اختار الرئيس الامين زروال في خطابه الأول الموجّه الى الشعب الشدة واللين معاً، أي الحوار ومحاربة أنصار العنف. وقال: "لن نتسامح مع الذين يحطّمون قدرات البلاد المادية والبشرية" مضيفاً "لا يمكن لأي سبب دينياً كان أم سياسياً أم ثقافياً ان يبرر الجرائم". وفي اشارة واضحة الى سياسته قال زروال انه سيعمل على إيجاد "الحل السياسي الدائم عن طريق الحوار في إطار مبادئ الجمهورية والتزام اختيار الشعب". "هل يحل حوار السلاح محل حوار السلام في الجزائر؟". هذا السؤال يطرح نفسه بإلحاح بعد فشل "ندوة الحوار الوطني" وتسلم الجيش مقاليد الأمور مباشرة. ولا يستبعد المراقبون ان تشهد الأشهر الستة المقبلة تصعيداً في المواجهة مصدره محاولة السلطة الجديدة "كسر شوكة" الجماعات الاسلامية المسلحة بهدف اضعاف موقفها في أية مفاوضات محتملة مع "الجبهة الاسلامية للانقاذ" المحظورة حالياً. ويجد هذا التوقع ما يدعمه في حديث أدلى به السيد يوسف الخطيب رئيس لجنة الحوار الى صحيفة محلية ذكر فيه "ان المجلس الأعلى للدولة اقترح على جبهة التحرير الوطني المشاركة في تسيير المرحلة الانتقالية حيث ستعطى الأولوية لاسترجاع السلم المدني...". وفسر الخطيب ذلك "بشن حرب من دون هوادة على الإرهاب". وحسب الخطيب فإن هذه الأولوية أخافت جبهة التحرير، متهماً مهري ورفاقه "بالخوف من اتخاذ موقف ضد الارهاب". ويكشف تصريح الخطيب نيات السلطة القائمة التي اعتمدت منذ الصيف الماضي خطة تستهدف فك الارتباط - أو إضعافه على الأقل - بين "سياسيي" الحركة الاسلامية - ممثلة أساساً في جبهة الانقاذ - و"عسكرييها". وتمثل فك الارتباط في الفصل بين الشيخ عباسي مدني الذي تعتبره السلطة من أنصار "المغالبة السياسية" والشيخ علي بلحاج نائبه الذي تعتبره من "دعاة العنف والارهاب". وتجلى ذلك في إبقاء الأول في سجن البليدة ونقل الثاني الى سجن تيزي وزو منطقة القبائل. وبناء على هذه الخطة من المتوقع ان يحاول الجيش الجزائري ضرب مواقع ونقاط تمركز "الجماعات الاسلامية المسلحة" بقوة، ما ينذر بربيع ساخن. السلطة البديلة وبداهة فإن المعارضة الاسلامية، بشقيها السياسي والعسكري، لن تبقى مكتوفة الايدي، وتتمثل خطتها اساساً في الكفاح المستمر لتوسيع نطاق مبادرتها السياسية والعسكرية. والجدير ذكره في هذا الصدد ان "الجبهة الاسلامية للانقاذ" كانت قبل حلها وحظرها في 4 آذار مارس 1992 تتصرف كسلطة بديلة تستمد نفوذها من ضعف وتردد السلطة القائمة إبان حكم الرئيس بن جديد. وبعد فترة "ذهول" من جراء كثافة القمع المسلط على أنصارها منذ وقف المسار الانتخابي، أخذت الجبهة تستعيد حيويتها وتمارس دورها كسلطة بديلة عنوة. ومن الشواهد الأخيرة على ذلك: - منع موزعي الصحف من بيع بعض المطبوعات المناوئة للجبهة خصوصاً في المناطق المحيطة بالعاصمة. - محاولة عناصر من الجبهة اجبار التجار على إغلاق محلاتهم في ساحة الشهداء في قلب العاصمة، وحدث ذلك في الثاني من الشهر الجاري، لكن بعد امتثال البعض "للأمر الاسلامي" جاءت الشرطة وطالبتهم بإعادة فتح محلاتهم! - توجيه رسائل تهديد الى عمال مصالح الضرائب ليكفوا عن مضايقة المواطنين وتحصيل "مبالغ تمول حرب السلطة القائمة على الاسلاميين". هذه الشواهد يمكن أن تزداد كثافة وانتشاراً، بهدف احداث قطيعة تامة بين السلطة والمواطن، ما يساعد على ظهور سلطة بديلة تفرض سيطرتها تدريجاً على زمام الأمور، من ناحية المواطنين على الأقل الذين يجدون أنفسهم أكثر فأكثر محاصرين بين مطرقة السلطة وسندان الاسلاميين. ويتوقع المراقبون أن يدفع انسداد آفاق الحلول السياسية وتصلب المتشبثين "بالحل الأمني"، الجبهات الثلاث الفائزة بانتخابات 26 كانون الأول ديسمبر 1991 الى التفكير الجدي في دعم التنسيق بينها، والالتفاف حول "جبهة الانقاذ" في مساعيها كسلطة بديلة. ولا يستبعد أن ينتهي بها الأمر الى تشكيل حكومة منفى، وهذا الاحتمال من المفروض ان يحسب له الرئيس زروال ألف حساب. العودة الى الشعب هذه الظاهرة يفسرها السيد عبدالحميد مهري الأمين العام لجبهة التحرير الوطني بتعلق الشعب بالديموقراطية الحقيقية التي تستوجب الاحتكام الى المواطنين والرضى باختيارهم. ويقول في هذا السياق: "لو كان الحكام الحاليون يعرفون تجربة الشعب مع الانتخابات ابان الاحتلال الفرنسي لما أقدموا على وقف المسلسل الانتخابي والغاء نتائج الدورة الأولى منها". ويشير مهري الى حقيقة تاريخية هي أن موقف ادارة الاحتلال الفرنسي في انتخابات ربيع 1948 الخاصة بتعيين أول مجلس جزائري، كان له أثر كبير في دعم مواقف المنادين بالثورة المسلحة، كوسيلة وحيدة للقضاء على النظام الاستعماري. والملاحظ أن الجبهات الثلاث تلتقي ضمنياً عند مطلب مشترك هو من نوع "السهل الممتنع". العودة الى الأوضاع الطبيعية في أحسن الآجال، أي العودة الى اختيار الشعب بأسرع ما يمكن. وتعبر السيدة لويزة حنون زعيمة "حزب العمال" عن هذا المطلب بعبارة جميلة هي "ان الديموقراطية لا تحتمل التأجيل". لكن هذا المطلب يتضمن سوء تفاهم كبيراً، يحول بسرعة أي حوار بين السلطة والمعارضة "الفعالة" الى حوار طرشان. فنية المقربين من الرئيس بن جديد كانت غداة الانتقال الفجائي من تجربة الحزب الواحد الى تجربة الديموقراطية والتعددية في مطلع 1989 الوصول الى نوع من "الديموقراطية" يزكي وجودهم في السلطة ويمد في عمرهم على رأسها. لكن مشروع "ديموقراطية التزكية" مني بالفشل الذريع سواء في الانتخابات المحلية 1990 أو في الانتخابات النيابية 1991، واستقر بدله مشروع ديموقراطي حقيقي مبني على سيادة الشعب من دون منازع. إلا أن هذه الحسابات الخاطئة قسمت المقربين من الرئيس بن جديد الى قسمين: الأول يتزعمه مولود حمروش رئيس الحكومة السابق، يرى أن "الجبهة الاسلامية" أو الظاهرة الاسلامية في الجزائر عموماً يمكن "تدجينها" وكسر شوكتها عبر لعبة الانتخابات والمشاركة في التسيير. ووحجة هؤلاء ان الثقل الانتخابي لجبهة الانقاذ ليس مخيفاً 3 ملايين من أصل 13 مليوناً مسجلاً في اللوائح الانتخابية، وان تجربة التسيير أفقدتها خلال 18 شهراً أكثر من مليون ناخب. وقسم آخر بقيادة الثنائي العربي بالخير وأبو بكر بالقايد كلاهما وزير سابق للداخلية يرفض هذه المغامرة ويروج لفكرة ان الاسلاميين يستخدمون الديموقراطية وسيلة فقط للوصول الى الحكم، وبعد ذلك سيكونون أول من يتنكر لها. وكما هو معروف كانت الغلبة للاتجاه الثاني في نهاية الامر، وهكذا تم وقف المسار الانتخابي واقالة الرئيس بن جديد وحل "الجبهة الاسلامية للانقاذ"، اكبر حزب فائز في الدورة الأولى من الانتخابات النيابية المعطلة. مغامرة استدراج الجيش من السابق لأوانه معرفة ما اذا كان الرئيس الجديد سيبقى أسير هذا التيار الذي حقق، بوصول زروال الى رأس الدولة احد ابرز مطالبه وهو تسلم الجيش مقاليد الحكم مباشرة. لكن مراقبين يعتبرون ان هذا الاستلام المباشر هو نوع من استدراج المؤسسة العسكرية الى معركة ليست مهيأة لها وبالتالي من الصعب ان تنتصر فيها، نظراً الى المخاطر الآتية: 1 - تراجع الجيش عن موقف التزمه منذ المصادقة على دستور 23 شباط فبراير 1989، وترجم هذا الموقف يومئذ بانسحاب ممثلي الجيش من اللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني. والغريب في هذا الصدد ان اللواء خالد نزار وزير الدفاع السابق ما انفك يعلن "ان السلطة لا تعنينا". 2 - تخلي الجيش عن دور الحكم في اللعبة السياسية، ليصبح طرفاً في مواجهة مباشرة مع جزء مهم من الشعب ممثلاً في "الاحزاب المهمة" وفي مقدمتها "الجبهات الثلاث". ومن شأن هذا التخلي ان يجعل من العسكر هدفاً سهلاً لدعاية المعارضة التي بدأت تركز في خطابها على "ان الجيش كان ولا يزال السلطة الفعلية منذ الاستقلال". 3 - احتمال ظهور الجيش بمظهر حامي الامتيازات الاجتماعية والسياسية "للأقليات الايديولوجية" المهيمنة على جهاز الحكم. كل هذه المعطيات تؤكد الاختلالات العميقة في نظام الحكم، وبعد فشل "ندوة الحوار الوطني" التي لم يحضرها حزب مهم واحد، كل الدلائل تشير الى اتجاه الخصمين الحاليين، السلطة والمعارضة الاسلامية، الى حوار السلاح، على الاقل طوال النصف الأول من العام الجاري. ومعنى ذلك، ان الرئيس زروال مرشح لأن يكون "أسير وضع" - مثل الرئيس بوضياف - الى اجل مسمّى.