الاعمار بيد الله وبعض الاعمار يتوقف عليها مصير حكومات وأمم. وربما ينطبق ذلك اكثر ما ينطبق ذلك اكثر ما ينطبق على آية الله الشيخ محمد علي الاراكي الذي اعلنت وفاته مساء الثلثاء 29 تشرين الثاني نوفمبر بعد ان قضى اكثر من خمسين يوماً في المستشفى وهو الذي يزيد عمره على المئة بعدد مختلف عليه من السنوات. واذا اردنا الظهر للشائعات التي راجت ان الشيخ كان بحكم المتوفى قبل الاعلان عن وفاته وان التأجيل انما تم لترتيب الاوضاع بعده فإن الثابت على الاقل ان القيادة الاسلامية في ايران ألقت على عاتق الشيخ عبئاً لم يكن من الناحية العملية قادراً على حمله كما انه لم يكن من الناحية الشرعية في وضع يؤهله لسد الفراغ الذي حدث بالوفيات المتتالية لعدد من "آيات الله العظام" الذين ملأوا مركز المرجعية في الجمهورية وخارجها بصورة رسمية. ويختلف المشهد من طهران اليوم اختلافاً عميقاً عما كان عليه يوم دخلها الامام الخميني عائداً من المنفى بعد اسقاطه الشاه وحكومته. والاختلاف في اكثر من جانب، وتلزم الاشارة اليه هنا في مجالين. لقد كانت شوارع طهران تضيق بالمتظاهرين المؤيدين للإمام العائد وكانت حوزاتها وحوزات النجف في العراق ايضاً تضيق بالفضلاء من العلماء المجتهدين الذين يضمون عدداً مهماً ممن يشار اليهم، ومنذ فترة طويلة بلقب آية الله وجلهم ان لم يكن كلهم كان مؤيداً للثورة في بدايتها على الاقل. المشهد المختلف واليوم لا تفتقد شوارع طهران وباقي مدن ايران فقط مشاهد المظاهرات التي وصفت ب "المليونية" بل ان حركة من التململ والاعتراض تكاد تحل مكان حركة المساندة والتأييد. وعلى صعيد الحوزات تغير المشهد ايضاً وهذا ما ينبغي التوقف عنده في مناسبة الكلام على مرحلة ما بعد الاراكي اذا صح التعبير لأن الرجل الجليل الفاضل لم تكن لمرجعيته مرحلة نفوذ حقيقية حتى يكون لها ما بعدها. وذلك لأن الاعلان عنه مرجعاً جاء فقط استجابة لحالة من الفراغ أدت اليها عوامل الزمان الطبيعية من وفاة عدد كبير من المراجع المعترف بهم وعوامل اخرى غير "طبيعية" من تدخل الحكومات والاوضاع السياسية عموماً التي منعت تطور بعض المرجعيات ووصولها الى مركز المرجعية العليا. اذا عدنا الى اوائل الثمانينات نجد ان الحوزات العلمية الشيعية في العراق والنجف تعيش على الصعيد الفقهي والديني وضعاً مستقراً راسخاً في ظل مرجع اعلى معترف به من الجميع هو الامام الخوئي الذي كان يقيم بين النجف والكوفة في العراق. وتتوزع مناطق ايرانوالعراق وبقية مناطق تواجد الشيعة في العالم العربي الاسلامي على مرجعيات كبيرة او صغيرة يحكمها نوع من التراتب القائم وفق اسس علمية وفقهية متوارثة. وعندما تقدم الإمام الخميني وسيطر على المشهد السياسي في ايران وأخذ يلعب دوراً نافذاً ومؤثراً خارجها انما كان ينطلق من الصفوف الامامية للمرجعية وعزز العامل السياسي موقعه على حساب أقرانه الذين كانوا كثيرين نسبياً وبعضهم كان يزاحمه حتى في القيادة السياسية دون ان يكون هو قادراً على مزاحمة بعضهم الآخر بالقيادة، الفقهية. ولكن الساحة بدأت تفرغ من هؤلاء اما بعامل الوفاة الطبيعية كما ذكرنا سابقاً واما بتدخل العامل السياسي. واجتمع العاملان معاً على ابعاد آية الله محمد كاظم شريعة مداري الذي فرضت عليه الاقامة الجبرية بعد شهور قليلة من انتصار الثورة حتى توفي في العام 1405 هجرية وفي العام نفسه توفي السيد احمد الخونساري الذي كان يمثل حالة مرجعية تعيش في طهران. وعندما توفي الإمام الخميني في العام 1410 ه حزيران 1989 كان قد سبقه آية الله مرعشي نجفي ولم يبق من الاربعة الكبار الذين ضمهم لقاء يتيم غداة انتصار الثورة وهم الخميني، مداري، نجفي، كلبايكاني سوى الاخير منهم وهو السيد محمد رضا الكلبايكاني الذي أتيح له ان يلعب دور المرجع الاعلى لمدة قصيرة لم تتجاوز السنة بعد وفاة الإمام الخوئي في النجف صفر 1413 ه آب / اغسطس 1992. وهكذا نجد ان وفاة الإمام الخميني لم تحدث فراغاً مرجعياً فقهياً على صعيد الاجتهاد والافتاء عند المسلمين الشيعة لأن الجانب الاكبر من هذه المهمة كانت تملأها اجتهادات وافتاءات الإمام الخوئي وتلامذة مدرسته الفقهية. ومن المعروف ان حكومة الجمهورية الاسلامية لجأت اكثر من مرة الى هذه الاجتهادات والافتاءات لتسيير امور الدولة وفق الفقه الامامي الجعفري. ولكن ذلك لم يمنع حدوث الفراغ من الجانب السياسي لمقولة ولاية الفقيه. فمن المعروف انه منذ انتصار الثورة الاسلامية تم اختيار آية الله الشيخ حسين منتظري كخليفة للإمام الخميني في قيادة الثورة وفي تبوء منصب ولاية الفقيه الذي تأسست الجمهورية الاسلامية على نظرية خاصة حولها بلورها الامام الخميني نفسه ولم تكن موضع اتفاق بين المراجع الكبار آنذاك. ومن المعروف ان الخميني اباح قبل وفاته الفصل بين منصبي قائد الثورة وولاية الفقيه والاجتهاد. وهكذا امكن بعد وفاته ان يحتل السيد علي خامنئي منصب قائد الثورة وان يقسم منصب القيادة الفقهية بين الكلبايكاني سنة 1412 ه 9 كانون الاول - ديسمبر 1993 أي قبل حوالي عام من الآن. ولكن الظروف الصحية للشيخ الاراكي وكبر سنه جعلت ممارسة المرجعية الفقهية تنحصر في المجال المعنوي ولم تمتد الى النطاق العملي، وشكلت مرجعيته وكذلك مرجعية السيد كلبايكاني، للظروف نفسها، ان بدرجة اقل، حالة انتقال في ظل فراغ المساحة من مراجع ملأوا منصبهم ولعبوا دورهم كاملاً غير منقوص سواء تمثل ذلك بالمرجعية الفقهية العليا للامام الخوئي ام بالقيادة الفقهية السياسية للامام الخميني واذا كان منصب المرجع الاعلى يعيش مرحلة انتقال منذ وفاة الخوئي فإنه انتقال يندرج في اطار الموروث التقليدي للمرجعية عند الامامية الجعفرية ذلك انها تتجمع في شخص خلال مرحلة محددة ثم تتوزع على عدد من المراكز في مرحلة لاحقة قبل ان تستقر من جديد عند شخص واحد في مرحلة لاحقة لأن مثل هذا المنصب لا يخضع لعملية انتخاب مؤسساتية بل لعملية توافق تدريجي يتولد من جملة عناصر تعده للفقيه نفسه: اعلميته، شهرته، كبر سنه، واخرى تعود للظرف الاجتماعي والسياسي المحيط به، اذا كان يمكنه ام لا من الاتصال بمركز حوزوي مهم وادارة دروس عليا في الفقه والاصول واستقبال استفتاءات المؤمنين بمرجعيته واتساع نطاقها وتوجههم نحوه في معاملاتهم ودفعهم للحقوق الشرعية من خمس وزكاة وصدقات لصرفها بمعرفته وعن طريقه في الوجوه التي نصت عليها الشريعة وفق فهم المذهب الجعفري لهذه الوجوه. القيادة والولاية ومنتظري الفراغ الذي حصل، بعد وفاة الخميني، في منصب الفقيه الولي الذي يجمع قيادة الثورة الى ولاية الاجتهاد والافتاء هو فراغ قد يودي بالنظرية نفسها خصوصاً انها نظرية ذات تجربة حديثة على مستوى التطبيق وانحصرت ممارستها بالامام الخمسيني نفسه وتوقفت تقريباً بعد وفاته. وتشكل وفاة الشيخ الاراكي على هذا الصعيد محطة جديدة في التحدي الذي واجهته هذه النظرية منذ وفاة الامام الخميني. وتجد القيادة في الجمهورية الاسلامية نفسها امام خيارات صعبة: اما تعلن عن جمع السيد على خامنئي في شخصه منصب ولاية الفقيه اي ان يعتبر المرجع الأعلى في الفقه والاجتهاد كما في قيادة الثورة وبذلك تعود للنظرية بعض المصداقية في امكان تطبيقها ولكن هذا سيجعل القيادة الايرانية في مواجهة مباشرة مع دوائر حوزوية فضلت تجنبها حتى الآن. واما التسليم بالفصل النهائي بين المنصبين وهو الامر الحاصل منذ وفاة الخميني، ولكنه سيدخل مرحلة جديدة تفتقد فيها الثورة المرجع الكلبايكاني والاراكي. ذلك ان الاسماء التي قد تزداد مرجعيتها قوة بعد وفاة الاراكي لا توفر مثل هذا الشرط. على العكس من ذلك يبرز من داخل مدرسة نظرية ولاية الفقيه العامة والمطلقة الشيخ حسين علي منتظري الذي أبعده الإمام الخميني عن خلافته بسبب اعتراضاته على سياسة القيادة الايرانية في مجالات السياسة الداخلية وكذلك في مجال الحرب العراقية - الايرانية حيث يشاع ان منتظري كان مع وقف مبكر لهذه الحرب من جهة وانه مع اجراءات ديموقراطية في الداخل من جهة ثانية. والمؤشرات كثيرة ان مرجعية منتظري قد توسعت خلال فترة ابعاده عن خلافة الخميني وان اي ارتباك يحصل في مجال تعيين خليفة الاراكي قد يكون لصالحه وأحد اتباع نظرية ولاية الفقيه نفسها رغم ما يقال عن بروز تعديلات لدى منتظري حول هذه النظرية. مرجعية الروحاني ومن خارج مدرسة الولاية العامة المطلقة تبرز مجدداً مرجعية السيد محمد الروحاني الذي تمكن رغم الظروف المعيقة التي تحيط به من ان يوفر لمرجعيته نمواً واستمرارية داخل ايران وخارجها وهذا ما يحرج القيادة الايرانية لأن مرجعية الروحاني تتصادم في هامش واسع مع اجراءات هذه القيادة ومع مواقفها وآرائها، تجاه الحوزة خصوصاً والوضع في ايران عموماً وهي اقرب لأن تكون مرجعية معادية لها وليس من السهل ضمان احتوائها والوصول معها الى حل وسط كما سبق ذلك مع مراجع اخرى. اللنكراني والتبريزي واذا تتبعنا الاسماء المرشحة للمرجعية بعد الأراكي من داخل ايران نفسها وهنا لا بد من الاشارة الى ان قيادة الجمهورية الاسلامية حريصة على عدم انتقال المرجعية الى خارج ايران مهما تكن الظروف نجد اسماء مثل الشيخ فاضل اللنكراني مواليد 1929 الذي لم يتردد في القول ل "الوسط" في العدد 115 نيسان ابريل 1994 انه مرشح للمرجعية موضحاً ان "تعدد المراجع على مدى التاريخ كان امراً مقبولاً، وقد توزعوا بين قم والنجف وطهران ومشهد". ومضمون هذا الكلام واضح في انه لن يقبل بالضرورة مرجعية فقهية للسيد خامنئي. ويبرز الميرزا جواد التبريزي وحظه في الوصول الى المرجعية اكبر بكثير من اللنكراني وربما كان الابرز في ايران بعد الروحاني والمنتظري. وفي مقابلته مع "الوسط" رفض مجرد التحدث في هذا الامر فهو ينتمي الى مدرسة الامام الخوئي ويقول بوضوح "انا لا احب الحديث في المسائل التي لا صلة لها بدروس الدين". ويضيف انه متفرغ للبحث والتدريس وانه لا يتدخل مطلقاً في امور المرجعية والذين يعرفون الميرزا التبريزي يتحدثون عن علو كعبه في مجال البحث والتدريس وانه بين المدرّسين القلائل الذين يجتمع تحت منبرهم حوالي الف طالب في الدروس العليا للفقه والاصول. والمرجعية اذا انعقدت لمثل هذا المجتهد الكبير لن تكون من النوع الذي ليس من السهل احتوائها. الصدام مع الحوزة هل يعني ذلك ان الاحداث مقبلة على صدام بين الحوزة والقيادة الايرانية دينية وسياسية؟ مؤشرات كثيرة ترجح هذا الاحتمال ولكن نظرة واقعية تؤكد ان السلطة وعلى رأسها السيد علي خامنئي لن ينجر الى مثل هذه المواجهة وسيمارس سياسة النفس الطويل التي تترك للتفاعلات داخل الجسم الحوزوي ان تأخذ مداها. طبعاً شتشهد المرحلة المقبلة توتراً اكبر في العلاقة مع مرجعية كل من منتظري والروحاني ولكن الهدوء سيستمر على جبهة مرجعية السيستاني ويشكل هذا الاخير الفرصة التي يملك ان يلتقي عندها اكثر من طرف كي يحفظ للمرجعية مكانتها من جهة وكي يضعها في صدام مباشر مع طهران. ويعتقد الكثيرون ان السيستاني هو الاستمرار للخوئي ليس فقط كونه تلميذه الذي اختاره للحلول مكانه في الدرس والصلاة. بل لكونه القادر على حفظ استقلالية المرجعية في بحر متلاطم من التيارات السياسية المتضاربة وفي ظل صراعات اقليمية ودولية كبرى. ومثل هذا الاكتفاء نفسه يحتاج الى عوامل عادلة في مرحلة هي الأشد حراجة. ولكن من المعروف انها تثبيت مصداقية ولقد مرت المرجعية عبر تاريخها الطويل بصعاب مماثلة تمكنت من تخطيها لأن آلية خاصة تحكم صيرورتها وهي آلية من الصعب القضاء عليها او تعطيلها.