ضم العدد الثالث والثلاثون من مجلة الرافد الإماراتية ملفاً خاصاً عن الشعر الجديد في الإمارات، عمل على إعداده الباحث حسن مدن، رئيس قسم الدراسات والبحوث في دائرة الثقافة والاعلام في الشارقة، وعضو هيئة التحرير. وفي معرض تقديمه للملف، أشار مدن الى انه من الصعوبة الاحاطة بكل تفاصيل المشهد الشعري الجديد في الإمارات، وإن هذا الملف لا يقدّم أكثر من جانب، أو في أحسن الأحوال بعض جوانب المشهد الشعري في الامارات. وهو يندرج في اطار سعي مجلة "الرافد" للاهتمام بالحركة الابداعية في دولة الامارات عبر الحرص على تقصّي تكونات هذه الحياة وعناصرها، ثم تقديمها للقارئ في ملفات أو دراسات نظرية وتطبيقية حول المنتجة الابداعية المحلية.. وتضمن الملف ست دراسات نقدية، ومجموعة من الشهادات اضافة الى النصوص المنتقاة لبعض الشعراء. وقدّم الشاعر اللبناني أحمد فرحات قراءة مستفيضة في المشهد الشعري تحت عنوان: "بعض اطلالة على الشعر في الامارات" قارن خلالها الشعر الاماراتي الراهن بالتجارب الشعرية العربية التي ما زالت تطفح بالكثير من التنوّع في أساليبها ومضامينها، بدءاً من القصيدة البيتية مروراً بقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، ثم النص المفتوح. ولم يخفِ الشاعر فرحات في دراسته أثر الشعراء المتقدمين من أمثال محمد الماغوط وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا وغيرهم في الكتابة الشعرية الجديدة سواء في شعراء الامارات أو أقرانهم العرب، بل انه ذهب الى نحو أبعد عندما أشار الى تأثر هؤلاء جميعاً بالتجارب الشعرية العالمية المترجمة، مؤكداً على التفاعل الحضاري والثقافي. أما في صدد تقييمه الشعراء فإنه اعتبر الشاعر حبيب الصايغ من الشعراء الذين نجحوا في "تقديم بنية لغوية شعرية متميزة وعبر الأشكال كافة: الوزنية التقليدية، قصيدة التفعيلة، وقصيدة النثر..". وأيد فرحات الرأي القائل بأن حبيب الصايغ هو "الأب الشرعي للقصيدة الاماراتية الحديثة"، والى ذلك فإنه قال وبجرأة أكبر، بأن بعض التجارب الشعرية في الامارات "جاوزت قطبية المراجع الشعرية الحديثة، وكذلك توليفة التأثر بالترجمات الشعرية على مستوى عالمي، وحفرت لنفسها خطاً شعرياً يحاصرنا بقوة التميز الابداعي.." وكان من جملة من أشار اليهم في هذا الصدد: عبدالعزيز جاسم، أحمد راشد ثاني، ثاني السويدي، خالد بدر، عادل خزام، ميسون صقر القاسمي، ابراهيم الملاّ، نجوم الغانم، وخالد الراشد.. أما الشاعر عادل خزام فإنه قام برصد تاريخي موجز للحركة الشعرية في الإمارات خلال القرن العشرين منوّهاً بأهمية الشعراء الرواد ما قبل التعليم النظامي، ثم العشراء الذين تعلّموا في البلاد العربية، وتأثروا بتجارب الحداثة هناك من مثل الشعراء أحمد أمين المدني، مانع سعيد العتيبة وعارف الشيخ، ومن ثمّ لتنفرز الساحة الشعرية الى تيارين شعريين أحدهما محافظ على الوزن والتفعيلة، وآخر مجدد بدأ مع كتابات ظبية خميس وعارف الخاجة وسائر الأسماء التي تعرضنا لها من قبل. ورأى خزام في معرض تناوله الأصوات الشعرية الجديدة، أن إنجازات تجربة الامارات على مستوى النص تعد جديدة بالتوقف والملاحظة والرصد، "فهناك قصائد نثر متجاوزة ومتطورة في شكل لافت في بنائها المعماري والمعرفي، وفي اعتمادها على اجتراح الصور المبتكرة.. وهناك نصوص منشغلة بالبعد الملحمي والرمزي الأسطوري..". ثم قيّم الشاعر تجارب بعض زملائه كإبراهيم الملاّ والهنوف محمد معتبراً تجربتيهما من التجارب المهمة التي برزت خلال عقد التسعينات.. أما الكاتب السوري هيثم يحيى الخواجة، فإنه قدّم وصفاً بانورامياً للشعر الجديد في الامارات، رابطاً بين خصوصية التجربة الشعرية، وما تطمح اليه من أبعاد دلالية، بينما قدّم الناقد السوداني يوسف عيدالي كتابة نصية لا تخلو من الشاعرية المتميزة على مجموعة الشاعرة ظبية خميس "تلف"، ثمّ نوّه في الهوامش قائلاً: "وباعتبار الشعر حياة متجددة ورسالة، وهو أمر تعنى به الشاعرة التي أتت الى الحداثة من أبواب الجديد المدني العصري.. فإن القراءة الأخرى قائمة بين أسطر المجموعة وهي الأقرب الى العين والعقل..". وكتبت الناقدة التونسية ريم العيساوي عن "جدلية النور والظلام" في مجموعة صالحة غابش الشعرية "المرايا ليست هي"، بينما قدّم الدكتور رمضان بسطاويسي محمّد قراءة في ديوان الشاعر علي أبو القاسم "وأمضي"، وأكد في مطلع قراءته على أن صورة المشهد الشعري في الإمارات تبعث على التفاؤل، نظراً الى تنامي هذا المشهد واتساعه بالرؤى والتجارب الجمالية. ومن المفيد في هذا السياق أن نتوقف عند بعض الشهادات التي قدمها الشعراء، كأن يقول الشاعر خالد بدر: "في الامارات وجدنا أنفسنا نشارك في اتجاه قصيدة النثر كل حسب تجربته ومذاقه، وبالنسبة لي احتاج الأمر الى سنوات أمارس الكتابة بالنثر، ووجدت نفسي أبحث عن صوت خاص بين مجموع التجارب والأشكال.. انني أنتمي الى الشعر أياً كان شكله، الأساس أن يكون شعراً، ويحرك فينا الروح..". أما الشاعرة نجوم الغانم التي بدأت بكتابة الشعر منذ منتصف الثمانينات، فإنها اعتبرت تجربتها الشعرية تمايزت مع صدور مجموعتها "رواحل"، وأكدت على أن الشعر بالنسبة لها "يتحوّل الى معنى روحي"، ليس فقط بمعنى اللغة والكتابة، وإنما في العلاقة مع الأشياء والتفاعل معها..". وفي الوقت الذي احتجّت الشاعرة صالحة غابش على قصيدة النثر وما قامت به من تدمير لبنية القصيدة العربية الموزونة، وإقصاء لحميمية البعد التراثي، فإن الشاعرة الواعدة خلود المعلا قدّمت شهادة مفعمة بالنبل والشاعرية قالت فيها: "أكتب القصيدة، فانفصل عن أنوثتي المرئية وأدخل في ذاتي الأخرى، استلهم القوة من نبع لا ينضب، وبعيداً عن الرائحة المزروعة حولي، اخترت الطريق الى الجبل الأعلى.. القيد ضدي، والوقت ضد القصيدة، لكن الذات أكبر والحياة أجمل وأعمق من أنثى وعشيرة..". وعلى طريقته الخاصة في الكتابة، قدّم الشاعر "عبدالله محمد السبب" شهادته في شكل نص مفتوح تراوحت لغته بين الانشاد الشعري الترنّمي الذي يمتاز به، والكتابة النثرية التي لا تخلو بدورها من الشاعرية والمفارقة اللغوية، وجاء فيها: "في البدء، ومنذ انطلاق أول شرارة لغوية.. يأتي الشعر، كأول المتحدثين عن أنفسهم.. عن خباياهم وخلاياهم، وخيالاتهم التي لا تخطر على بال أحد، ولا تريد بالاً لأحد.. الشعر ثمانية عشر بحراً وموجة، وحكاية كفيلة باندلاع الحبر، واندلاق الحيرة، وانطلاق كتائب الأحلام، وكتب الأملاح، وعروق الرماح، وعراقة العراقيل، وعرق سبع كرات أرضية.. للشعر أربعون باباً، وأربع نوافذ وثقب إبرة.. وأنا.. من أنا؟". أما النصوص الشعرية في الملف، فإنها كانت قليلة نسبياً، ولا تغطي إلا جزءاً محدوداً من الشعراء، ونحن في الحقيقة لم نفهم سبب هذا الغياب، على رغم الدعوات المتكررة من هيئة تحرير المجلة. وعلى العموم قدم الشاعر أحمد راشد ثاني نصاً من مجموعته التي لم تصدر بعد عنوانه "من خلال الأبواب" عبّر من خلاله عن استمرار انتمائه الى عوالم قصيدة النثر التي تنفتح على ممكنات اللغة في نبش خبايا النفس الانسانية بمزيد من التفاصيل. ومن التجارب الشعرية الواعدة ضم الملف نصين جديدين لكل من هاشم المعلّم، وأحمد عيسى العسم، وأعتقد أن هذين الشاعرين، سيكون لهما دور أكيد في المشهد الشعري. أما خلود المعلاّ، التي انشغلت الى أبعد حد بتقديم نفسها للعالم عبر مطلقية الحلم في الخلاص من بلاغة قديمة، وإرث خطابي يمعن في تشويه صورة المرأة، فإنها بدورها قدّمت نصاً تميّز بشفافيته وبلغته الاشارية التي تنبض حباً: "فتحته/ انهمر وجهك فيه/ حالك حالي/ في بحرك السواحل تغفو/ ولا شراع/ أظهر محمّلة بك/ لوجدك../ فاطلع في أضلعي/ عدّ نقاطي/ وأقم القرب في قلبي قم../ ولا تتب". ويبقى في الختام أن نتوقف عند نص الشاعر المخضرم كريم معتوق الذي وجّه رسالة "الى الوزير ابن زيدون قبل الوزارة"، مستلهماً من خلال هذه اللحظة معاني ودلالات كثيرة، ترتبط بالواقع السياسي العربي المعاصر: "فمك الذي امتشق السكوت/ جذلان آثر أن يموت/ من غير أن تدري يد الجاني/ بأنك كنت تلقاني/ وانك آخر من تباركه البيوت.. تطوف الأرض/ ان الشام واسعة/ وإن الأرض مطاطة/ وفي بيروت/ ألف منارة../ بيروت كنت تظنها يوماً كغرناطة/ ستسقط/ ليتك كنت تعرف ما/ يخبئه الجنوب..". والقصيد طويلة، وهي كما لاحظنا تنضح بالهمّ العربي، وتنمّ عن وعي وإحساس سياسيين يتميز بهما الشاعر عن أقرانه. وفي الوقت نفسه تنمّ أيضاً عن تمكّن الشاعر من تطويع اللغة وسكبها في قالب فنّي غني بسردية درامية، قد تنحو منحى تراجيدياً، ولكنها سرعان ما تعود الى لحظتها الناضحة بالأمل لرد الاعتبار لهذه الأمة.. "لا يضر بأن نموت/ يوماً ببرد رصاصة/ أو دفء أغنية الى يافا/ ترددها العجائز في البيوت/ أو تعلّقها الحواري/ لم يعد في الأرض منفى/ يا أبا ذرّ الغفاري/ ما لنا من ربذة غيرك في الربذة..". وعلى رغم غياب أسماء كثيرة بارزة في الساحة الأدبية، فإن الملف تمكّن من تقديم مادة غنية و متنوعة، عرّفت بالشعر الإماراتي الجديد، على أمل أن تواصل مجلة "الرافد" تقديمها للتجارب الابداعية الاماراتية الى الساحة الثقافية العربية.