حين أصدر عابد عازرية أسطوانته الاولى مطلع السبعينات، وكانت بعنوان "الغناء الجديد للشعراء الشباب"، لم يكن الوسط الموسيقي العربي سمع بذاك الموسيقي السوري الشاب الذي اختار منذ خطواته الاولى طريقاً وعرة لم يغامر في ارتيادها أحد قبله... فهو ولج الاغنية من باب الحداثة وأسئلتها المقلقة، اذ غنّى قصيدة النثر والقصيدة الحديثة بشكل عام، ليوغل عميقاً في التراث الموسيقي العربي، ويغوص بالتدريج على كنوز الموسيقى القديمة. من قصائد الشعراء الرواد السياب، محمود درويش، الماغوط، أنسي الحاج وأدونيس الى الاساطير القديمة لحّن ملحمة "غلغامش" وقدمها على الخشبة، مروراً بشعر الحلاج وابن عربي ورابعة العدوية... راح عازرية - المقيم في باريس منذ سنوات طويلة - يتقدم ببطء وحذر، ويخوض في مغامرة قوامها الجرأة وسعة الافق والنقاوة. هكذا أسّس لمنحى جديد وخاص في الاغنية العربية المعاصرة. منحى لم يجد بعد طريقه الى الجمهور الواسع والاذاعات، وربما كانت تلك النخبوية الظاهرية من صلب التجربة نفسها. هذا المنحى يمكن أن نطلق عليه تسمية الاغنية التأملية والفلسفية. آخر ما أصدره عابد عازرية قبل خمس سنوات، كان أسطوانة رقمية لايزر بعنوان "توابل"، جمع فيها باقة من أغنياته السابقة بتوزيع جديد. ومع ذلك العمل أعاد الجمهور اكتشاف تجربة فريدة يتجاور فيها الحسي والمجرد، الوجودي والمثالي، كما تتجاور الآلات العربية والآلات القديمة مع التقنيات الحديثة في معالجة الاصوات وتكييفها. وها هو "المتصوف" الذي دجن التكنولوجيا، والموسيقي الذي غرف من التراث الكلاسيكي قوالب تتناسب مع بنية القصيدة الحديثة وروحها، يتهيأ لاصدار أسطوانتين جديدتين: الاولى غريبة من نوعها تتضمن قصائد لشعراء مجهولين من الاندلس، يستعيد معها الايقاع الخفيف، النبرة الدارجة والاجواء الشعبية الراقصة، وهي بعنوان "نصيب". "لا بد للجسد أن يتبع الموسيقى" يقول عازرية الذي يقارنه البعض بالسينمائي المصري الراحل شادي عبد السلام، في معرض تقديم المشروع، وهو يعود الى بداياته 1968. في "نصيب" يلتقي التخت العربي بآلاته الوترية والنقرية مع موسيقى الفلامنكو براقصيها ومنشديها ومصفقيها، وبموسيقى الحجرة خماسي وتري الكلاسيكية، ويتعانق المقام العربي بالمقام الاسباني فيما ترافق موسيقى الحجرة الغناء الاندلسي المنفرد سولييا. أما الاسطوانة الثانية، وعنوانها "لازورد"، فهي تتمة للمشروع الابداعي الذي عُرف به. يؤدي هذه المرة فيها نصوصاً عربية عريقة، قاربها من زاوية "الحب والتمرد"، ومنحها بعداً اضافياً عبر الموسيقى: طرفة بن العبد، المعرّي من "اللزوميات"، المتنبي، بن عربي من "ترجمان الاشواق"، عبد القادر الجزائري، أنسي الحاج سوف يكون، أدونيس حاملاً سنبلة الوقت، الخيّام...