التلفزيون مملكة مفتاحها المال. من يلجها يقطف ثمار السلطة دون أن ينوء بثقل الصولجان. يحرك الخيوط ويوزع الأدوار بال "ريموت كونترول". يملي على الرؤوس الكبيرة والصغيرة خيالاتها ويزرع في عالمها الداخلي أحلام الليل والنهار. وإذا أسال كرسي الحكم لعابه، صعد اليه بخطى واثقة، ولو اتكأ من تعب الطريق على أحفاد "الدوتشي". التلفزيون متسلل فذ، لا أبواب موصدة دونه بعدما صار الفضاء ملعباً للأقمار الاصطناعية، فكيف يُسيّج العرب سماءهم وهي المشرعة أبداً؟ وهل نملك أن ندخل متاهة اسمها المنافسة التلفزيونية، أو نبقى متفرجين والنزال الشرس يدور في ساحاتنا بين الغرباء؟ العرب مولعون بموجات الأثير ليس لأنها تنتسب الى العائلة الرومانسية - ومن غير الشعراء أهل لتعاطي لغة الهيام؟ كلهم يريدون اللحاق بالركب واستعمال مفردات بيرلوسكوني وميردوخ... والوصول الى العالم وأبنائهم المغتربين. لكن، كيف والطريق الى هؤلاء يزدحم بذوي الوزن الثقيل؟ هذه، وأسئلة أخرى، جالت بها "الوسط" على محطات عربية وعالمية لتُعد التحقيق الآتي عن التلفزيون وحروبه المعلنة والسرية. هل يتحول فضاء الشرق الأوسط وشمال افريقيا الى ساحة صراع ثقافي عن طريق البث التلفزيوني؟ هذا السؤال بدأ يطرح في كل المحافل العربية وعلى كل الصعد بعدما تكاثر عدد الأقنية التلفزيونية الأجنبية والعربية التي تبث بواسطة الأقمار الاصطناعية من دون حسيب أو رقيب، وبدأت تهدد، حسب بعض المراقبين، "الذوق" العربي ان لم نقل التراث والتقاليد والثقافة و... فبعدما كان الوضع في البداية متوقفاً على شبكة التلفزيون الأميركية "سي. ان. ان" التي تبث الاخبار بواسطة الأقمار الاصطناعية على مدى 24 ساعة، وسعت شركة "ان. بي. سي" الأميركية أيضاً بيكار نشاطها وبدأت تبث هي الأخرى خارج الولاياتالمتحدة الى كل أنحاء العالم، ثم جاءت شبكة التلفزيون البريطانية "سكاي" التي أسسها الملياردير الاسترالي روبرت مردوخ بأقنيتها المتعددة والمتخصصة لتزيد الوضع منافسة، حيث توسع معها بث الأقنية التلفزيونية الأوروبية الأخرى: من فرنسا الى المانيا الى ايطاليا الى هولندا، حتى ان هيئة الاذاعة البريطانية "بي. بي. سي" تستعد حالياً لانشاء شركة تلفزيونية باللغة العربية تبث أقنيتها بالأقمار الاصطناعية. في المقابل، انشأ بعض رجال الأعمال السعوديين شبكة تلفزيون عربية خاصة في لندن دعوها "مركز تلفزيون الشرق الأوسط" وأخذت تبث هي الأخرى الى العالم العربي وأوروبا وأخيراً أميركا بواسطة الأقمار الاصطناعية حيث نجحت في استقطاب مشاهدين كثيرين كما فازت بعقود اعلانية كبيرة، ثم تبعها التلفزيون المصري فوسّع بثه عن طريق الأقمار الاصطناعية ليصل الى العالم العربي وأوروبا ثم كرّت السبحة لتشمل تلفزيونات أبو ظبي ودبيوتونس، ويستعد لبنان حالياً، الذي يشهد صراعاً داخلياً حول الاعلام، للبدء بتوسيع بثه التلفزيوني عن طريق الأقمار الاصطناعية الى العالم الخارجي. ولكن السؤال هنا: لماذا هذا "المطر" الغزير من البث التلفزيوني الأجنبي الى فضاء الشرق الأوسط وشمال افريقيا؟ هل هو غزو ثقافي للتأثير السياسي؟ أم انه هدف تجاري؟ وبالتالي كيف ينظر المسؤولون في التلفزيونات العربية الى هذه القضية؟ البث الوافد من الغرب المكانة التي يحتلها الشرق الأوسط على الخارطة العالمية تجعله موضع اهتمام الاعلام الأجنبي بأنواعه وهوياته المختلفة. وشبكة ال "سي. ان. ان" ليست استثناء لهذه "القاعدة"، فنائب رئيس محطتها العالمية بيتر فاسي يقول: "سوف نستمر في تغطيتنا المتميزة لأحداث المنطقة من خلال مكاتبنا المنتشرة هناك. كما اننا نهتم بالنقل الحي للوقائع البارزة مثلما فعلنا في مناسبات مهمة منها حرب الخليج وتوقيع الاتفاق الفلسطيني - الاسرائيلي. وباختصار، نحن نولي الشرق الأوسط أهمية خاصة نظراً الى موقع المنطقة على الصعيد الدولي". لكن ماذا عن البث باللغة العربية يكون ترجمة عملية لهذا الاهتمام؟ قال: "نحن نفاوض عدداً من الدول العربية منذ سنتين، إلا أننا لم نتوصل بعد الى نتائج عملية". فالمشاريع التي يفكر بها الطرفان تحتاج الى امكانات كبيرة توجب دراستها بعناية وتأن كبيرين. إلا أنه لا يستبعد "تقديم خدمة اخبارية بالعربية للشرق الأوسط". وبانتظار اتخاذ قرار في هذا الشأن، "يستمر تعاوننا مع محطات تلفزة عربية بدأت تزودنا بعض برامجها منذ وقت طويل". وشبكة "سي. ان. ان" لا تخشى المحطات الجديدة التي سيصل بثها قريباً الى العالم العربي "لسببين، أولاً حرصنا الدائم على تقديم مواد تحظى بإعجاب جمهورنا، انطلاقاً من قناعتنا أن لكل تلفزيون سوقه ومشاهديه اللذين تنبغي المحافظة عليهما". وثانياً ان برامج الشبكة الأميركية قد تصل الى المنطقة باللغة العربية "بقصد تعزيز مكانتنا هناك واستقطاب مزيد من المشاهدين". ولئن كانت ال "سي. ان. ان" ما تزال تفكر في الولوج الى العالم العربي بلغته، فتلفزيون "بي. بي. سي" البريطاني العالمي قطع مشواراً طويلاً على طريق الاعداد لقناته العربية التي تتأهب للشروع بالبث قريباً. وقال مدير عام محطة التلفزيون البريطاني العالمية كريس ايرون ل "الوسط": "ان المنافسة ظاهرة صحية وهي لا تقلقنا، فنحن استطعنا استقطاب حوالي 45 مليون مشاهد في الشرق الأوسط وآسيا وافريقيا بعد انطلاقتنا ب 15 شهراً، حسب دراسة أجريت حينذاك". وهل يعني ذلك ان القناة العربية ستحظى بإقبال مماثل؟ لم يتردد ايرون في التعبير عن اطمئنانه الى أن هيئة الاذاعة والتلفزيون البريطانية التي فاز أداؤها بإعجاب الملايين قادرة على تقديم خدمة تلفزيونية عربية متميزة تنال رضى سكان المنطقة. وأضاف: "القناة العربية ستستفيد من الخبرة التي اكتسبها القسم العربي في هيئة الاذاعة البريطانية خلال سنواته الطويلة، وستكون لها مرافقها وبرامجها الخاصة التي نأمل أن نبثها في المستقبل على مدى 24 ساعة". أما مدير مركز تلفزيون الشرق الأوسط أم. بي. سي علي الحديثي فلا يهاب المنافسة التي ستدفعه الى "تقديم الأجود"، مع انه يعتقد "أن الكثير من المحطات الجديدة لن تعيش طويلاً بسبب التسابق على اقتسام الكعكة الاعلانية، اذ تكاد الموازنة الاعلانية العربية والخليجية تكون الأقل في العالم". وساق الحديثي مثالاً يوضح ملاحظته هذه، فقال: "نصيب الخليجي من موازنات شركات الاعلان هو حوالي 11 دولاراً فقط، فيما يُخصص للسويسري 180 دولاراً وللأميركي مبلغ أكبر بقليل". ويعزو مدير عام مركز تلفزيون الشرق الأوسط هذا التفاوت الى أسباب عدة أهمها تدني الوعي الاعلاني لدى العربي بالمقارنة مع الغربي، وتكريس الشركات الأجنبية موازنة كبيرة للدعاية والترويج اللذين توليهما عناية فائقة. وإذا كان يعتقد أن عمر المحطات الجديدة قصير، فأي مستقبل ينتظر التلفزيونات العربية المحلية، في رأيه؟ قال: "لا بد أن تتأثر بالتطورات التي يشهدها الاعلام المرئي، ويجدر بها أن تغير أساليبها وتجدد شبابها اذا رغبت بالاستمرار". وكيف يعتزم تلفزيون الشرق الأوسط ترجمة هذا التصور الى اجراءات عملية؟ أجاب الحديثي: "ندرس حالياً سبل تطوير برامجنا، وزيادة ساعات البث، وانشاء ثلاث محطات متخصصة نأمل أن تبدأ تقديم الأفلام وبرامج الأسرة والرياضة أواخر العام الجاري". أهل العلم والاختصاص لكن ماذا يعني نفاذ البث التلفزيوني الأجنبي الى البيت العربي، وهل ينبغي بالمشاهد أن يتعاطى معه بحذر أو أن يطمئن اليه؟ آراء أهل العلم والاختصاص الذين تحدثت اليهم "الوسط" عن هذا الوافد الغريب تباينت، فهو ضيف جدير بالترحيب أو "شر" يجب اتقاؤه. ومن أصحاب الرأي الأخير الذين ينظرون شزراً للبث الأجنبي رئيس قسم الاجتماع في جامعة المنيا المصرية الدكتور عبدالهادي الجوهري الذي يحمل على الاعلام الغربي بوصفه يمثل "غزواً فكرياً يستهدف طمس الهوية الاجتماعية والسياسية للشباب العرب ليضفي على سلوكهم استهلاكية وإباحية تنسجم مع الحياة الغربية وتتناقض مع القيم والتقاليد العربية". وهذا "الغزو" هو "أميركي ثقافي" في رأي مدير عام التلفزيون اللبناني فؤاد نعيم الذي يلاحظ هيمنة "الدولة العظمى الوحيدة" في العالم على البث التلفزيوني الأجنبي "سواء في المجال الاخباري أو السينمائي..." على رغم اقتناعه بأن لهذا البث ايجابياته التي يأتي في مقدمتها "غياب الاعلام الموجه ... وتحول العالم الى قرية كونية تتمتع بقسط أكبر من الديموقراطية والتحرر". إلا أن وضعاً كهذا يجعل من الانغلاق على الذات وسيلة عقيمة للتعاطي مع الاعلام الوافد، كما يقول الباحث الاماراتي راشد محمد راشد الذي يلاحظ ان "وكالات الأنباء ... والاذاعات الموجهة" التي تبث أخباراً مغرضة لم تستطع الحد من "النهوض الوطني في مراحل حساسة". ويؤكد أن الخوف من تأثير البث التلفزيوني الأجنبي على قيمنا ومواطنينا في غير محله فنحن لسنا "أمة جاهلة ... والرياح لا تقوض الا الأبنية المتداعية". ويتساءل الباحث الاجتماعي: "لماذا لا نعزز تلفزيوناتنا ونؤهلها للمنافسة بدلاً من خشية البث الآتي عبر الأقمار الاصطناعية؟". الموقف الوسط وفيما تكثر الآراء وتتعدد بين راغب بفتح الباب على مصراعيه أمام البث الوافد ومعارض ل "الغزو" التلفزيوني، لا يزال هناك متسع لموقف وسط يقوم على التمييز بين الغث والسمين مما يُبث عبر الأقمار الاصطناعية. والحجة المنطقية التي تبرز هذا الموقف تكمن في الحاجة الى التخلص من الفوضى السائدة في عالم الصحافة المرئية وأجهزة استقبالها في غير بلد عربي. فالسعودية، مثلاً، كانت تعاني من عدم تنظيم عملية تداول وصنع أطباق الاستقبال التي وصل سوقها السنة الماضية الى ما يزيد على 500 مليون ريال. وأدى هذا التسيّب في حالات كثيرة الى بيع أجهزة غير صالحة للاستخدام في السعودية دون تحذير الشاري. كما تسبب أيضاً في فقدان بعض أقنية القطاع الخاص جزءاً من عائداته، اذ استطاع مواطنون أن يستقبلوا بث تلك المحطات التلفزيونية من غير أن يدفعوا شيئاً لقاء ذلك. إلا أن فوضى السوق التلفزيونية ستصبح في ذمة الماضي، اذ صدر قرار حكومي ينظّم عملية استقبال البث الخارجي وتداول أجهزة الاستقبال في المملكة التي يصلها بث ما يزيد على 70 قناة فضائية بينها 18 محطة عربية. لبنان: فوضى العام والخاص أما لبنان، الذي يزدحم بحوالي 50 محطة تلفزيونية أقامتها جهات عدة أيام الحرب دون أن تتكبد عناء الحصول على الاجازة القانونية، فلا يزال بانتظار تعديل مرسوم مشابه من شأنه أن يضع حداً للفلتان التلفزيوني في بلد "لا يحتمل سوقه الاعلاني سوى ثلاثة تلفزيونات"، على حد تعبير مدير عام تلفزيون "المستقبل" علي جابر. غير أن التعديل المرجو أثار جدلاً واسعاً لا يزال صداه يتردد في الأوساط الاعلامية اللبنانية. اذ كان موضوع المرسوم والتعديل اللذين يرميان الى ضبط عملية استئجار قنوات البث والاستقبال التلفزيوني عبر الأقمار الاصطناعية، محط خلاف بين مؤيدين رأوا فيه معالجة ناجعة للفوضى الراهنة ومعارضين، أبرزهم "المؤسسة اللبنانية للارسال" LBC، قالوا انه يحكم قبضة جهة معينة دون سواها على البث الفضائي. وهذه الجهة التي تعرضت لحملة انتقادات شديدة شنتها ال LBC هي رئيس الحكومة رفيق الحريري الذي يملك حصة الأسد في شركتي التلفزيون المنافستين للمؤسسة اللبنانية على الأقنية الفضائية. فهو صاحب تلفزيون "المستقبل" ومالك 50 في المئة من أسهم التلفزيون اللبناني الحكومي. غير أن الحريري بادر الى اتخاذ خطوات عملية جاءت رداً على الحملة التي استهدفته وتفنيداً للتهمة الموجهة اليه بالسعي الى احتكار البث الفضائي اللبناني. اذ وعد رئيس الحكومة بحصر البث الفضائي بالتلفزيون اللبناني الرسمي، ومنحه احدى أقنية عربسات الثلاث التي اشتراها تلفزيون "المستقبل". واضافة الى ذلك، لم يسمح ل "المستقبل" ببدء بثه الفضائي الذي كان مقرراً أن يبدأ 25 كانون الثاني يناير من العام الحالي. لكن هذه القرارات لم تكفِ لتهدئة الوضع، بل لا يزال الصراع مستمراً في اطار منافسة هي في جوهرها سباق على مكاسب سياسية وتجارية، كما يستشف من آراء رئيس تلفزيون المستقبل علي جابر التي ذكرها في حديث مع "الوسط". اذ يرى أن مشروعاً اعلامياً ناجحاً مثل "المستقبل" سيؤتي ثماراً مادية وسياسية حتماً. ولئن كان لا يريد "التواجد في مؤسسة لا تطمح الى الربح" ومطمئن الى "أننا سنجني أرباحاً بعد فترة"، فالسيد جابر حريص على "ابراز مشروع السلام ... وخط الرئيس الحريري" وتوجهه السياسي. وربما كانت الغاية التجارية - السياسية هي السبب الأساسي في ما أسماه "حملة المؤسسة اللبنانية للارسال ... التي بتنا نشكل خطراً على خبزها اليومي". و"الشرعية" التي يأخذ جابر على تلفزيون LBC انتهاكها، هي سمة "التلفزيون اللبناني" البارزة، فهو الشركة الرسمية التي تأسست العام 1958 ومُنحت الحق المطلق "بالبث على الأرض والفضاء لغاية 2012" كما يقول مديرها العام فؤاد نعيم. لكن هذا الحق ضاع في غياهب الحرب التي حولته الى حبر على ورق، يحاول حالياً المدير نعيم أن يعيد اليه هيبته بعدما نجح في تطوير التلفزيون ومساعدته على تحقيق نقلة نوعية. وانطلاقاً من حرصه على مصلحة التلفزيون الرسمي أقام نعيم "دعاوى مدنية ضد التلفزيونات كلها بقصد حفظ حقوقنا التجارية ... والخروج من دوامة الفوضى القائمة" وليس بدافع الاحتكار فهو من مؤيدي التعددية الاعلامية التي تفسح "المجال للتنافس والابداع". ولما سألته "الوسط" عن سبب التزاحم على استئجار الأقنية رد نعيم: "ان سوق الاعلانات لقناة فضائية ضخمة للغاية ... ويعود التنافس على عربسات الى حقيقة انه القمر الاصطناعي الأقرب والأرخص فضلاً عن أنه يغطي منطقة الخليج". والتلفزيون اللبناني لا يخشى الدخول في السوق العربية فانتاجه 15 ألف ساعة يحظى برواج واسع، على حد تعبير نعيم. في لبنان، حيث الاعلام المرئي خصوصاً ساحة للمنافسة بين القوى السياسية كلها التي عوّلت عليه من أيام الحرب سلاحاً حاسماً، الثقة بالظفر عربياً وانشغال المحطات المحلية بعضها ببعض هما العلامتان الفارقتان للبث التلفزيوني الفضائي. الصراع بين الأجنبي الوافد والمحلي المقيم يكاد يكون غائباً، أو قل ثانوياً، بخلاف الامارات العربية المتحدة. أبو ظبي ودبي ومنافسة الأشقاء والغرباء فالامارات تشهد حركة دائبة طاولت البث التلفزيوني، الذي تغدقه عليها محطات عدة بينها اثنتان محليتان استطاعتا حمل صورة البلد وصوته الى مناطق نائية في شتى أنحاء العالم. ومن هنا، لا تنحصر المنافسة بالمحطتين الفضائيتين اللتين تبثان من أبو ظبي ودبي، بل يعتقد أنها ستأخذ شكلاً أعقد من ذلك بكثير لاحظ بوادره عبدالله امان، الوكيل المساعد لشؤون الاستعلامات والنشر في وزارة الاعلام والثقافة، في حديث مع "الوسط". اذ قال: "لا شك أن المنافسة ستدور بين القنوات التلفزيونية الرسمية والخاصة الوافدة". وتوقع انه: "ما دامت محطات البث الفضائية خاضعة لروتين المؤسسة الحكومية ستبقى فرص فوزها محدودة، وأنا أتوقع نجاحاً كبيراً للمحطات العربية الخاصة". وهل يعني ذلك أن عدداً من القنوات الفضائية العربية سيتوقف عن البث في السنوات المقبلة؟ لم يشأ المسؤول الاماراتي أن يبشر بالنهاية المخيبة فاكتفى بالقول: "ألمح في الأفق أزمات ستعيشها بعض القنوات الرسمية العربية، فيما سيزيد عدد القنوات الخاصة التي ستستأثر باهتمام المشاهد، كما أعتقد". وفي ظل وضع كهذا يهيب السيد أمان بالأجهزة الاعلامية العربية أن "تتفق على استراتيجية ... ذكية، فالتنافس بين هذا العدد الكبير من القنوات الفضائية العربية ظاهرة ايجابية شرط أن تكمل احداها الأخرى". ويعترف أن قناة أبو ظبي الفضائية "لا تملك المواد الفيلمية الكافية مثلما هو الحال في دول عربية أخرى" إلا أنها تسعى الى اعداد كوادرها حتى تصبح مؤهلة لمنافسة القنوات الأخرى. وهي حققت حتى الآن ما يقدره أمان ب "10 في المئة" من غاياتها. اما الشيخ حشر المكتوم فيصف تلفزيون دبي بأنه "محطة ريادية أثبتت قدرتها على الابتكار والتطور على رغم عمرها القصير الذي لا يزيد على عشرين سنة". وهذا يوحي ان قناة دبي الفضائية هي ند لمنافساتها العربيات على الاقل، لا بل انها تمثل "علامة متميزة للتلفزة العربية على المستويين المحلي والعربي" خصوصاً وأن بوسع ملايين المغتربين من الناطقين بالضاد مشاهدتها في أوروبا وأميركا وكندا... على مدار الپ24 ساعة. ويعتبر الشيخ المكتوم ان انجاز الاعلام المرئي الخليجي يكمن اساساً في ان المنطقة "ودبي بالذات اصبحت مركزاً لصناعة الاخبار لا مستوردة لها" ما يعني ان تلفزيون دبي قطع شوطاً طويلاً على طريق المنافسة وهو أثبت انه لاعب رئيسي لا يستهان به. البث المحلي والوافد الى مصر واذا كان الامر كذلك بالنسبة الى بلد لا يزال جديداً، نسبياً، على الصناعة التلفزيونية والسينمائية، فماذا عن مصر التي كانت في هذا الميدان على المستوى العربي؟ رئيسة القناة الفضائية المصرية سهير الاتربي تميز بين التنافس العربي والعالمي. وفيما تحتج على اصطلاح الحرب الفضائية العربية باعتبار ان "75 في المئة من الأعمال التي تقدمها القنوات العربية هي مصرية سواء من حيث نجومها أو فنانيها او كتّابها"، تعترف بأن القناة المصرية عاجزة عن مقارعة شبكة الپ"سي.أن.أن" الاميركية مثلاً، بسبب التفاوت الهائل في الامكانات. من هنا تدعو الأتربي "القنوات العربية كلها الى التضامن معاً لمجابهة القنوات الوافدة التي لا تلائم موادها عاداتنا وتقاليدنا". وكي يحقق هذا التعاون غايته المرجوة يجب وضع "ميثاق شرف اعلامي تلتزم به القنوات العربية وتعمل من خلاله، ووفق اسسه، على خدمة المصالح والثقافة العربية". ومن شأن هذا الميثاق ان يفتح "باب الرواج والانتشار لانتاجنا السينمائي والتلفزيوني". ولعل تشديد الاتربي على ضرورة "مجابهة" البث الاجنبي يوحي بأن الوافد الغريب يشكل خطراً حقيقياً على القنوات التلفزيونية المصرية. فهذه القنوات التي سيصبح عددها قريباً ثماني، احداها دولية، تتعرض في عقر دارها الى منافسة كثير من المحطات الخارجية التي تلاقي برامجها وأفلامها رواجاً متزايداً تدل عليه ارقام مبيعات صحون الاستقبال والهوائيات ذات الحجم الكبير، القانونية وغيرها. ومع أن أسعار صحون الاستقبال مرتفعة وصعوبة الحصول على ترخيص رسمي باستخدامها، هي عقبات تحد من انتشارها يبدو ان المستقبل في صالحها. فسوق الفيديو التي تعثّر نموّها في السبعينات لم تلبث ان اتسعت واستطاعت اشرطة الفيديو الوصول الى غالبية البيوت المصرية خلال سنوات قليلة. ليس غريباً اذن ان يجد البث الاجنبي طريقه الى معظم شاشات التلفزيون في البلاد، خصوصاً وأنها تتلقى ارسال محطات ودول عدة يأتي بعضه بالمصادفة المحضة مثل بث تلفزيونات اسرائيل، سورية، ليبيا، اليونان، مالطا، السعودية ويوغوسلافيا. وسيل المواد الاعلامية متعددة الهوية يجتاح السماء العربية كلها ما يعني ان القناة المحلية يجب ان تحشد جهوداً وامكانات ضخمة كي تحافظ على حياتها. هذه الخلاصة "المتشائمة" تبرر التساؤل: أي مستقبل ينتظر تلفزيونات خاصة ورسمية محلية تعاني شحاً في الكوادر والمعدات؟ المحطات الرسمية في ميدان المنافسة من المحطات الرسمية التي تشكو فقراً فنياً مدقعاًَ هي التلفزيون اللبناني الذي يصفه مديره العام فؤاد نعيم بأنه "تقنياً في غاية التخلف، فتجهيزاتنا تعود للستينات وما زلنا نكتب بريشة البط والعالم بالكمبيوتر". ولئن استطاع الاستمرار بفضل تفاني العاملين فيه و"شراء الرئيس الحريري 50 في المئة من اسهمه" فهو لا يزال بانتظار "فرج" مالي يساعده في الوقوف على قدميه. وهذه المؤسسة تكاد تكون على طرفي نقيض مع قناة أبو ظبي الفضائية. فالأخيرة تملك الاجهزة المتقدمة وتفتقر الى الخبرات ما يجعل انتاجها التلفزيوني محدوداً لا يسد حاجاتها كاملة، على حد تعبير عبدالله أمان. الا انها بادرت منذ مدة الى "ايفاد العديد من كوادرنا الى مراكز عالمية للالتحاق بدورات تدريبية". تونس وضعها مطمئن أما تونس فيبدو انها تجاوزت، مثل بلدان عربية اخرى، مرحلة الازمات، وصارت مطمئنة الى اكتفائها الذاتي في المعدات والخبرات التلفزيونية. اذ يقول المدير العام للاذاعة والتلفزة التونسية عبدالحفيظ الهرقام على الرغم من تميز ورقي القناتين الأولى الايطالية والثانية الفرنسية، اللتين يستقبلهما التونسيون بواسطة الهوائيات العادية، "فان المواطن بقي وفياً لقناته الوطنية". ويضيف "تفاوت الامكانات بين المحلي والوافد لا يشكل خطراً على التلفزة الوطنية القادرة على الوقوف بندية في وجه ما يدعى بالغزو الثقافي". ودعا الى تعاون عربي اعلامي للتنسيق الدائم وتبادل الخبرات والبرامج الراقية والمفيدة على الصعيدين التثقيفي والترفيهي. هذه النماذج الثلاثة تعبر عن واقع البث التلفزيوني العربي: بعضه يكافح لتذليل عقبات شتى، وبعضه نجح بتذليلها. وفي الحالين يبقى "الآخر" هاجساً لا يغيب ومقياساً للمقارنة يعول عليه المكافح والناجح على حد سواء. فكلاهما يعرف أنه ليس وحيداً في ساحة تغص بمتنافسين يشتد تزاحمهم يوماً اثر يوم.