غصّت قاعة المسرح المتطورة في "المجلس الأعلى للثقافة" في القاهرة، أول من امس، بجمهور من مثقفين وكتاب وفنانين بارزين، جاؤوا يشاركون في ليلة ستبقى طويلاً في الذاكرة الثقافية المصرية. كان أدونيس جالساً الى الأرض، متربعاً على منصة يكسوها السجاد، أمام طاولة واطئة، يقرأ شعره كأنه في جلسة حميمة مع أصدقاء قدامى... وخلفه جلس الفنان العراقي نصير شمّة محتضناً عوده، متوسطاً المغنيين مي فاروق مصر وعبير منصور فلسطين. جلس الشاعر الى الأرض كي يذكرنا بشبابه الدائم؟ هل هي اشارة الى أن بطريرك الشعر الحديث تنازل عن كل سلطة إلا نشوة الشعر؟ المهم في هذا الحدث الذي دعا اليه "صندوق التنمية الثقافية" ورعاه الدكتور جابر عصفور، أنه أعاد أدونيس الى جمهوره المصري، وسلّط الأضواء على موسيقي قدير هو نصير شمّة الذي تجرأ على تلحين قصائد صاحب "مفرد بصيغة الجمع"، وربح رهانه. ان يقرأ أدونيس الشعر... الأمر بحد ذاته حدث استثنائي، فهو مقلٌّ جداً في اطلالاته الشعرية في العالم العربي منذ سنوات. فكيف بالأحرى وهو يطل على جمهوره في القاهرة، هذه المدينة التي أقامت معه علاقة اشكالية وصدامية خلال العقد الاخير... علاقة فيها من القسوة بمقدار ما فيها من الحب والاحترام والإعجاب. ويذكر كثيرون كيف واجه، خلال زيارته السابقة الى مصر قبل سنوات مشاركاً في "معرض القاهرة الدولي للكتاب"، وابلاً من الاتهامات والانتقادات، وكيف تعرّض لهجمات جارحة أوصلته الى حافة الدموع. ورأى بعضهم آنذاك، في تلك القسوة غير المبررة بحق أحد كبار الشعراء العرب الأحياء، علامة من علامات الأزمة الفكرية، وتعبيراً عن سوء التفاهم الذي يتحكم بالحياة الثقافية العربية. إذ أن القسوة لم تأتِ يومها من المعسكر "المحافظ" فحسب، بل من بعض رموز الطليعة الثقافية والأدبية. ومع ذلك عاد "مهيار الدمشقي" إلى القاهرة، ليكون أبرز نجوم الدورة المنتهية ل"معرض الكتاب". وها هو جابر عصفور يقيم على شرفه، في المجلس الأعلى للثقافة، طقساً حميماً وخاصاً، تحضر فيه الموسيقى والغناء، فنعيش لحظات من الانفعال والمتعة والتأمل والإصغاء. ومرّة جديدة، فاجأ نصير شمّة جمهوره بموهبة ومقدرة على الابتكار وتطويع البنية الموسيقية الكلاسيكية كي تتسع لقصيدة النثر. ولا بد من اعتباره من الآن فصاعداً أحد أبرز الذين لحنوا القصيدة الأدونيسية التي يرى إليها بعضهم مستعصية على الغناء، منذ محاولات عابد عازرية قبل عقدين. بدأ شمّة بعزف منفرد على العود وأدّت عبير منصور الاغنية الاولى، وبعدها دخلت مي فاروق لنكتشف مقدرة غنائية فذة وصوتاً استثنائياً سنسمع عنه كثيراً في السنوات المقبلة بلا شك. وارتدى أدونيس عباءة المتنبي، مستعيداً بعض الفصول من سيرته الشعرية المتخيلة، كما دوّنها هو في "الكتاب". سافر الشاعر، ومعه جمهوره، بين الأزمنة والمدن حلب، القاهرة، بغداد...، وقف مثل الشاعر "بين مستحيلين" مخاطباً ارض الكنانة، قبل أن ينتقل إلى قراءة قصائد جديدة له غير منشورة، ستضمها مجموعة مقبلة بعنوان "تاريخ السحاب". وجاءت القصائد مدهشة ومفاجئة، عن الحب والرغبة والجسد والكهولة، لتقول هماً وجودياً وتطرح اسئلة ميتافيزيقية، لا أحد يجيد طرحها مثل أدونيس. وجاءت قصائد النثر التي ألقاها مضمّخة باليأس تتسع للموسيقى والإيقاع: "من أين يأتي الضياء/ والسماءُ تخون السماء؟" وبلغت الامسية ذروتها حين اخذ الموسيقي يرافق الشاعر، الذي يتناوب بدوره مع المغنيتين في أداء إحدى قصائده الجديدة التي تنتهي كالآتي: "سأغني... إن الوجود فسحة للغناء".