفالات، وأمر - ضد كل الظروف المناخية - بزراعة الفريز الفراولة على مدار السرطان.
وبقي الشعب الكوبي منهكاً لكنه صبر على خطب كاسترو الاشتراكية التي لم تنقطع منذ 35 عاماً. وبقيت قضيته الأساسية محاربة "الجارة الامبريالية" لبلاده الولايات المتحدة. فيما يقبع عشرات الآلاف من معارضيه السياسيين في السجون، ولا يزال عشرات الآلاف من الشبان يغامرون بحياتهم للهروب الى شواطئ ميامي، فيما ينقل المثقفون الذين عارضوا أفكار القائد للعمل في المزارع والحقول.
ولبث مواطنو كوبا يتمسكون بصبرهم طويلاً على وعود النظام الكاذبة. والواقع ان النظام أتاهم بشيء من الرخاء في مطلع عهده لم يكونوا يحلمون به. فليس هناك جائع في شوارع المدن الكوبية. كما ان نظام كاسترو تبنى سياسات حُرِم منها الكوبيون طويلاً، ومنها سياسة ايجاد فرصة عمل لكل مواطن. وبنى نظاماً تعليمياً لا مثيل له في أميركا اللاتينية. وأقام نظام رعاية صحية فعالاً. وأيا كانت رتابة خطب كاسترو فان طقس كوبا وعادات أهلها ساعدتهم على الاستمتاع بقدر من حياتهم.
الساعات الأخيرة
غير ان الذين زاروا كوبا أخيراً خرجوا بانطباع وحيد مهم: لقد دنت الساعات الأخيرة من حكم كاسترو. فمنذ انهيار الشيوعية العام 1989 لم يعد ثمة وجود للأخ الأكبر لكوبا - الاتحاد السوفياتي - لتقديم تلك المساعدات السخية والمواد الخام التي أتاحت للكوبيين البقاء بمعزل عن تقلبات سياسة السوق الاقتصادية الحرة.
ودلائل ذلك عدة: فقد اضطرت الحكومة الى الدخول في برنامج تقشف اقتصادي قاسٍ. اذ ولّت الأيام التي كانت موسكو تشتري فيها السكّر الكوبي بأسعار غير واقعية لتقايضه بالنفط. وولّى العهد الذي كانت ألمانيا الشرقية ترسل فيه المواد الخام لتمكين كوبا من انتاج عقار الاسبيرين وتصديره للحصول على عملات أجنبية. ولم يَعُد لتشيكوسلوفاكيا سابقاً وجود حتى ترسل شحنات الدجاج مجاناً الى هافانا. ولم تعد بلغاريا تستطيع ان تهدي الكوبييين تلك الأغذية المعلبة، ولا بولندا قادرة على شحن المعدات الزراعية مجاناً للرفاق في كوبا. ولم يبق الاتحاد السوفياتي ليهدي الكوبيين السيارات والحافلات، لتتكفل المجر بتقديم قطع غيارها مجاناً.
وهكذا لم يعد في مقدور كوبا ان تُبقي على اقتصادها الا بتقديم تنازلات خطيرة لمصلحة الرأسمالية. وكان أكبر منعطف في هذا الشأن قرار كاسترو نفسه في تموز يوليو 1993 السماح بتداول الدولار الأميركي في الجزيرة .
اهتراء
ويتبدى الواقع الجديد في حال المباني العتيقة التي خلّفها الاستعمار الاسباني، فقد بدأت جدرانها تهترئ وتتآكل بعدما اتضح انها لم تحافظ على رونقها طوال حكم كاسترو الا بفضل الدهانات السوفياتية الزهيدة.
وعندما يحل الليل ينقطع التيار الكهربائي لأسباب اقتصادية. وتنطلق الدراجات من دون اضاءة ليلية في الشوارع. وتصطف أرتال السيارات الأميركية القديمة الضخمة في طرق المدينة. واذا ذهب الزائر الى احدى صيدليات هافانا فلن يلقى فيها سوى بضعة أدوية سائلة وفيتامينات تتبرع بها من وقت لآخر المنظمات الانسانية. وتخلو رفوف عدد كبير من متاجر العاصمة من السلع تماماً. وغداً اقتناء الخبز وحده كل يوم عملاً تجد فيه عامة الكوبيين مشقة وضنكاً شديدين.
ويشار مثلاً الى ان السلطات تنفذ سياسة يمنح بموجبها كل فرد في البلاد 80 غراماً من الخبز كل يوم. ليس ذلك فحسب، وانما على المواطن ان يقف في طابور طويل تحت الشمس الحارقة ليحصل على نصيبه. ولا يحق لأي مواطن الحصول على أكثر من 4 بيضات كل عشرة أيام، ولا أكثر من ثلاثة كيلوغرامات من الرز شهرياً وزوج من السراويل القصيرة مرة في العام!
السوق السوداء
ولا يملك البيسو العملة قدرة شرائية تذكر، فالدولار الواحد يعادل نحو 100 بيسو، بينما لا يتعدى متوسط الدخل الفردي في الجزيرة 250 بيسو شهرياً. وهكذا فان الدولار وحده هو العملة القادرة على ازالة معاناة الكوبيين، لكنه ليس متاحاً لهم، فهو فقط في أيدي السيّاح. لذلك تزدهر ظاهرة السوق السوداء التي تعرض فيها البضائع المسروقة من الدولة ومستودعات الشركات العامة الكبيرة.
ومن كبار المتعاملين في السوق السوداء الكوبي توني 21 عاماً، فهو مستعد لبيع كل شيء يسطو عليه للسياح في مقابل حفنة من الدولارات. وقد يلح أحياناً على السائح ليكون ضيفاً عليه في داره. وما ان يطيب المجلس لكليهما حتى يبدأ توني بالبوح من دون خوف عن آرائه في النظام.
مرض جديد
- كاسترو؟
يرد توني على السؤال ضاحكاً.
- ماذا يكون كاسترو؟ اعتقد انه مرض جديد. ثم يضيف وهو ينظر بعيداً:
- دولاراتي أحفظها جيداً، وأبقيها بعيداً عن الأيدي والعيون وعندما تصبح كميتها كبيرة سأغادر كوبا مع صديقتي لننضم الى ابناء عمي في ميامي لنبدأ حياة جديدة.
ومن المظاهر المهمة الأخرى الناجمة عن الأزمة الاقتصادية في كوبا انتشار الفتيات الطائشات اللاتي تراوح اعمارهن بين 15 و25 عاماً. وفي كل مكان هن موجودات: في الشارع العام، حول فنادق السياح، على امتداد طريق الساحل، وفي الأحياء الراقية. وليست بينهن سوى قلة من محترفات تجارة الجسد، لأن معظمهن انما تدفعهن الى ذلك الظروف الاقتصادية الخانقة التي تواجه الكوبيين جميعاً.
وليس الريف أحسن حالاً من المدينة، فبسبب أزمة الوقود ترى الشاحنات مكتظة بالركاب وأبقارهم وأغنامهم. وتكثر مشاهد المسافرين على ظهور الدواب. وتملأ الآليات الزراعية جنبات الحقول، يعلوها الصدأ لالقائها في العراء فترة طويلة. ومن المشاهد المألوفة في الأرياف منظر التلاميذ يسيرون مسافات بعيدة ليصلوا الى مدارسهم.
عصر الدراجة
وعلى رغم هذا الوضع الأشبه بكارثة فان السلطات تتمسك بأن على المواطنين مواصلة "الكفاح الثوري" حتى بلوغ مرحلة الاكتفاء الذاتي. انها فلسفة كاسترو نفسه الذي يواجه الأزمة الحالية بالطريقة التي ظل ينظر بها الى الأشياء، باعتباره قائداً عاماً، فقد أعلن لشعبه "ان هذه الثورة قادرة على ان تكسب جميع المعارك التي تخوضها"، وذلك عندما أعلن بدء "عصر الدراجة" للتعويض عن توقف السيارات بسبب نقص الوقود. وعلى الأثر استوردت حكومته أكثر من مليون دراجة من الصين.
ولا يكلّ نظام كاسترو من النداء الى التعبئة ضد خصومه القدامى، خصوصاً الولايات المتحدة التي تناصبه العداء منذ 30 عاماً عندما أعلنت الحظر الذي لا تزال تفرضه على كوبا. ويرد هو بالدعوة الى "المقاومة" والى "الاشتراكية أو الموت". غير انه، مع كل تلك الجعجعة، يبدي استعداداً لتقديم تنازلات اذا كان من شأنها تخفيف العقوبات المفروضة على بلاده.
ووجه كاسترو مراراً رسائل مبطَّنة في هذا الشأن الى الرئيس بيل كلينتون. ودعا اللاجئين الكوبيين في ميامي الى العودة للاستثمار في بلادهم. وأمر ببناء قرى سياحية فاخرة وفتح أبواب السياحة للأميركيين. أي أنه، بعبارة أخرى، يفرش البساط الأحمر للامبرياليين اعداء الأمس.
بيد ان ذلك كله لم يضع حداً لافتتان النظام بأبطاله وتعزيزه عقدة الفرد التي يقوم عليها. ومن أولئك الأبطال خوسيه مارتن الشاعر الذي قاد انتفاضة ضد الاسبان، وكاميليو سيانفويفوس، وآرنستو تشي غيفارا خصوصاً.
ويبقى ذلك كله ضرباً من التأسي بالماضي والحنين الى عهود مضت. ولا شك في ان كاسترو نفسه يدرك في قرارة نفسه انه لم يعد في نظر الشبان الكوبيين اليوم "الحصان" أو "الرقم الأول" كما كان ينظر اليه شبان الخمسينات والستينات وانما هو في نظرهم اليوم "الرجل العجوز"!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.