محمد أحمد السويدي أكثر من شاعر، فهو مثقف حاضر في مجتمعه، والامين العام لمؤسسة ناشطة في الامارات هي "المجمّع الثقافي". على هامش "معرض الكتاب الدولي" في أبو ظبي التقيناه للتداول في شؤون الثقافة والشعر، فقادنا الحديث الى تناول قضايا راهنة ومثيرة للجدل، كما تطرق الشاعر الذي يحضّر لمشاريع مع طلال حيدر ومارسيل خليفة، الى سياسة المجّمع وبين أهدافه المقبلة تحقيق "المتحف الاسلامي" و"القبة السماوية"، وربط المؤسسة بالمراكز الثقافية العالمية. يعتبر محمد أحمد السويدي، من أبرز وجوه الطليعة الثقافية في دولة الامارات العربية المتحدة. فهو شاعر صاحب صوت مميز وتجربة تستحق الدراسة والاهتمام، أصدر حتى اليوم أربع مجموعات شعر نبطي هي: "موانىء السحر" 1986، "أحلام وردية" 1988، "أساور في ذراع القمر" 1990، و"دقاقة الطار" 1993. ومنذ العام 1990، يشغل السويدي مواليد عام 1960، حامل شهادة بكالوريوس في الاقتصاد من جامعة كاليفورنيا/ 1982 منصب أمين عام "المجمّع الثقافي" الذي بات مؤسسة ثقافية رائدة متجذرة في التربة المحلية، ومنفتحة على آفاق عربية وعالمية. "الوسط" التقت السويدي في أبو ظبي، وكان الحوار الآتي حول الشعر، والحركة الثقافية في البلاد، ومشاريع المجمّع الغزيرة، وطموحاته مقارنة بالمؤسسات الثقافية الاخرى: يلاحظ قارئ شعرك حضور الحب كتيمة رئيسية في دواوينك الاربعة. فأين هي الهموم الأخرى؟ - يحضرني قول أحد الشعراء الفرنسيين بأن "الشعر أهم من الوطن". أنا لست من الاشخاص الذين يحاولون الكتابة في السياسة أو الاجتماع أو... أنا أكتب الشعر كما يأتيني. وشعري رد فعل على أحاسيس ومشاعر وانطباعات وانفعالات ألتقطها أو أعيشها خلال تجربتي الحياتية. وأكثر ما يثيرني في الحياة هو الجمال، فمن يجسد هذه القيمة المطلقة على الارض أكثر من المرأة والطبيعة؟ الفن يستحوذ على اهتمامي هو الآخر، من اللوحة الجميلة والنغمة وغير ذلك. قد أوصم بالتقصير إن لم اهتم بالكتابة عن أطفال الحجارة الذين تسكننا قضيتهم منذ طفولتنا، لكني غير متعلق كثيراً بكتابة قصائد المناسبات. فعملي اليومي في "المجمّع الثقافي" يستأثر بمعظم وقتي، والمشروع الثقافي الذي أسعى الى ابتكاره ووضع أسسه هو أفضل قصيدة "هادفة" يمكن لي كتابتها. عندما زارنا الشاعر سعيد عقل قال: "حاكمكم كتب أجمل قصيدة اسمها أبو ظبي. حاكمكم شاعر". المقصود أن الشعر يتخذ في بعض الاحيان أشكالاً مختلفة، من صلب الحياة وصميم المعيوش... وحين نرى ان كلمة شاعر تطلق جزافاً على أشخاص تتفاوت بينهم درجة الاهمية الادبية والموهبة بشكل مدهش، أتساءل هل اللقب الاقرب الى نفسي هو شاعر أم عاشق؟ تعكس دواوينك نموذجاً خاصاً من الشعر النبطي يمكن أن نعتبره ممثلاً لحساسية جديدة، ومعبراً عن جيل الشباب، خاصة اذا قسناه بشعر بن لعبون مثلاً أو بالمدرسة النبطية القديمة. بالمقارنة مع الشعر باللهجة المحلية في دول خليجية أخرى، أين تكمن الخاصية الاماراتية؟ - عندما نتكلم على الشعر النبطي، التسمية التي أفضلها هي الشعر باللغة المحكية، ولا أرتاح الى مصطلح نبط. فالنبط هو القصيد، هو الفولكلور الذي قيل سابقاً، أما الشعر المحكي فخروج عن القوالب الجاهزة واعطاء بعد جديد للقصيدة بعد أن تخلصت من أسرها. نحن نكتب القصيدة المحكية كما سعيد عقل، ميشال طراد وطلال حيدر في لبنان. لكنني لا أريد تحديد الشعر من خلال فرض معيار واحد أو شكل ونموذج معينين يتقدمان على الاشكال والنماذج الاخرى. الشعر هو الشعر. فعندما أقرأ "الارجوحة" لمحمد الماغوط، أجدها شعراً أكثر مما هي رواية، وكذلك حين أرى فيلم "ران" للمخرج الياباني أكيرا كوروساوا"... إذ أن الشعر فيه من صلب البنية السينمائية. لا أميل اذاً الى فرض قوانين على الشعر، كما أنني لا أميل الى تحطيم المعايير. كل ما أسعى اليه هو فضاء أرحب للكلمة، ومساحات بكر مسكونة بالغرابة والاكتشاف ومتعة السفر. قصائد تُلمس باليد ... أما بالنسبة الى التجارب الشعرية في دول الخليج، فيجمع بينها قواسم مشتركة عدة. وخصوصية هذا الشعر تكمن في مصادره. كلنا نهل من المعين نفسه: بن ظاهر، بن عتيد، بن لعبون أو الفيحاني... هؤلاء أنبتتهم شبه الجزيرة العربية، وأعطوا أدباً يحتاج الى الكثير من البحث. لا بد من الغوص في العالم الذي كان يعيشه هؤلاء الشعراء، لمعرفة خلفيات ما نراه اليوم من تصوير تلفزيوني أو كتابات عن الغوص لا تتعدّى السطح. أشعار بن عتيد مثلاً هي القلب، والتفاصيل التي تنطوي عليها نشعر بأن روائح تتصاعد منها وتنبعث منها أصوات، حتى ليكاد المرء أن يلمس الماضي بيده. الشعر ديوان العرب. ومن الطبيعي القول إننا أخذنا هذا الشعر وأضفنا عليه، قراءاتنا للشعر العربي الفصيح وللشعر الغربي، واطلاعنا على كل التجارب التي اتيحت لنا كجيل شعراء شباب. يطرح الشعر المكتوب باللهجة المحلية، بشكل أو بآخر، مأزق الشعر الحديث في دولة الامارات. فالمفارقة الاساسية هي أن "الصوت المحكي التقليدي" ما زال يملك قدرة على الانتشار أكثر من "النص الحديث المكتوب". كما أن حرية النص التي تلامس الاباحية أحياناً، متاحة أكثر للنص النبطي... هل المعضلة تكمن في الشعر نفسه أم في الشعراء، أم في الواقع الثقافي والاجتماعي العام الذي لا يزال بعيداً عن دائرة الحداثة؟ وما دور الرقابة؟ من يحدد معاييرها؟ أي مسؤولية يتحملها "اتحاد الكتّاب" حيث يضطر شعراء الى اصدار نتاجاتهم في الخارج هرباً من القيود والممنوعات؟ - يعاني الوطن العربي من أزمة جوهرية لا يمكن تجاهلها، بالمقارنة مع أمم أخرى. وتشهد مجتمعاتنا برأيي حالة انهيار، من اعراضها "الرقابة". وعلى وزارات الاعلام أن تتصدّى لهذه القضية، وتضع تصوراً يتناسب مع مقتضيات القرن المقبل. صحيح أن هناك نزعات مبالغة في استغلال الحرية قد لا تتناسب مع تقاليدنا، لكنني ضد مصادرة الكتب، ومع طرح المسألة بشكل واضح. الرقابة والطريق المسدود فوسائل الاتصالات التقنية المتطورة بات بوسعها ايصال الفيلم والخبر والصورة الى كل بيت قبل أن نقرأها في صحفنا. لذا أربط مسألة الرقابة بأزمة المنطقة، وبالتالي بأزمة التربية والتعليم. هناك حاجة ماسة اليوم الى وضع سياسة تعليمية جديدة، غايتها بناء أسرة مترابطة، محصنة، وقادرة في الآن نفسه على مواكبة العصر القادم. لذا يحق لنا جميعاً أن نسأل: الى أين تتجه وزارات الاعلام في أجهزتها الرقابية؟ أما ما ينشر من شعر حديث ومن نصوص لمئات الاسماء ممن يطلق عليهم شعراء التسعينات، فينتمي الى مرحلة اختبارية: إما أن تبقى بعض أسماء من هذا الجيل وتفرض نفسها، وإمّا أن تطمسها الايام. أما الشعر النبطي فقد بدأ هضمه منذ زمن طويل، وهذا ليس تحيزاً للشعر الشعبي بل مجرد رأي. فهو لم يدون رغم امتداده الى العصور السابقة للاسلام وأغفل تماماً حتى فترة قريبة. ثم ظهر الاهتمام به أخيراً، واكتشف الباحثون أننا نملك ثروة هائلة لم يكتب لها التدوين. وعلى الرغم من عمره القصير نسبياً، فرض الشعر المحكي وجوده، وأرى مجال التجديد فيه أكبر من الفصحى، لأنه أكثر صدقاً ورشاقة. لكنني لا أعير اهتماماً للكلام عن الممنوعات والقيود المفروضة على الشعراء... فهذا المنطق يهدف الى التغطية على مأزق الانتاج. أفكر هنا في نصوص عديدة على درجة مدهشة من الجرأة والحرية. وهناك بعض الاحيان اباحية مسرفة غير متوفرة في الشعر المحكي، وأنا لا أسميها "اباحية" على كل حال، فهي فُرّغت غالباً من معناها الحصري ومدلولاتها المباشرة، ضمن لعبة جمالية تفضي الى حقول تأويل أخرى... وهناك برأيي أسباب كثيرة للازمة، منها المقاييس والمعايير الجديدة التي طرأت علينا وأسميها مستوردة، ناهيك عن كونها وصلتنا متأخرة في حين أن الموضة تغيرت والمحاولات تفرّعت في الشعر الغربي. وعلى صعيد "اتحاد الكتاب" فقد مرّ في مراحل هبوط وصعود، ولا يجوز لنا أن نطلق أحكاماً اجمالية. فمع أنني لست من المتحمسين لاتحادات الكتاب في العالم، ولا تشغلني السجالات الجانبية، أدعو دوماً الى الحكم على المؤسسات والافراد حسب الانجازات. ولذا اعتز جداً بما حققه "اتحاد الكتاب" في دولة الامارات من نشاطات واصدارات. علمنا بزيارة للشاعر طلال حيدر والفنان مارسيل خليفة. فهل هناك مشاريع ثقافية جديدة في الافق... خاصة أننا وقعنا في السوق على شريطي كاسيت يتضمنان قصائد ملحنة تحمل توقيعك؟ - هناك مشروع مع الشاعر طلال حيدر لوضع قصيدة مشتركة باللهجة المحلية الاماراتيةواللبنانية. أما مع الفنان خليفة فنفكر بتلحين عمل مشترك، وهناك عمل كورالي جاهز للتسجيل نأمل طرحه في العيد الوطني وهو قصيدة مهداة الى الشيخ زايد سيؤديها أحد الفنانين السعوديين، وهي من الحان كل من خالد الشيخ ومصطفى ناجي. يرى البعض هنا أن طموحاتكم العربية وانفتاحكم على العالم عبر تنظيم فعاليات ضخمة واستضافة رموز ثقافية بارزة، أكبر من طاقة البلاد على الاستيعاب... بينما يعتبر البعض الآخر أن "المجمّع الثقافي" بات مؤسسة تقليدية أبوابها موصدة في وجه الطاقات الجديدة، وسياستها تسقط من الحساب ضرورة اتاحة الفرصة للمثقفين المحليين... - أجد أن الموازنة التي ترصدها دولة الامارات للثقافة، قياساً بلدول الشقيقة في "مجلس التعاون"، تجعل منها دولة متقدمة على الصعيد العربي. بدأنا نحتل موقعاً رائداً، وأعتقد أن السنوات المقبلة ستحمل اضافات جديدة للمشروع الثقافي بشكل عام على مستوى الدولة. فإلى جانب المؤسسات الثقافية الموجودة ك "جائزة سلطان العويس"، "المجمّع الثقافي"، "ندوة الثقافة والعلوم"، و"الدائرة الثقافية"، هناك مشاريع جديدة ستولد. أذكر منها مثلاً دراسة ل "متحف الفن الاسلامي" في أبو ظبي، و"القبة السماوية" في جزيرة اللؤلؤ، إضافة الى مشروع السياسة التعليمية... وأعتز بأن الامارات هي الدولة الوحيدة في العالم العربي، التي طرحت قضية السياسة التعليمية بعد الاحداث الاليمة في المنطقة. ليس تقصيراً ولكن... تتمتع الحياة الثقافية في الامارات بمناخ من الحرية والليبرالية، وبتعدد الآفاق والمتنفسات. فاضافة الى القنوات الفضائية، يقدم المجمّع أفلاماً وعروض باليه، كما اشترينا وحدة انتاج جديدة وسنبدأ بانتاج برامجنا وتوزيعها، غير مكتفين بأن نكون محطة استقبال، إذ أصبح لدينا زخم من الفعاليات وبات بوسعنا توثيق كل الاحداث وايصالها الى العالم. رسّخنا "معرض الكتاب الدولي" كتقليد دائم، وأوجدنا مسرحاً وعروضاً متواصلة للافلام، الى جانب الجائزة العربية لافلام فيديو الهواة، وأصدر قسم النشر لدينا هذا العام عشرين كتاباً، اضافة الى عدد مماثل سيصدر قريباً. واذا أقرّ مجلس الامناء مشروعنا فإن المجمّع قادر على أن تصل اصداراته الى مئة كتاب في العام 1995. ونواصل حالياً مد الجسور مع سفارات العالم التي تتنافس في تقديم برامجها الثقافية عندنا. وبات لنا وجود ابتداء من هذا العام في معارض بيروت والقاهرة وفرانكفورت. كما أن لدينا ارتباطات ك "مجمّع ثقافي" مع مؤسسات عالمية مثل "مركز بومبيدو" في باريس، و"المركز الثقافي" في طوكيو، ومع الاونيسكو... فلماذا تؤخذ علينا الاسماء الكبيرة التي نستضيفها من الخارج؟ إن المؤسسات الموجودة تكمّل بعضها، وهناك من يهتم بالنشاطات المحلية، فلماذا لا يترك لنا أن نتولّى اعطاء المشروع الثقافي بعديه العربي والعالمي؟ سياستنا لا تشكو من تقصير واهمال للداخل، انما لكل جهة دورها ومشروعها. نحن نشجع الحركة المحلية، ولكن علينا أن نكون صادقين: الامارات دولة صغيرة فكم لدينا من الشعراء وكتاب القصة؟ إن استضافة شاعر عربي أمر مفروغ منه! أنا مع النظرة الايجابية الى الامور، حاولت احتضان الكثير من الشبان ولا أزال. قد نختلف في الافكار والفلسفة، الا أن المجمّع كان دوماً مفتوحاً للجميع ولكل من يريد ان يعمل ويبني. أما الذين يتّهمون المجمّع أنه أصبح "مؤسسة تقليدية"، فأنا لا أفهم تماماً معنى التهمة: هل كل ما أشرنا اليه من النشاطات يدخل في سياق "التقليديّة"؟ أصبحنا اليوم مؤسسة ثقافية خطيرة، ولم نعد بيتاً ثقافياً صغيراً، على الجميع أن يفهم هذه المعادلة ويتكيّف معها!