معركة تثبيت السلطة الوطنية الفلسطينية لن تكون سهلة. هذا على الأقل ما اكدته عودة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات والخطب التي ألقاها والتصريحات التي أدلى بها. ولعل اصعب ما في هذه المعركة هو توفير الاموال اللازمة وحسن استخدامها لضمان بناء نموذج يقنع المقيمين في ظله ويقنع العالم أيضاً. لم يمض وقت قصير على انتهاء زيارة الرئيس الفلسطيني الأولى لمخيم جباليا المكتظ بالسكان حتى أدرك ان معركة صموده في وجه معارضيه وتثبيت سلطة الحكم الذاتي في قطاع غزة وأريحا، ولاحقاً في باقي أراضي الضفة الغربية، تحتاج قبل كل شيء الى وصول المساعدات الدولية التي وعد بها اثر توقيعه اتفاق واشنطن في الثالث عشر من ايلول سبتمبر الماضي. وحسب قول مسؤول فلسطيني رفيع، رافق عرفات في كل تنقلاته خلال زيارته الأولى لقطاع غزة ومدينة أريحا، فإن عرفات اكتشف في مخيم جباليا ان معركته الحاسمة ليست مع خصومه السياسيين من حركة "حماس" و"الشعبية" و"القيادة العامة" وغيرها بل "مع البطون الخاوية وانعدام فرص العمل". وفي التصريحات التي أطلقها عرفات في الأيام التي تلت زيارته لجباليا ما يوضح ان الانتقادات التي وجهّها الى الدول المانحة والبنك الدولي حول تباطؤهم في تقديم المساعدات ناجمة عن اقتناعه بأن تشغيل عشرات الآلاف من العمال في مشاريع تمهد لبناء بنية تحتية متينة سيكون بمثابة حجر الاساس لاستقرار دولة بدأ بوضع لبناتها الأولى في الأول من تموز يوليو الجاري. ويقول المسؤول الفلسطيني ان الرئيس عرفات اطلع اسحق رابين، في باريس، على الوضع في قطاع غزة، وحثه على ضرورة ان تسمح السلطات الاسرائيلية لأربعين ألف عامل فلسطيني بالانتقال والعمل داخل الخط الأخضر، لأن من شأن ذلك ان يخفف الضغط على السلطة الوطنية الفلسطينية ويساعد في تسيير دورة مالية واقتصادية كاملة بانتظار وصول المساعدات الدولية وايجاد فرص عمل للعمال الفلسطينيين داخل مناطق السلطة الفلسطينية. ولم يفت عرفات ان يذكّر رابين خلال اللقاء بأن الاتفاق الفلسطيني - الاسرائيلي وقع ليطبق، لكن استمرار الالتزام في التطبيق بصورة تحوز على رضى الاسرائيليين يعني ان كل الوعود التي اغدقت على الفلسطينيين من قبل الدول المانحة للمساعدات يجب ان تطبق ايضاً، لأن قطاع غزة وسكانه ومناطق اخرى في الضفة الغربية تعيش تحت خط الفقر وفي غياب ادنى مستلزمات العيش من غذاء ومياه ودواء وعمل. وبعث عرفات خلال زيارته القصيرة لفرنسا بأكثر من اشارة الى الرئيس فرنسوا ميتران، كان ابرزها تلك التي اكدت على ان عدم وصول المساعدات المالية الى سلطات الحكم الذاتي قد يعرّض كل مسيرة السلام الى الخطر. وأضاف عرفات ان هذا الكلام لا يعني ان الفلسطينيين سيجلسون منتظرين التصدّق عليهم والدليل انه حرص على حث الفلسطينيين القادرين على الاستثمار والعمل. وقال ان قوانين جديدة ستصدر قريباً لتشجيع الشركات واصحاب رؤوس الاموال العربية والاجنبية على الاستثمار في قطاعات عدة في الأراضي الفلسطينية. وطلب الرئيس الفلسطيني من الرئيس ميتران ان ينقل الى زعماء الدول المانحة صورة عما يجري في هذا المجال لأن الفرصة التي وجدت للتوصل الى سلام في العام الماضي قد لا تتكرر من جديد اذا ما تعرّض الاتفاق الفلسطيني - الاسرائيلي الى هزة كبيرة. وخلال أيامه المعدودة في تونس قبل عودته النهائية الى أراضي الحكم الذاتي الفلسطيني استغل عرفات كل لحظة من وقته لوضع الولاياتالمتحدة وممثلي الدول المانحة للمساعدات في صورة ما يجري على الأرض بعد معاينته الشخصية للأوضاع بنفسه. وقال ان على اسرائيل مسؤولية كبيرة لجهة حث مانحي المساعدات لا سيما وانها هي الدولة التي احتلت الضفة والقطاع لسنوات طويلة وجبت الضرائب من مواطنيهما دون ان تقدم لهم اي نوع من الخدمات الاساسية المطلوبة. ومع ان الرئيس الفلسطيني جمع كل أوراقه الشخصية وملفاته من مكتبه في شارع يوغرتة في العاصمة التونسية قبل مغادرته الى غزة وأريحا في المرة الأولى، الا ان السلطات التونسية التي نظمت حفلاً رسمياً وشعبياً لتكريمه ووداعه حرصت على الابقاء على مكتبه لتذكير التونسيين والعرب بالفترة التي قضاها الفلسطينيون في عاصمتهم في يوم من الأيام. وسيوقع عرفات قبل مغادرته تونس نهائياً بروتوكولات تعاون اقتصادي واتفاقات في مجالات متعددة لضمان استفادة الفلسطينيين من الخبرات التونسية في ميادين السياحة وتدريب المرأة والتعامل مع المساعدات الأجنبية، خصوصاً وان تونس تعتبر في ملفات صندوق النقد الدولي صاحبة تجربة ناجحة في الافادة من المساعدات الأجنبية وصرفها في المجالات المناسبة. ولم يمنع الاستقبال الجماهيري الحاشد لعرفات اثناء زيارته لقطاع غزة بعض القيادات المحلية من انتقاد السلطات الفلسطينية التي يرأسها. الشوا ينتقد السلطة السيد منصور الشوا رئيس بلدية غزة المكلف من قبل عرفات نفسه اتهم القيادة الفلسطينية بالتقاعس عن انشاء أجهزة فلسطينية معتمدة الأمر الذي ادى الى امتناع البنك الدولي عن تقديم المساعدات المالية. ورأى الشوا ان القطاع في حاجة الى 800 مليون دولار لاعادة البناء والتنمية في خطة يستغرق تنفيذها 4 سنوات. ورأى ان الاستقبال الفاتر الذي استقبل به عرفات في غزة يعود في جانب منه الى خيبة الناس. وقال الشوا ان لديه برنامجاً، لو قدر له الاستمرار في منصبه، "يتضمن أولاً اقامة شبكة صرف صحي وتأمين مصادر للمياه"، مؤكداً انه "سيطالب باخلاء المستوطنات في جنوبغزة للحصول على مصادر المياه فيها"، ومشدداً على ان "مهمته سياسية أيضاً"، ومشيراً الى ان "مياه غزة كلها ملوثة". وأعرب الشوا عن اعتقاده "بوجود تقاعس من الجانب الفلسطيني في البداية ... فدول كثيرة وعدت بتقديم معونات مالية لمؤسسات فلسطينية معتمدة لم تقم بعد ومنها بلدية غزة نفسها، ويجوز بعد ذلك ان يكون البنك الدولي قد تباطأ". وأضاف: "ان مجلس بلدية غزة لم تتم الموافقة عليه حتى الآن ... وطبيعي في حال عدم وجود بلدية معتمدة ان تمتنع الدول المانحة عن تقديم مساعدات ... ويجب ان نفهم ان القطاع يحتاج الى 4 سنوات لاعادة البناء بتكلفة قدرها 800 مليون دولار". اخلاء المستوطنات وحول برنامجه لحل مشاكل غزة قال الشوا: "أنا كمواطن في غزة على دراية بالمشاريع التي يحتاجها القطاع، فهنا لا توجد مياه صالحة للشرب أو شبكة صرف صحي، فلكل منزل بئر مجار تسير فيه مخلفات الصرف لتصل الى مصادر المياه وتلوثها. مياه غزة كلها ملوثة، ولهذا يجب تأمين الحصول على مصادر مياه من قطاع غزة نفسه، واقامة شبكة صرف صحي كاملة، وانشاء محطات لتنقية المياه بشكل يسمح باستخدامها في الزراعة". وأضاف: "مصدر المياه الذي افكر فيه هو جنوبغزة حيث تقام المستوطنات التي قبلت المنظمة بقاءها والتي تقع فوق أرض تعد أكبر مصدر للمياه في القطاع، والاسرائيليون ينقلون المياه الى داخل اسرائيل ضمن جهودهم لابقاء غزة عطشى". وقال: "اذا تم اعتماد المجلس البلدي سأطالب الحكومة الاسرائيلية بالتنازل عن مصادر المياه واخلاء جميع المستوطنات التي تحتل 40 في المئة من مساحة غزة واجلاء ال 4 آلاف مستوطن فيما 900 ألف مواطن يحتلون 60 في المئة فقط من الأرض... وهذا لأن مهمتي سياسية ايضاً". وطالب القيادة الفلسطينية بالتحرك لاخلاء المستوطنات. واعتبر ان من أهم الضرورات "اسكان اللاجئين، الذين اقاموا في معسكرات منذ 1948، في مساكن تقام على الأراضي الحكومية ليعيشوا في مكان لائق ومحترم". وعن وجود قوانين عثمانية وبريطانية ومصرية تطبق في غزة وكيفية التعاطي مع هذا الوضع قال: "جزء بسيط من القوانين عثماني، والغالبية هي قوانين الانتداب البريطاني التي كانت سائدة أيضاً فترة الادارة المصرية، ومن الممكن اجراء تعديل موقت يتناسب مع الوضع في غزة، ومستقبلاً يمكن وضع قوانين جديدة... لكن هذا سيستغرق وقتاً طويلاً". وانتقادات من "حماس" وقال الدكتور محمود الزهار، أحد أبرز قادة التيار الاسلامي في قطاع غزة، ان الحركة "كانت تتمنى لو ان الرئيس عرفات كان آخر العائدين الى الأرض الفلسطينية أو لو انه عاد بعد الافراج عن كل المعتقلين في سجون اسرائيل". واعرب عن اسفه لأن عرفات "استأذن اسرائيل قبل العودة". وأكد استعداد "حماس" للتعاون مع السلطة الوطنية من دون الانضمام اليها. ورأى ان "اسرائيل ستتدخل في غزة وتنسف الاتفاق مع المنظمة لو استمر المدّ الاسلامي في غزة". مؤكداً "ان كل المستوطنين مطلوبون للقتل في كل الحالات". وحول رؤية "حماس" لعودة أبو عمار سياسياً قال الزهار: "نتحن رحبنا بعرفات لكن كنا نتمنى ألا يحصل على تصريح من اسرائيل للدخول الى وطن يسمّيه هو الوطن المحرر. فهذا التصريح ينسف قصة التحرر والأرض المستقلة. لقد جاء عرفات على رغم وجود 7 آلاف فلسطيني معتقل في السجون الاسرائيلية على رأسهم الشيخ المجاهد أحمد ياسين، ووسط تصريحات مستمرة للمسؤولين الاسرائيليين عن ان القدس عاصمة اسرائيل في خرق للاتفاق الذي وقعته منظمة التحرير والذي نصّ على ان يبت وضع القدس في المفاوضات النهائية كما يقولون". وأضاف: "جاء عرفات أيضاً بعد ان منعوه من زيارة القدس، كما، وللأسف أيضاً، مرّ عرفات بموكبه وسط مستوطنة كفار دوروم ... ولهذه المعاني كلها دلالات توضح طبيعة هذه المرحلة التي نمر بها الآن وملامحها ... وكنا نتمنى ان يكون عرفات هو آخر عائد الى فلسطين بعد عودة الملايين في الشتات والمخيمات ... وقد تمت الزيارة فلا نقول سوى أهلاً وسهلاً". وبالنسبة لبرنامج العمل الذي يمكن ان يقترحه للسلطة للتعاطي مع مشاكل قطاع غزة قال: "أنا لست من مستشاريها، لكن كمواطن اؤدي دوري في المجتمع، فغزة يلزمها استكمال انشاء الاجهزة المحصنة ضد العمالة والتجسس والرشوة والمحسوبيات، لكي تكون لكل الناس... وهذا لم يتم ... كما يجب ان يتولى السلطة الخبراء والمتخصصون، وللأسف ما حدث هو ان اعضاء السلطة - حتى الآن - شخصيات غير مناسبة ولهذا أتصور ان الامر سيفشل". وحول ما اذا كان لدى "حماس" استعداد للتعاون لانجاز مشروع وطني... أكد الزهار "استعداد الحركة للتعاون ولكن هذا لا يعني اننا دخلنا السلطة... وعلى سبيل المثال السلطة يجب ان تكون هي المستعدة للتعاون، مثلاً يجب ان يتم فتح باب الانضمام الى الشرطة أمام كل الناس ويجب ان تضم ضباطاً من حركة "حماس" لكي يكون هذا الانضمام ضمانة لعدم انحراف هذا الجهاز". "المستوطنون مطلوبون" وبشأن المستوطنين قال: "موقفنا ضرب المستوطنين والجنود في كل الحالات وهم هدف ومطلوبون، واذا اعتدوا على المواطنين فهذا مبرر للمواطنين وحتى للسلطة للرد ... ونحن نعتبر المستوطنات ورقة اسرائيلية ستستخدمها اسرائيل في الوقت المناسب لنسف الاتفاق وللتدخل ايضاً لو شعروا ان هناك مداً اسلامياً أو توتراً أو ضعفاً في السلطة". وشدد الزهار على ان نشاط "حماس" لن يتأثر بالاتفاق وقال: "بالعكس... نحن موجودون اصلاً في الداخل، فمهما اغلقوا من مكاتب للحركة في الخارج لن نتأثر، فقد عايشنا فترة الاحتلال وتغلبنا عليها ولم يفلح معنا القتل أو السجن أو الابعاد... وهذا يؤدي الى انتصار الاسلاميين". ورغم كل الاجواء الاحتفالية التي حظي بها عرفات بين مواطنيه، والملاحظات التي سجلها فريق منهم على خطبه فان المواقف التي اعلنها اعتبرت بمثابة اولويات برنامج السلطة الوطنية الفلسطينية في المرحلة المقبلة. حرص عرفات على اظهار العمق العربي لسلطته من خلال مواكبة الرئيس المصري حسني مبارك له حتى نقطة الحدود المشتركة في رفح، وشدد في برنامجه الداخلي على الانتخابات المحلية، وأكد على أهمية القدس في المرحلة المقبلة، وفي الوقت نفسه جدد التزامه اتفاق السلام مع اسرائيل. ولا شك ان الرمزية لم تغب عن بال الرئيس الفلسطيني بعد 27 عاماً من ابتعاده عن غزة، فكان حرصه على زيارة منزل الشهيد الأول للانتفاضة في مخيم جباليا حاتم السيسي، وافتتاح مصنع لعصير الحمضيات ساهمت في بنائه شركة ايطالية، وتأكيده عدم تخليه عن الشيخ أحمد ياسين زعيم "حماس" ووصفه له بأنه رفيق دربه. كل ذلك نبع من حرصه على ان يؤكد لمعارضيه اهتمامه بوحدة الصف الداخلي لمواجهة المرحلة التي يحرص على ان يطلق عليها مرحلة وضع اللبنات الأولى للدولة الفلسطينية والتي قال ان القدس ستكون عاصمة لها.