المجزرة التي ارتكبت في الحرب الابراهيمي الشريف وردود الفعل عليها في عواصم المنطقة وصولاً الى شوارع نيويورك عززت المخاوف ومن ان يكون النزاع العربي - الاسرائيلي على ابواب فصل جديد دام. منفذ المجزرة باروخ غولد شتاين واحد من هولاء الاصوليين اليهود الذين دفعهم تسارع خطوات السلام الى اعلان الحرب على السلام. وهذه الحرب تدور يوميا في الاراضي المحتلة وداخل اسرائيل وكذلك في الولاياتالمتحدة. ووجهت تهمة تنفيذ الهجوم في نيويورك الى لبناني ذكر انه يدعى أسد باز وعثر في منزله على "ترسانة من الاسلحة". المفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية تترنح ولا تقع. وجهت إليها مجزرة "الحرم الابراهيمي" ضربة قاسية ولكنها غير مميتة. صحيح ان التقدم بعد اوسلو - واشنطن كان بطيئاً وأنه أنتج "اتفاق القاهرة" بعد مخاض عسير، غير ان مفاوضات تفسير الاتفاق مستمرة في مصر ومتعثرة في باريس حيث يجري تناول الشق الاقتصادي. هددت مذبحة الخليل العملية السلمية لانها حشرت القيادة الفلسطينية في الزاوية وزادت من عزلة التيار الداعم لها ما أرغمها على ان تسعى الى طرح مطالب جديدة سبق لها ان أغفلتها في الجولات السابقة كلها العلنية منها والسرية. أدت بشاعة الجريمة وعدد الضحايا ومكان الفعل وزمانه، الى اكتشاف الخطأ الكبير المتمثل في الموافقة على إبقاء قضية المستوطنات خارج التفاوض وتأجيل البحث فيها الى ما بعد انتهاء المرحلة الاختبارية في غزة وأريحا، والمرحلة الانتقالية في عموم الأرض المحتلة. ولذلك سارعت القيادة الفلسطينية الى بلورة مطالب اعتبرت ان تلبيتها شرط لاستئناف المفاوضات: نزع سلاح مئة وعشرين ألف مستوطن، تأمين الحماية الدولية للمدنيين الفلسطينيين، إزالة مستوطنات غزة، تقييد حركة مستوطني كريات أربع قرب الخليل. لم تعتبر منظمة التحرير هذه المطالب خرقاً ل "اتفاق واشنطن" ولپ"إعلان المبادئ" طالما ان الوثيقتين المشار اليهما لا تحولان دون اقدام تل أبيب على اتخاذ اجراءات تمتص النقمة وتظهر حسن النوايا. اسرائيل كانت في واد آخر، ويمكن اختصار موقفها بالمعادلة التالية: الحد الأقصى من الاستنكار والحد الأدنى من التدابير. لم يبق مسؤول في المؤسسة الاسرائيلية إلا ودان المجزرة وتبرأ منها. غير ان ذلك لم يمنع دفع الجيش نحو قمع الفلسطينيين المتظاهرين غضباً وإسقاط عشرات القتلى والجرحى بينهم من قضى وهو يتوجه الى المستشفى للتبرع بدمه أو للسؤال عن قريب له. الى ذلك اتخذت الحكومة خطوات اعتبرتها نهاية مطاف التنازل: لجنة تحقيق، اعتقال حفنة من المتطرفين، تجريد بضع عشرات منهم من سلاحه، تقييد تحركات الأشد خطراً... وتعويضات مادية لذوي الضحايا. حبة مسكّن قليلة الفعالية رداً على أزمة في منتهى الخطورة. كانت حكومة اسحق رابين تدرك انه يصعب عليها الدفاع عن موقفها هذا والتمترس عنده في حال نقلت القضية امام المحافل الدولية. غير انها، هنا بدت شديدة الاتكال على الولاياتالمتحدة، وبالفعل لم تخيب واشنطن أمل تل أبيب. تولت المندوبة الاميركية الى مجلس الامن مادلين اولبرايت مهمة الدفاع عن اسرائيل ومنع الهيئة الدولية من اتخاذ القرارات المناسبة. رفض مطلب الحماية الدولية، رفض الاشارة الصريحة الى القدس بصفتها أرضاً محتلة. ووصل الأمر بالبعثة الاميركية حد الدخول في جدل حام مع الأمين العام للأمم المتحدة بطرس غالي. فلقد طالب غالي رابين بمراجعة موقفه من قضية وجود مراقبين دوليين مدنيين في الأرض المحتلة. فكان ان أجابت واشنطن رافضة الطلب ومستبقة اي موقف اسرائيلي. غير ان أروقة الاممالمتحدة هي، بامتياز، أروقة التسويات والمساومات. ولذلك استمر العمل من اجل اصدار موقف يصب الماء على الغضب الفلسطيني والعربي والاسلامي، ولكنه لا يلزم اسرائيل بخطوات ملموسة. وكان واضحاً ان "الخط الأحمر" الذي ترفض واشنطن وتل ابيب تجاوزه هو اخراج المفاوضات الثنائية عن مسارها سواء بفرض جدول أعمال جديد أو بإدخال الاممالمتحدة كشريك. وبالطبع تذكر المراقبون في نيويورك قضية المبعدين الفلسطينيين حين تحول الاتفاق الاميركي - الاسرائيلي الى آلية لتنفيذ قرار مجلس الأمن غير قابلة لأي تعديل أو مراجعة في حين كانت حكومة اسرائيل تعطي القليل، وحكومة الولاياتالمتحدة تؤمن لها التغطية الدولية كان العرض الوحيد امام الفلسطينيين هو الدعوة الموجهة اليهم من بيل كلينتون شخصياً لاستئناف المفاوضات في واشنطن. دعوة واشنطن لقد تسرع الفلسطينيون في قبول الدعوة مبدئياً ثم حاولوا المناورة في موعد الحضور على أمل الحصول على أقصى التنازلات. وثمة قيادي بارز بينهم يقول "إذا لم نحصل على دخول المستوطنات الى المفاوضات فإننا سنكتفي بدخول الولاياتالمتحدة". يضيف شارحاً ان هذا مطلب فلسطيني قديم وان الرئيس ياسر عرفات عاد اليه بالحاح بعد توقيع "اتفاق القاهرة" مع وزير الخارجية الاسرائيلي شمعون بيريز وانه لم يفعل ذلك إلا لأنه يعتبر ان "الاتفاق" سيئ وانه نتيجة الاستفراد الاسرائيلي بمنظمة التحرير. لا تزال المسافة شاسعة بين ما تطلبه منظمة التحرير وما "أعطته" اسرائيل ووافقت عليه الولاياتالمتحدة ولذلك فإن السؤال هو حول قدرة الفلسطينيين على احتمال الضغط الذي سيمارس عليهم. ان هامش المناورة يضيق باعتبار ان اسحق رابين متوجه الى واشنطن ومن المستبعد ان يُستقبل هناك بضغوطات. وفي المقابل أدى انسحاب الوفود السورية واللبنانية والاردنية من المفاوضات الى تسليط ضغط معاكس على القيادة الفلسطينية. لقد انسحبت هذه الوفود لأن الصيغة الجديدة لم تكن مثمرة رؤساء الوفود فقط ومحادثات "سرية" ومن باب التضامن مع "الاخوة"، والواضح ان هذه الخطوة تحيل على منظمة التحرير مسؤولية جسيمة في اتخاذ قرارها اذ سيكون صعباً عليها ان ترضى بالقليل المعروض عليها مما يجعلها متهمة، مرة اخرى، بضرب التنسيق العربي. الأصوليون والمستوطنون ومما يكبل أيدي القيادة الفلسطينية ان المعارضة مستعدة لاستغلال اي تراجع في موقفها واي تنازل جديد مستفيدة من الاجواء الشعبية المعبأة. وليس سراً ان "حماس" كانت قوية اصلاً في الخليل وان فعلة المستوطن زادتها قوة وكذلك الرد الخجول الذي اعتمدته الحكومة الاسرائيلية. ولعل الطريقة المناسبة لقياس مدى "الخجل" في هذا الرد هي العودة الى ما صاحب مسيرة التفاوض، منذ بدايتها، من كلام عن خطر "الأصولية الاسلامية". لقد جرى تقويمها بصفتها "العدو المشترك للفلسطينيين والاسرائيليين" و"الخطر الذي لا يهدد التسوية السلمية فحسب بل الاستقرار في الشرق الأوسط والعالم" وكانت حاضرة عند نقاش قضية "الأمن الاسرائيلي" و"المعابر" و"الشرطة الفلسطينية" و"إطلاق سراح السجناء من التنظيمات كلها"، الخ... وجاءت جريمة "الحرم الابراهيمي" لتكشف ان الخطر الفعلي على التسوية صادر في الحقيقة، من المستوطنين الاسرائيليين والأصولية اليهودية. وان هذه الاخيرة تطرح في الواقع، ضرورة حماية أمن الفلسطينيين وتلح على حكومة اسحق رابين من أجل حسم أمرها. ان هذه الأصولية هي التي تعبئ قسماً كبيراً من المستوطنين في الضفة الغربية وخاصة في القدس ومحيطها وهي تعلن انها ستحبط أي اتفاق في حين ان "الأصولية الاسلامية" تتصرف منضبطة تحت سقف معين وتوالي "جهادها" ضد الاحتلال من غير ان تبرز بصفتها قوة تهديد حاسمة ضد الحل السياسي. واذا كان من الجائز الخروج بفائدة ما من هذه المجزرة البشعة فهذه الفائدة هي تعريف المستوطنين، والاصوليين تحديداً بينهم، بصفتهم العائق الرئيسي دون الحكم الذاتي الفلسطيني أي دون البند الأول من بنود هذه التسوية. سلطت المذبحة الاخيرة في الحرم الابراهيمي الشريف في مدينة الخليل الاضواء من جديد على الحركة الاصولية اليهودية، بعد ان حاولت وسائل الاعلام الغربية على مدى السنوات الاخيرة توجيه الانظار والافكار على الخطر الاصولي الاسلامي. ولكن الحديث اخذ يتحول بسرعة الى سيكولوجية القاتل وجنونه، والى بعض التركيز على منظمة "كاخ" العنصرية التي كان باروخ غولدشتاين منفذ المذبحة عضواً فاعلاً فيها. والواقع ان الحركة الأصولية اليهودية، وخاصة في مناطق الاستيطان في الأراضي المحتلة، هي أكبر وأخطر وأعمق من أفعال بعض الأفراد، وحتى من منظمة "كاخ" نفسها. وتاريخ الحركة الأصولية الحافل بالارهاب والعنف والقتل ليس سراً على أحد في اسرائيل، لا بل وانها مدعومة الى حد كبير منذ بداية فعالياتها الاستيطانية والارهابية من قبل الحكومات الاسرائيلية، وأولها حكومات حزب العمل الذي اصبح يدين عملياتها من وقت الى آخر هذه الأيام. ولعل المقابلة الأخيرة التي اعطاها غولدشتاين للصحافي الاميركي توم روبارتس تقدم فكرة واضحة عن تفكير الأصوليين الجدد. ففي معرض حديثه عن العرب وطريقة التعامل معهم أكد الطبيب باروخ "هنالك وقت للتطبيب ووقت للقتل... لن نترك الخليل مهما يكن من أمر... إننا نغش أنفسنا عندما نفكر بإمكانية التعايش مع العرب. إنه غير ممكن. إنهم مرض... والجيش الاسرائيلي يخطئ، عندما يمنعنا من الانتقام منهم، ويمنعنا من تخويفهم، لا بد وان نطردهم، إنهم نازيو اليوم....". وأكثر ما يعبر عن التفكير الاصولي الجديد هو ردة فعل المستوطنين في مستوطنة كريات أربع، حيث سكن غولدشتاين مع عائلته وبالقرب من والديه. "إنه رمز وبطل" صاح الكثيرون أمام عدسات التلفزيون الاسرائيلي. وأكد المستوطن تيرن فولك بأن المجزرة "عمل عظيم ومهم"، وأشار أمنون تيدمور الذي يقول عن نفسه بأنه معتدل الى ان عملية الخليل "ستقدم عملية السلام"، وصاح أريي بن يوسف أمام التلفزيون "إنها هدية أرسلت لنا في عيد البوريم". وأما المتحدث باسم حركة كاخ نوعام فيدرمان فقال: نطأطئ رؤوسنا أمام القديس البطل دكتور غولدشتاين". والكثيرون ممن لم يعرفوا غولدشتاين، وليسوا عضاء في حركته، أشاروا الى أنهم يتفهمون مشاعر المستوطن والذي أسمته المتحدثة باسم التنظيم في الولاياتالمتحدة باربرة غينزبرغ "الشهيد". وفي حين أسفت للمجزرة أكثر قيادات المستوطنات "اعتدالاً"، إلا أنها ألقت مسؤوليتها على الحكومة الاسرائيلية، كما جاء على لسان رئيس مجالس المستوطنات يشع في الضفة الغربيةوغزة المحتلتين أوري أرييل. هذا وأصدرت لجنة الحاخامات في المناطق المحتلة بياناً أكدت فيه "أن الحكومة التي تطلق سراح المئات بل والآلاف من القتلة وتعطيهم مكانة دولية هي المسؤولة عن سفك الدماء". إن التوجه الجديد المبني على فكرة وجود أصوليين معتدلين وأصوليين متطرفين، أو حتى مستعمرين معتدلين وآخرين متطرفين، هو ليس خاطئاً فحسب بل انه أخطر ما باتت تنتجه وسائل الاعلام بعد المجزرة، وخاصة بعد تركيز اليسار الاسرائيلي وحركة السلام الآن على حركة "كاخ" المتطرفة، وفي هذا الصدد لا بد من بعض التوضيحات حول الحركة الاصولية وتوجهاتها. الأصولية اليهودية الحديثة إن الأب الروحي والمنظر التاريخي للحركة الأصولية اليهودية هو الحاخام كوك الذي كان في فترة الانتداب البريطاني الحاخام الأعلى في فلسطين حيث سكن في مدينة القدس وتوفي في أواسط الثلاثينات. وبالرغم من أن أفكار الحاخام كوك وتعاليمه لم يتم تطبيقها الفعلي الا بعد الاحتلال الاسرائيلي سنة 1967، الا أن ابنه تسفي يهودا كوك قد أكمل المسيرة بعد تأسيس الدولة اليهودية حتى وفاته سنة 1981. فقد اسس المدرسة الدينية "ميركاز هاراف" - مركز الرابي - والتي لها فروع كثيرة هذه الايام في القدس والمناطق المحتلة، التي خرجت غالبية القيادة الحالية للحركة الأصولية اليهودية، وخاصة قادة "غوش ايمونيم"، المنظمة الأكبر والأكثر خطراً. وأهم رموز هذه الحركة هم أمثال الحاخام ليفنجر، وعضو الكنيست حنان بورات، واعتبر غالبية من يسمون بپ"المعتدلين"، بما في ذلك أولئك الذين يسكنون في مستعمرات غوش عنسيون، والتي يعتبرونها خاصة بهم حتى قبل الاحتلال الرابي كوك أباهم الروحي. وأشار استاذ التاريخ اليهودي في جامعة تل أبيب، أمنون راز كراكوتسكين لپ"الوسط" الى ان الفكرة الأساسية والاهم والتي تأسست عليها الحركة الأصولية الحديثة تنبع من قيام تيار ديني خالص باتخاذ المفاهيم الصهيونية العلمانية اساساً لعمله بعد إ ضافة المصطلحات والنظم الدينية عليها. إن الحركة الدينية اليهودية التي كانت في الخمسينات وأوائل الستينات معتدلة في توجهاتها الدينية الى حد كبير، خاصة بسبب التوجه اللاديني لقيادة الحركة الصهيونية بعد بناء الدولة، أمثال بن غوريون ويغال ألون وشريت، بدأت تكون "الأحزاب" الدينية أمثال حزب المفدال الحزب الوطني الديني وتتقبل شيئاً فشيئاً العناصر الأساسية للحركة الصهيونية كما جاءت في اعلان الاستقلال، وفي سياسات قيادة الأحزاب العمالية في اسرائيل. ونتيجة لذلك أصبحت قيادة الحركة الصهيونية أكثر تسامحاً معها تقدم لها الدعم المؤسساتي، بل ودخلت معها في ائتلافات حكومية عديدة. لاحقاً بعد حرب حزيران يونيو، أخذت مجموعة في حزب المفدال تخرج عن سياسة الحزب "المعتدلة". ولكن حزب العمل ذاته أخذ بعد الانتصار الساحق على العرب ومضاعفة الدعم الأميركي، يطور سياسة أمنية توسعية جديدة، قادها أكثر قيادة حزب العمل "اعتدالاً" وشعبية، رجل الكيبوتس ييغال ألون، والذي أخذ يدعم الحركة الاستيطانية في مناطق القدس والخليل، مما نتج عنه تأسيس مستوطنة كريات أربع بعد الاحتلال مباشرة. انفصل "المتطرفون" في حزب المفدال وكونوا تنظيماً جديداً أطلق عليه اسم غوش إيمونيم، أو كتلة المؤمنين، وراحوا يطبقون تعاليم الرابيين كوك ويوسعون دائرة الاستيطان في الأراضي المحتلة بدعم من حكومات حزب العمل. ومن قيادة هذا التنظيم هنالك الحاخام موشي ليفنجر الذي يسكن حي "ابراهيم أفينو" في الخليل، ورئيس مجلس كريات أربع تسفي كاتسور، والرابي اليعازر فالدمان، ودوف ليؤور، وحنان بورات الذي لا يزال عضواً في مفدال. تطور الأصولية في ظل الليكود منذ أواخر السبعينات وحتى الثمانينات أخذت حركة غوش إيمونيم تنمو بسرعة في ظل حكومات الليكود، حتى أصبحت تنظيماً خطراً ليس فقط من خلال نشر الفوضى والعنف بل وأيضاً في تعاملها مع قوات الجيش التي أعطتها المجال لتتسلح وتقوى وتضطهد الفلسطينيين. مع بداية الثمانينات راح التنظيم يمارس الارهاب بصورة بشعة ضد الفلسطينيين من خلال شبكة سرية الى حد ما. واكتسب أكثر هذه العمليات شهرة اعتداء ثلاثي بالقنابل في 2 حزيران يونيو 1980 على رؤساء بلديات نابلس ورام الله والبيرة، بسام الشكة، وكريم خلف وابراهيم الطويل، أدى الى بتر ساقي الشكعة، وإصابة خلف بجروح خطيرة، في حين نجا الطويل. ولاحقاً في 11 نيسان ابريل 1982 فتح رجل أصولي النار على الحشد في الحرم الشريف مما أدى الى مقتل أربعة أشخاص، وقيل حينها انه مختل عقلياً. في 26 تموز يوليو 1983 فتح أصوليون النار داخل كلية الخليل الجامعية فقتلوا ثلاثة طلاب. وبرغم قيام السلطات الاسرائيلية باعتقال المسؤولين عن عمليات التفجير، والذين كانوا معروفين للسلطات وعامة الناس، فانهم قضوا وقتهم في السجن وكأنهم في فترة نقاهة، وأطلق سراحهم بعدها ليصبحوا الأبطال القوميين والدينيين للحركة الأصولية الاستيطانية. غوش إيمونيم والمفدال استمرت الحركة الأصولية، وخاصة غوش إيمونيم بالتوسع والتطور، وخاصة في ظل صرف ميزانيات هائلة على المستوطنات اقتطع جزء كبير منها من الهبات الأميركية لاسرائيل، حتى أصبحت اليوم مسيطرة الى حد كبير على حزب المفدال. وعملياً فإن أعضاء الحزب "المعتدلين" تركوه الى أحزاب ومنظمات أخرى في حين بقي هؤلاء الذين يؤيدون أساليب غوش إيمونيم وحركتها الاستيطانية ولو لم يشاركوها كامل أهدافها وأساليبها. ومن قيادة حزب المفدال حالياً اضافة الى حنان بورات، أعضاء الكنيست زبولون هامر، واسحق بيبي، وشاؤول يهالوم. يتمحور الخلاف الرئيس بين المفدال وحركة غوش إيمونيم، وهو أيضاً نقاش دائر داخل الحركة نفسها وفي الحركة الأصولية عموماً حول فكرة "الميسانية" أو رجوع المسيح المنتظر. ففي حين تعتبر الحركات الارثوذكسية اليهودية والمتمركزة في حركتي شاس التي تضم بصورة خاصة اليهود الشرقيين السفارديم، ومحاني هتوراة أو معسكر التوراة الذي يضم اليهود الغربيين الاشكناز، ان رجوع "المسايا" هو عمل إلهي وليس انسانياً، وهم يعارضون الأصوليين اليهود من حيث الهدف والمبدأ حيث في رأيهم لا حاجة لمساعدة هؤلاء البشر لرجوع "المسايا". أما المعتدلون في حزب مفدال وغيرهم في الحركة الاستيطانية فيحاولون التوفيق بين المفاهيم الصهيونية، وفكرة رجوع "المسايا"، معتبرين التوسع الاستيطاني عملاً سياسياً لا دينياً. ويقول الحاخام فرومان من مستوطنة تكوع وهو أحد "المستوطنين المعتدلين" بأن التوسع الاستيطاني أمر طبيعي للشعب اليهودي على أرضه. أما الأصوليون اليهود في غوش ايمونيم وما اليها فيعتنقون الأفكار الصهيونية كاملة، ويعطونها الأبعاد الدينية المتطرفة والملائمة. ولا بد من التذكير هنا بأن الحاخامات اليهود في العالم اليهودي والاسرائيلي، وخاصة في شاس ومحاني هتوراة اضافة الى شاخ وأغودات ايسرائيل المنضمتين الى التنظيمين الأكبر لا يعطون التعاليم في المدارس الدينية التابعة للأصوليين أية أهمية، ولا يعترفون بها، بل ويؤكدون ان الأصوليين ليسوا من رجال التوراة أنشي هتوراة. ويشير هؤلاء بأن رجوع "المسايا" سيعني تغيير العالم وليس فقط اليهود. مناطق انتشار الأصوليين تمحور استيطان حركة غوش ايمونيم والحركة الأصولية اليهودية بصورة عامة في المستوطنات في جنوبي الأراضي المحتلة وخاصة في منطقتي الخليل والقدس. وهم من حيث العدد يشكلون ما يقارب 20 في المئة من المستوطنين، في حين أن المتعاطفين معهم كثيرون جداً ولا توجد أرقام مؤكدة حول أعدادهم. وينتشر الأصوليون اليهود خصوصاً في مستعمرات شيلو وأوفرا قرب رام الله، وتيكوع وإفرات في منطقة بيت لحم، وبيت أيل على طريق القدس - رام الله، اضافة الى كريات أربع بالقرب من مدينة الخليل، ومستعمرة آلون موريه في منطقة نابلس، اضافة الى انتشارهم في مستوطنات أخرى في الضفة الغربية وفي قطاع غزة. ولا بد من التذكير انه تسكن بالقوة في داخل الخليل أكثر من 45 عائلة أصولية يتزعمها ليفنجر. في كريات أربع، التي خرّجت أمثال غولدشتاين، يسكن ما يقارب 6 آلاف مستوطن، جاء أكثر من ألف منهم في الآونة الأخيرة خلال الهجرة من الاتحاد السوفياتي. وأعطى المستوطنون في المستعمرة في الانتخابات الأخيرة، على سبيل المثال، غالبية أصواتهم للمفدال - غوش امونيم 400 صوت، والليكود 500 صوت وهتحيا، التي ترأسها عضوة الكنيست السابقة غولا كوهين، وموليدت التي يتزعمها الجنرال السابق وعضو الكنيست رحباعام زئيفي. في حين حصل حزب العمل وشاش على 40 و50 صوتاً بالترتيب. ومن الملفت للنظر ان مستوى المعيشة في كريات أربع هو الأدنى بعد مستوطنة عمانوئيل. ويحاول الأصوليون في إدارة المستوطنة أن يستقطبوا اليهود المتفقين معهم على المبدأ، وليس فقط الذين يبحثون عن فرص للمعيشة. نشوء حركة كاخ أما حركة كاخ فقد جاءت متأخرة من حيث التطور التاريخي للحركة الأصولية اليهودية. وفي حين نشأت وترعرعت حركة غوش ايمونيم والمتعاطفون معها في ظل حزب العمل، فإن حركة كاخ هي وليدة التطرف الديني والسياسي اليهودي في الولاياتالمتحدة. وعملياً فإن حركة كاخ جاءت الى "أرض اسرائيل" لتكون امتداداً استيطانياً وسياسياً لمنظمة "جويش ديفينس ليغ" أو رابطة الدفاع اليهودية التي تزعمها اليهودي الأميركي كاهانا حتى مقتله في نيويورك سنة 1990، وكانت المنظمة قد قامت بالعديد من العمليات الارهابية في الولاياتالمتحدة أهمها وضع قنبلة في مكتب رئيس فرع المنظمة العربية لمناهضة العنصرية، اليكس عودة وأدت الى مقتله. هذا وانضم باروخ غولدشتاين الى حركة "كاخ" وهو طالب في المدرسة الدينية في نيويورك، وأخذ لاحقاً وخلال دراسته للطب في جامعة البرونكس في نيويورك أيضاً بالتحدث باسم تنظيم كاهانا، وكان يعتبر من المقربين اليه. وجدير بالذكر ان تربية الصغير غولدشتاين اقتصرت على علاقات مع اليهود فقط، ولم يسمح له والداه باللعب مع الآخرين في حي بنسنهيرست المختلط في ضاحية بروكلين. فالتربية الدينية لمؤيدي كاهانا تعتبر محافظة وأورثوذكسية الى حد بعيد. وليس صدفة انه كان يناقش علناً في أهمية استعمال القوة في تحديد النسل العربي في فلسطين وخارجها. أخذ كاهانا على عاتقه دخول الحلبة السياسية الاسرائيلية، ونشر أتباعه في المستوطنات في الأراضي المحتلة وخاصة أقرب ما يمكن على العرب. وبعد سنوات قليلة كانوا قد تمركزوا في مستعمرات كريات أربع، وبرخاه، وألون موري، وتبوح التي تعتبر تابعة كلية لكاخ. وجاء استيطانهم مجاوراً للعرب في الخليل ونابلس. يتزعم حركة كاخ اليوم وبعد مقتل كاهانا، باروخ مرزال - زعيم الحركة، ونوعام فادرمان المتحدث باسمها، وآخرون بينهم عضوان في مجلس كريات أربع. من ناحية ثانية فإن ابن كاهانا يتزعم شقاً من التنظيم يتمركز في مستوطنة تبوح. وقد أدى التنافس على زعامة الحركة الى نشوء تنظيمين آخرين مواليين وموازيين لكاخ هما "اللجنة من أجل الأمن في الشوارع"، و"شرطة يهودا". إن أهم الفروقات بين حركة غوش إيمونيم، وكاخ هو اعتبار الأولى الدولة الاسرائيلية مقدسة، في حين لا تعترف حركة كاخ بشرعية دولة اسرائيل الدينية لأنها ليست يهودية خالصة وتعطي العرب حق "مواطنة" فيها. ويأخذ مؤيدو كاخ بناء المملكة اليهودية في الأراضي المحتلة على عاتقهم. من هنا فإن العلمانيين الصهيونيين المتطرفين وبينهم خريجو الجيش، لا يتفقون مع حركة كاهانا، لأنها لا تعترف ولا تحترم الدولة. التقاء العلمانيين والمتدينين في الحركة الأصولية على رغم الخلاف بين نشيطي حركة كاخ والمتطرفين اليهود في حركتي تسومت وموليدت العلمانيتين بزعامة الجنرال إيتان، الملقب بغاندي، إلا أن الاثنين وهما من خريجي الحركة العمالية الصهيونية يعتبران قريبين من الأصولية اليهودية بصورة عامة لأنها تصب في تصوراتهما الصهيونية التوسعية والعنصرية. وأدت تظاهرات الليبراليين واليساريين في حركة سلام الآن وفي حزب العمل الأخيرة، والتي لسخرية القدر تحدث أمامها وزراء من الحكومة التي أعطت الأوامر بارتكاب "المجزرة الثانية" على أيدي الجنود والتي ذهب ضحيتها ما يقارب الثلاثين شخصاً، الى التركيز على حركة كاخ الأصغر. لقد تركوا المجال أمام الأصوليين في حركة غوش ايمونيم والمفدال في الظهور بمظهر الاعتدال بمجرد عدم تأييدهم العلني للعملية الارهابية. وأخذ الأصوليون من أمثال أوري أرييل، وحتى أعضاء مجلس كريات أربع، كما تبين من اعلانهم بعد المجزرة، يعلنون عن أسفهم لما جرى ويكيلون الاتهامات للحكومة. وأخذ مستوطنون آخرون في مستوطنات غوش عتسيون بجمع التبرعات لعائلات الشهداء، مما يعطيهم الفرصة لاظهار أنفسهم على الحياد في حين يستمرون في مستوطنة كفر عتسيون بمصادرة أراضي قرية نحالين الفلسطينية بالقرب من بيت لحم ويقتلعون أشجارها، في حين تقوم المستعمرات الأخرى بتوسيع العمليات الاستيطانية حتى بعد التوقيع على اعلان المبادئ في 13 ايلول سبتمبر الماضي. المعتدلون والمتطرفون أخذت وسائل الاعلام الاسرائيلية تشدد على فكرة الأصوليين المعتدلين والآخرين المتطرفين، وكذلك بالنسبة للمستوطنين، في حين انه على أرض الواقع ليس هنالك مستوطن جيد، أو أصولي يهودي معتدل في ظل الاحتلال. وأشارت الاستطلاعات الأخيرة في مستوطنة أرييل الى أن 29 بالمئة من المستوطنين مستعدون لبحث انتقالهم الى داخل الخط الأخضر وتعويضهم خاصة بعد مقتل المستوطنة الاسرائيلية أخيراً، ولكن الى ان ينتقل هؤلاء سيظلون مستعمرين بغض النظر عن نياتهم. هنالك محاولات مستمرة، بما في ذلك من قبل المستوطنين للموازاة بين "أصوليينا وأصولييهم" بالرغم من أن قيادة حركة حماس التي أخذت تصعد من عملياتها مؤخراً، قد اعتبرت قتل المستوطنة غلطة، وان مقاتليها يستهدفون الجيش. وأشار الحاخام يوئيل بن نون أحد أعضاء مجلس مستوطنات الأراضي المحتلة يشع "هنالك حماس اسلامي وحماس يهودي". وهذا الكلام يخرج من الاعتبار مفهوم الاحتلال من القاموس السياسي. ويصبح في نظر الكثيرين من الاسرائيليين نضال المحتل ضد الاحتلال يساوي اضطهاد وعنف المحتل ضد السكان العزل تحت الاحتلال، وهو أمر خاطئ سياسياً، وجريمة أخلاقياً. لقد أشار "أحد المعتدلين" من كريات أربع ويدعى أمنون تدمور بأن "كل التفسيرات السيكولوجية لعمل غولدشتاين خاطئة، بل هي إهانة، لأنه صديق ويعبر عن مشاعر جمهور كبير في كريات أربع". وفعلاً فإن الأصوليين اليهود يباركون أعمال العنف ويؤيدونها. ولكن الأهم من ذلك، وكما أشار المعلقان الصحافيان الاسرائيليان روني شيكر وتسفي زينجر في صحيفة "يديعوت أحرونوت" بعد المجزرة فإن "الحكومة، والشاباك، والادارة المدنية، والجيش، والمستوطنين من كريات أربع مذنبون لأنهم هم الذين أعطوا شرعية للأصوليين..." وسمحوا لهم بالتطور وهم يقومون بأعمال العنف ويتصورون وهم يعتدون على الناس في أسواق الخليل، وفي حي القصبة، ويطلقون النيران بأسلحتهم التي أعطتهم إياها الحكومة. هذا ويؤكد رابيو الحركة الأصولية بأنه لا بد من "سفك الدماء على أرض اسرائيل"، كجزء من التحضير للمراحل المتوقعة بحسب تفسيراتهم الدينية. ولعل الزواج الذي تم مؤخراً في السجن بين إحدى المنتسبات الى حركة كاخ، والارهابي الذي قتل ثمانية فلسطينيين في ريشون ليتسيون في 20 أيار مايو 1990 وانضم السنة الماضية وهو في السجن الى حركة كاخ، والذي قام بمراسيمه عضو الكنيست الرابي باغاد، هو دلالة واضحة على نوعية السياسة الاسرائيلية وتعاملها مع المتطرفين والأصوليين اليهود، وخاصة في ظل تعاظم الجهود قبل المذبحة لاطلاق سراحه. معارضة السلام ويبقى السؤال عن السلام والمستقبل مطروحاً. ففي ندوة عقدت عام 1992 قال الحاخام زلمان ميلاميد رئيس "لجنة حاخامات يهودا والسامرة وقطاع غزة" في معرض الحديث عن العلاقة بين اليهود و"السكان الغرباء" أي العرب: "ليس هناك خلاف في أن الحل المثالي هو ان لا يستقر أحد من غير اليهود في جميع أرض اسرائيل. وسوف يكون مصير كل دونم في هذه الأرض هو أن يعمل فيه اليهود وحدهم". ومن الواضح أن فوز رابين في الانتخابات أدى الى أزمة في معسكر أولئك المتعصبين لأنه أثار من جديد مسألة الانسحاب ولو من جزء من الأراضي المحتلة. ومع أن المستوطنين يشتركون مع حزب العمل، أكثر مما يشتركون مع ليكود، في تاريخ من محاربة العرب ومصادرة أراضيهم للاستيطان فيها فإن الحاخام بيني آلون وصف حكومة رابين بأنها "متعفنة روحياً". فالمتعصبون يعتقدون ان رابين مصمم على تدمير كل ما تم بناؤه في الأراضي المحتلة مما سيضع المشروع الصهيوني برمته في خطر. وكانت جمعية الحاخامات قد أصدرت بياناً قبل أكثر من عام ونصف، أي قبل عام من اتفاق أوسلو، جاء فيه: "لقد قضى حاخامنا اتزفي يهودا كوك ان أي قرار يتخذه يهودي أو غير يهودي لحرماننا من أي جزء من أرضنا سكيون قراراً باطلاً لا قيمة له لأن إرادة الله هي التي ستسود". ومضى البيان يقول: "إن أي توقع بإحلال سلام مع الفلسطينيين الذين وصفهم البيان بأنهم حيوانات على شكل بشر ليس سوى وهم يوسوس به الشيطان". ويقول الصحافي داني روبنشتاين إن ديبلوماسية مدريد في رأي أتباع الحاخام كوك "ليست أكثر من حوار بين بشر وبين قطيع من الذئاب المتوحشة هدفه الوحيد هو تحويل كامل أرض اسرائيل الى أرض للعرب بكاملها". ورغم كل ما يقوله رابين فمن الواضح ان أفعال غولدشتاين كانت صادرة عن رجل في منتهى الاتزان والتعقل. ففي العالم الذي يعيش فيه مع كثيرين من أمثاله ليس هناك أي قيمة لحياة العرب. ومن الواضح ان اختيار الحرم الابراهيمي الشريف لارتكاب جريمة المذبحة، التي راح ضحيتها المصلون الأبرياء في شهر رمضان المبارك يعكس تخطيطاً هادئاً وتقديراً دقيقاً للأثر الذي ستتركه على المصالحة بين اسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. إذ يقول الصحافي الاسرائيلي حاييم بارام: "لقد كان غولدشتاين نجاحاً كبيراً. إذ لم يعد هناك أدنى شك في أن مفهوم الاتفاق المؤقت لم يعد وارداً، كما ان أوسلو انتهت".