تحل الذكرى السنوية الاولى لوفاة المرجع الشيعي الاعلى ابو القاسم الخوئي هذا الشهر، فيما امر خلافته لم يحسم نهائياً، على رغم شبه الاجماع على مرجعية محمد رضا الكلبايكاني ... وآخرين غيره. ومرد هذا الوضع الى عوامل عدة ابرزها ان صحة الكلبايكاني عمره 96 عاماً تجعل امر المرجعية في تداول مستمر. وثانيها التنافس او الصراع على هذا الموقع بين تلامذة الخوئي وهم كثر. وثالثها التطورات السياسية في كل من ايرانوالعراق، البلدين اللذين كان ولا يزال لهما تأثير كبير في امر المرجعية ... يضاف اليهما لبنان ايضاً حيث بعض تلامذة المرجع الراحل. التنافس او الصراع مفتوح، في الميدانين السياسي والديني، بين العراقوايران، وبين قم والنجف ... وبين المراجع المنتشرين بين هذين البلدين وحتى لبنان ودول اخرى بينها افغانستان وباكستان. "الوسط" تسلط الضوء على موضوع المرجعية الشيعية، خصوصاً ان مؤسسة الخوئي الخيرية في لندن عقدت اجتماعاً عشية الذكرى الاولى لغياب المرجع الاعلى، وبايعت الكلبايكاني في رسالة بعثت بها اليه، في حين ان عدداً من العلماء الشيعة يعتقد بأن مستقبل المرجعية سيشهد حرارة في المرحلة المقبلة، اعلى مما هي الحال الآن. عام مضى على رحيل السيد ابو القاسم الخوئي، المرجع الاعلى للشيعة اب/ اغسطس 1992، ولم تستقر امور المرجعية على حال واضحة بعده. وبلغ الاضطراب في اوضاع المرجعية ذروته بوفاة الخوئي، لكن جذوره تعود الى السبعينات، اذ شهدت هذه الفترة تطورات سياسية جعلت من وراثة مرجعيته امراً يدخل في صلب الصراعات السياسية الاقليمية. والسياسة ليست العامل الوحيد المؤثر في حالة عدم الاستقرار هذه، اذ ان جزءاً منها يعود الى شخصية الخوئي وطبيعة مرجعيته لشموليتها واتساعها اللذين نادراً ما عرفتهما مرجعيات سابقة. هذا كله جعل ظلاله تمتد الى مرحلة ما بعده. تذهب المقارنة، في هذا المجال، الى ان ما يحصل الآن في مرحلة ما بعد الخوئي يشبه الى حدٍ كبير ما حصل بعد محمد بن الحسن الطوسي توفي 460 ه/1067 م شيخ الطائفة ومعمق اسس المذهب. وحكم الطوسي بتراثه الفقهي والاصولي مرجعية الامامية حوالي قرن من الزمن قبل ان يتقدم فقيه مجدد فيسلط تأملاته النقدية على تراثه. وسجل تاريخ الفقه الجعفري الامامي ان محمد بن ادريس الحلي، سبط الطوسي اي حفيده لابنته، توفي 598 ه هو اول من ناقش بجرأة الآراء الاجتهادية لجده. وكما في حالة ما بعد الخوئي فان الجمود في التجديد الفقهي بعد الطوسي لم ينفصل عن تطورات سياسية اثرت في المناخات الفكرية ومنها الفقه في تلك الفترة. فقد عرفت مرحلة الطوسي فترة من الاستقرار السياسي في ظل الدولة البويهية قبل ان تهب رياح الفتن في اواخر حياته، اذ اجبر على ترك بغداد والذهاب الى النجف. وكان وصوله الى النجف بداية قيام حوزتها التي تعد الحوزة الام لكل حوزات الفقه الجعفري. التطور المحتمل للمرجعية في ما بعد مرحلة الخوئي محكوم بمسارين: فمسار الحوزات والمدارس الفقهية في النجف العراق وقم ومشهد ايران وربما جبل عامل لبنان. والمسار الثاني يتمثل في تطور الاحداث في الوضعين الايرانيوالعراقي: الوضع الداخلي لكل منهما والوضع المتصل بالعلاقة بينهما. المرجعية السياسية اعتادت المرجعية الشيعية ان تعيش تعقيدات الوضع السياسي وتتأثر بها وتؤثر فيها. وهذا قديم قدم المرجعية نفسها. لكن ما يميز الوضع الحالي هو بروز ما يمكن تسميته المرجعية السياسية. اذ ظهرت في العقدين الماضيين، خصوصاً في العراق وإيران ثم في لبنان، قيادات ومرجعيات حققت شهرتها وأهميتها من دورها السياسي اساساً وليس من خلال دورها الفقهي كما كان الأمر غالباً في العصور الماضية. ولا ينفصل هذا التطور عن تطور آخر شهده العالمان العربي والاسلامي وتمثل في صعود التيارات الاسلامية وممارستها دوراً اكثر اهمية في الحياة السياسية في بلدان عدة من بلدان المنطقة. ومثّل هذا التطور لبعضهم انقلاباً في دور المرجعية الدينية. وهذا يعود الى اختلاف في فهم المقولة الشائعة - وهي في اية حال مقولة يتفق عليها معظم فقهاء المسلمين - ان الاسلام دين ودولة. وهناك من يتوسع في تطبيق هذه المقولة فيرى من خلالها الدين والسياسة خطين دائريين متطابقين. وهناك من يُضَيِّق التفسير الى حد ابراز دائرتين تستقل احداهما عن الاخرى استقلالاً تاماً. والواقع ان التاريخ الاسلامي عايش دائماً نوعاً من الفصل الوظيفي بين السياسي والديني هو أقرب الى مبدأ الفصل بين السلطات في انظمة الحكم الحديثة. وتطابق الدائرتين وانفصالهما مثل تقاطعهما لا ينبثق من الداخل الفقهي فقط، بل للخارج السياسي دور كبير في ذلك. واذا عدنا الى اوائل القرن نجد ان كتاب اصول الحكم في الاسلام لعلي عبدالرزاق ينفي كل صلة للاسلام بالدولة والحكومة. وقبله كان فقهاء المسلمين في العراقوايران منقسمين على المشروطة والمستبدة، اي على الحكم الدستوري والحكم المطلق. ثم تطابقت الرؤى الاسلامية في القضايا السياسية من حيث المنهج مع الرؤى القومية وأحياناً العلمانية، وان ظل الخلاف مع هذه التيارات واسعاً في مجال الايمان والعقيدة الدينية. وتحول التيار الاسلامي الى خط الدفاع او التلاؤم مع الطروحات السياسية القائمة فازدهرت البحوث حول الاشتراكية في الاسلام وحول القومية والاسلام وما شابه من طروحات رائجة في الفكر السياسي غير الديني. وفي هذه المرحلة كان من السهل على الذين يفصلون الفقه والاصول عن شؤون السياسة، وكذلك الذين يرون ان الفعل السياسي للدين مؤجل لعدم توافر شروطه، ان ينكبوا على دراساتهم الفقهية والاصولية. وفي هذه الفترة بالذات كان الامام الخوئي يرسخ موقعه كاستاذ في حوزة النجف متدرجاً حتى وصل الى ان يلقب بزعيم الحوزة واستاذها الأول، وذلك مع وجود مراجع كبار مثل السيد محسن الحكيم والسيد عبدالهادي الشيرازي. وان كان في تلك الفترة لم يتردد في اصدار مواقف وبيانات تتعلق بالنشاط الصهيوني في ايران ويندد بهذا النشاط ويدعو الى مواجهته. وكذلك لم يتردد في حمل لواء قضية الامام الخميني الذي بدأ أول خطواته نحو المرجعية بموقف سياسي مدو نفي على اثره من ايران الى النجف حيث وجد الدعم والتأييد من الحوزة ومن الامام الخوئي خصوصاً. ولكن كان للرجلين نهجان مختلفان في معالجة الشأن العام وترتيب الاولويات. وظل الخميني الى جانب وضعه الفقهي يتقدم في الساحة السياسية. في حين كان الخوئي الى جانب بعض اهتماماته بالقضايا العامة يكرس حياته لخدمة العلوم الدينية وتطوير مناهجها ومبانيها. تفاهم بين الخوئي والخميني ومن الواضح ان الشأن السياسي المباشر لم يكن غائباً عن اهتمام الخوئي الاستاذ والمرجع. ولكن حصل نوع من التفاهم الضمني بينه وبين مرجع تلك الفترة السيد محسن الحكيم الذي اخذ يكرس وقته للشأن السياسي ويخوض مواجهة مع الحكم في العراق تقتضي مهادنة للنظام في ايران، في حين كان الخميني يخوض المعركة في مواجهة نظام الشاه، وبمقتضى ذلك يمارس هدنة غير معلنة مع النظام في بغداد. في هذا الوقت كان الخوئي يعمق مسيرته الفقهية الاصولية، يحدد المباني ويوسع المطالب. وكان الى حد ما يشكل الجبهة الخلفية لكل من المرجعين، وربما كان هو خط الدفاع الثاني الذي لا بد منه في كل مواجهة سياسية او عسكرية. وانتهت المواجهة التي خاضها الحكيم لمصلحة النظام، وكان انتقالها الى السيد الخوئي يعني وضعه في مواجهة السلطة الصاعدة التي كانت قادرة على سحق كل تحرك معارض لها ديني او غير ديني. وعاش الخوئي موقفاً دقيقاً بين المحافظة على نهجه باعطاء الأولوية لحماية الحوزة واستمرار التدريس فيها، على اعتبار ان الحفاظ على الحوزة وصون استقلالها يعدان مكسباً، بدل ان ينقلب على نهجه ويخوض مواجهة هي على الارجح مواجهة خاسرة. واشتد ضغط الاحداث عليه في مناسبات عدة، عندما قام الحكم العراقي بحملات ترحيل متتابعة لمن اعتبرهم ايرانيي التبعية، ومن بينهم وجوه الحوزة واعلامها كما كانت من بينهم عائلات مضى على استيطانها النجف عشرات السنين. بل بينهم من كان اجدادهم يعيشون في العراق منذ مئات السنين ولا صلة لهم كبيرة او صغيرة بايران. وواجه الخوئي ضغوطاً من نوع اعتقال عدد من طلاب الحوزة ومدرسيها واعدام عدد آخر منهم، لكنه واصل نهجه وتمسك بالأولويات كما يراها. وهذا ما استدعى حملة من النقد له وصلت الى حد التشكيك في اوساط كثيرة تبدلت بتبدل الحدث وظروفه. الثورة في ايران ومع انتصار الثورة في ايران بقيادة الامام الخميني، كان طبيعياً ان يزداد التشدد في تطابق الدائرتين الدينية والسياسية ويصبح من يدعو الى شيء من الفصل بينهما في موقع الاتهام. وعلى رغم تأييد الخوئي الثورة ودعوته الى الاقتراع لمصلحة الجمهورية الاسلامية، فان الاحداث كانت تسير في اتجاه لا يتفق مع اقتناعه بالتطور التدريجي وليس بالتغيير المفاجئ، والعنف الثوري. وكان يرى ان لا داعي لممارسة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر اذا كان الضرر اكثر من النفع. ولم يكن يرى ما يضمن ان السلطة الآتية ستكون افضل من السلطة الراحلة من حيث العدالة واقترابها من قوانين الشريعة. كما انه لم يكن يحبذ ان يمارس رجل الدين مهمات سياسية، واذا كان لا بد فان من واجب الفقيه، في اعتقاده، التوجيه والارشاد، يحصر ولاية الفقيه في أضيق نطاق ولا يقبل بالتوسع الذي يجعلها ولاية عامة على أساس ان مثل هذه الولاية امر اختص به الامام المعصوم وحده من دون غيره. ومارس الفقهاء الشيعة ادواراً سياسية اجتماعية بمعظمها، وفي القرن المنصرم تحسب لهم مواقفهم في ثورة التنباك 1895 واحداث المشروطة والمستبدة 1905 في ايران، وتحسب لهم معركة الكوت وثورة العشرين في العراق. ثم كان لهم دور في احداث حركة مصدق 1952. لكنهم قلما كانوا في موقع السلطة او في دولة تحكمها سلطة صديقة لهم. وعلى هذا الصعيد هناك تجربتان بارزتان قبل قيام الجمهورية الاسلامية في ايران: واحدة تعود الى عصر الدولة البويهية في القرنين الرابع والخامس للهجرة، والثانية تعود الى عصر الدولة الصفوية في العراق. في العهد البويهي كان الفقه الجعفري يتمتع بأجواء الحرية من دون ان يكون الفقه الحاكم. وكان الفقيه الجعفري يشعر بأنه مستقل عن آلية السلطة وليس في موقع الفقه الحاكم. بعد بضعة قرون، او عندما دخلت ايران في ظل الحكم الصفوي كانت الصورة اكثر تركيباً، خصوصاً بعد اعلان المذهب الامامي مذهباً رسمياً للدولة. وتجلى تعقيد الموقف في تركيبة السلطة الصفوية نفسها ومدى توافقها مع الفقه الجعفري. ثم ازداد التعقيد نتيجة الصراع الصفوي - العثماني والمسلمون الشيعة ينتشرون في بلاد واقعة تحت كل من الحكمين. هنا تجلت معطيات فقهية بعضها ساهم في البناء النظري للدولة وقدم مساهمات فقهية مهمة في هذا المجال، ولكن ما لبث الفقيه ان انفصل عن السياسي الذي اراد ان يجعل منه واجهة لأهدافه السياسية. ظاهرتان في المنطقة ومن السهل المقارنة بين ما حصل من مواقف الفقهاء المراجع خلال الدولة الصفوية وما حصل من مواقف مشابهة للفقهاء الشيعة بعد الثورة الاسلامية، ومن السهل ايجاد الاصناف الثلاثة باستبدال اسم باسم. ولكن حقيقة الوضع اكثر تعقيداً. فالثورة قامت في ايران في مناخ سياسي عام في المنطقة محكوم بظاهرتين: - الأولى ظاهرة انتشار حركات الاستقلال الوطني التي ترفع شعار العداء للغرب عموماً وللولايات المتحدة خصوصاً. ومثل هذا الشعار له ما له من اصداء في الواقع الشعبي نتيجة الوضع في فلسطين وعدد من المقولات السياسية والفكرية الرائجة. - الثانية ظاهرة انتشار الاصولية الاسلامية وأخذها مساحة واسعة من الخارطة السياسية على حساب القوى القومية الليبيرالية واضعافها دور القوى الاسلامية التقليدية التي تميل الى الابتعاد عن ممارسة السياسة المباشرة. ومع قيام الحرب العراقية - الايرانية كانت المرجعية في النجف بين فكي كماشة من يسار ويمين، فكل يريد ان يأخذ منها ما يناسب شروط معركته السياسية والعسكرية: التيارات المؤيدة للجمهورية الاسلامية التي استقطبت في بعض المراحل قطاعات عريضة من الناس، والتيارات المؤيدة للحكم العراقي التي اعلنت ما يشبه الاستنفار على مستويات عدة. وكانت هذه المرحلة اياماً صعبة عاشتها المرجعية خصوصاً عندما اعدمت السلطات العراقية محمد باقر الصدر، وفي فترة لاحقة مجموعة من رجال الدين من آل الحكيم. وكذلك عندما وصلت الحرب بين البلدين الى درجة عالية من التدمير. وكاد السياسي هنا ان يقضي على الفقيه، وارتفع شعار الخروج من النجف وارتفعت شعارات اخرى مقابلة. وغطت دائرة السياسي كل دوائر الديني. وكسرت المرجعية في النجف بعض حلقات الحصار وحللت بعضها الآخر. ومارست دوراً في اعانة اللبنانيين خلال الغزو الاسرائيلي في العام 1982. ودعمت جهاد الافغان ضد الاحتلال السوفياتي. ومارست ضبط النفس في المواقع الاخرى. لكن ارتفاع حدة الاستقطاب بين السياسي والديني قدمت الى المرجعية بعض نقاط القوة، فحصل التفاف ديني غير سياسي حول المرجعية في مناطق عدة من انتشار الشيعة، وكان ذلك مصدر قوة تمويلية من جهة وقوة انتشار من جهة اخرى. وتوسع المدى الذي تتحرك فيه المرجعية. وانفتحت امامها آفاق جديدة من العمل المؤسساتي خارج العالم الاسلامي وفي بعض البلاد الاسلامية التي اهملت تاريخياً كالعمل في الهند وتايلاند... الانتفاضة في العراق والتطورات السياسية نفسها اعادت الى المرجعية موقعها فتواصلت من جديد مع قطاعات غلب عليها الهم السياسي، او كان الدين ملجأ لها لتواجه ما تعانيه من اضطهاد على الصعيد السياسي. وكان هذا هو وضع العراقيين غداة وقف اطلاق النار في حرب الخليج الثانية وقيام الانتفاضة في معظم المناطق والمدن العراقية والتفت قطاعات واسعة حول المرجعية. وحاول الديني مجدداً ان يؤطر السياسي ويرشده فأصدر السيد الخوئي بعد أيام من الانتفاضة بيانات حاول فيها وضع حد للفوضى وتنظيم شؤون الناس بعدما تحول، مختاراً او مجبراً، رمزاً للانتفاضة. وفي هذه المرحلة صنعت القطاعات الشعبية لمرجعها الصورة التي تريد. وثبت هنا انها تريد قيادة دينية تقود مسيرتها. واثر فشل الانتفاضة تعامل النظام الحاكم مع المرجعية انها قيادة الانتفاضة واعتقل الخوئي نفسه وكل جهاز مرجعيته وعدد من اولاده وكذلك اعضاء مجلس الافتاء وكتبة رسائله. وبعضهم ما زال في السجن حتى الآن. وأدت الضجة العالمية الى الافراج عن الخوئي لكنه وضع في شبه اقامة جبرية قبل ان يتوفى بحوالى 16 شهراً. وبرزت اشاعات لم تؤكد ان موته ربما كان مدبراً. وقبل الانتفاضة حدثت تطورات عدة اعادة زمام الامور الى الخوئي وجعلته المرجع الاعلى والوحيد بين اقرانه. ومن هذه التطورات توقف الحرب العراقية - الايرانية ووفاة الامام الخميني. وكانت لذلك نتائج مباشرة على الصعيد الفقهي، اذ تراجعت نظرية ولاية الفقيه العامة مع وفاة الخميني. وتراجعت الاشارات الى ان الخوئي يشكل مرجعية غير ثورية، اولاً لأن الثورية لم تحقق النتائج التي كانت متوقعة، وثانياً لأن الانتفاضة اعطت للخوئي بعداً سياسياً كان ينقصه كي يرضي الشباب الصاعد من مقلديه. وهكذا يمكن القول ان مرجعيته كانت يوم وفاته في ذروتها. وكان مقلدوه يريدون ان يستبقوه مدة اطول على رغم بلوغه الپ95 سنة. لأنه تحول الرمز الوحيد الذي يحظى بشبه اجماع. وقد عبر عن ذلك بيان علي خامنئي مرشد الثورة في رثائه عندما وصفه بأنه "آخر السلف الصالح". في حين وصفه ديبلوماسي اميركي بأنه "رمز المطالبين بالحرية". وورد المعنى نفسه في برقية التعزية التي وجهها الرئيس الاميركي السابق جورج بوش الى عائلته. تنافس بعد غياب الخوئي لكن كل ما هو ايجابي في مرحلتة قد تكون له نتائج سلبية في مرحلة اخرى. وهكذا تحولت كثرة طلاب الخوئي من بين كبار العلماء الشيعة المرشحين لشغل منصب المرجعية الى حالة تنافس حادة بينهم مرة، وبينهم وبين من بقي من بعض اقرانه عمراً ومكانة، وان كانوا اقل شهرة مرة ثانية. وتحولت الامكانات المالية التي تركها لمؤسساته مشكلة، اذ كيف تدار ومن له الحق في الادارة. وفي معظم "الاحيان يخرج التنافس على المال كما على المناصب عن الموضوع ويتحول في بعض زواياه الى جوانب يغلب فيها الذاتي على الموضوعي، وحتماً السياسي على الديني. هذه العوامل ترافقت مع تنافس تقليدي على حيازة منصب المرجعية بين مدرسة قم ومدرسة النجف، وكذلك بين حكومة طهران وحكومة بغداد. وهناك نزوع لا يلقى التشجيع الكافي لدى بعض اللبنانيين كي يستعيدوا الدور الرائد الذي لعبه جبل عامل جنوبلبنان في مراحل سابقة على صعيد المرجعية، وطرحت في هذا المجال مرجعية الشيخ محمد تقي الفقيه. هذا التنافس لا يدور في ظروف عادية. ففي طهران حكومة غير عادية، بل هي حكومة الولي الفقيه التي ربما طالبت بالولاية على كل الشيعة وفق النظرية التي تقوم على اساسها. وبالتالي قد ترى ان المرجعية جزء من مهماتها، وعلى الاقل هي معنية بتحديد من يتولى هذا المنصب وأين يتمركز. وفي بغداد حكومة غير عادية تبرز استثنائيتها في صراعها الطويل ضد المرجعية وسعيها الى تقليص دورها واخضاعها، وفي الوضع الحالي للعراق اقليمياً ودولياً في ضوء قرارات مجلس الامن الصادرة ضده. اذن، الانتقال من الخوئي الى من بعده لا يتم في ظروف عادية. وحتى في لبنان، الساحة الثالثة المرشحة لأن تقدم مساهمة من الناحية الفقهية والاعلامية والسياسية في اختبار المرجعية، يعيش اضطراباً سياسياً. من هنا ظل الدور الابرز في ترجيح كفة هذا المرجع على ذاك، يقع على عاتق طرفين لهما دور بارز في مد المرجعية بالاموال اللازمة لتحريك عجلة مؤسساتها من مدارس وحوزات ومؤسسات خيرية ورعاية المعوزين والمحتاجين والمنكوبين، وهما اتباع المرجعية في المنطقة خارج العراقوايرانولبنان واتباعها في اوساط بعض الجاليات العربية والهندية والافريقية في اوروبا وبلاد المهجر الاخرى. هذان الطرفان لا يتدخل في خيارهما عموماً عامل سياسي او جغرافي، بل ان العامل الديني يحسم الامر الى حد بعيد. وهما كانا دعامة كبرى من دعائم مرجعية الخوئي. وتوجها بعد وفاته الى دعم مرجعية السيد جمال الدين الكلبايكاني المقيم في قم. وفي العراق طرحت مباشرة بعد وفاته مرجعية السيد عبدالاعلى السبزواري وهو اقل شهرة من الكلبايكاني. وزاد في اضعاف مرجعيته الوضع السياسي المحيط بالنجف خصوصاً والعراقي عموماً. وساهم في ذلك وضعه الصحي. والواقع ان كبر السن يطرح تساؤلات حول استمرار مرجعية الكلبايكاني نفسه، وهو الذي رست عليه، الآن، اكثرية التقليد لدى الشيعة. ولكثير من الاعتبارات ينظر الى الوضع المرجعي القائم انه وضع انتقالي، وبالتالي فان الصراع مفتوح منذ الآن على المرجعية ما بعد الكلبايكاني في صورة اكثر حدة مما كان عليه الامر في حياة الخوئي، خصوصاً الكلبايكاني كان اكبر سناً من الخوئي نفسه. وهو يعيش منذ بضع سنوات وضعاً صحياً قلقاً. صرعان بعد الكلبايكاني لذلك برزت اسماء عدة من الطبقة التي تلي سناً طبقة الكلبايكاني والسبزواري، ومن ابرز الذين اعلنوا تصديهم للمرجعية بنشر رسالة عملية وما شابه، يرد عادة السيد محمد الروحاني في قم والسيد علي السيستاني في النجف وكلاهما من تلامذة الخوئي البارزين. والواقع ان التنافس، ان لم نقل الصراع، المفتوح منذ الآن على المرجعية بعد الكلبايكاني يقوم على محورين: تنافس او صراع قمي - نجفي، وتنافس او صراع بين مجموعة من تلامذة الخوئي المنتشرين في قم ومشهد والنجف وبعضهم في لبنان. وتجدر الملاحظة هنا الى ان المرجعية ستكون لفترة طويلة في تلاميذ الخوئي وستكون لمدرسة النجف سواء كان المرجع مقيماً في النجف ام في غيرها، لأن معظم المجتهدين المؤهلين للمرجعية هم الآن من خريجي مدرسة النجف. هكذا تمد مدرسة النجف بظلها على مجمل النشاط الفقهي الشيعي داخل النجف وخارجها. وقيل انه في احدى المناسبات احصي وجود اكثر من 600 مجتهد من خريجي مدرسة النجف، وكلهم تتلمذ بصورة او بأخرى على الخوئي. اذن ان خليفة الكلبايكاني سيكون على الارجح من مدرسة النجف وليس من مدرسة قم. ومن اللافت ان المراجع الأربعة البارزين في بداية الثورة وهم السيد مرعشي نجفي والسيد شريعة مداري والسيد الخميني والسيد الكلبايكاني لم يترك الثلاثة الاوائل منهم بعد وفاتهم تلميذاً او اكثر من الذين قد يتصدون للمرجعية. ويلاحظ ان العهد الثوري في مدرسة قم وتغلب السياسي على الديني لم يؤد الى ابراز فقهاء مجتهدين بخلاف ما حصل ويحصل في النجف. ويطرح التنافس بين قم والنجف بعداً آخر يتمثل في ان حوزة النجف توجد في بيئة عربية ما يساعد التلاميذ على اتقاق هذه اللغة التي لا بد منها لكل مجتهد ضليع بعلوم الفقه والاصول. فعلوم العربية من صرف ونحو هي اول عدة يتزودها الفقيه في الحوزات. قائمة طويلة من المتنافسين قائمة المتنافسين من تلامذة الخوئي على المرجعية طويلة تنتهي الآن باثنين: السيد الروحاني في قم والسيد السيستاني في النجف. وهكذا تبدو خريطة فيها الكلبايكاني في قم المرجع المشار اليه والذي اتجه الى تقليده الكثيرون داخل ايران وخارجها، ويبرز في قم ايضاً الروحاني الذي يعتبر المرجع المتفاعل مع الساحة والحوزة، فهو يمارس التدريس والفتوى وله موقعه في البازار، لكنه محسوب على المعارضة الحادة للوضع القائم في ايران، وهذا ما يعوق حركته، وقيل انه ممنوع من اداء صلاة الجماعة. اما في النجف فهناك مرجعية السيد ابو الاعلى السبزواري الذي قيل ان وضعه الصحي هو الذي منع الخوئي من ايكال امر منبره والصلاة في المسجد اليه. وهكذا منذ العام 1988 جلس على منبر الخوئي في بحث الخارج الفقهي والاصولي السيد علي السيستاني بحث الخارج هو بمثابة الدراسات العليا اذ يلقي الاستاذ الدرس مباشرة ويدونه التلامذة من دون العودة الى كتاب ولذلك جاءت كلمة الخارج وتعني الدرس خارج المتون، وكذلك تولى امامة الصلاة في مسجد الخضراء المعروف منذ الستينات ان الخوئي يصلي فيه. لكن ما يضعف ترشيح السيستاني للمرجعية انه لم يكن معروفاً خارج الحوزة في ظل الخوئي. وزاد في حراجة مكانته ان معظم جهاز مرجعية الخوئي الذي كان يوفر له الدعم والتأييد هو الآن في السجن. وطبعاً الى جانب السيستاني هناك اسماء كثيرة في النجف مؤهلة للمرجعية لكنها لم تتصدَ لهذا الامر، اي لم تطرح نفسها. ومن الاسماء المؤهلة الشيخ محمد اسحق الفياض الذي يلقي درس خارج في الفقه والاصول، وهو من اهم من كتب تقريرات الاصول للخوئي التقريرات هي المحاضرات بعد تنقيحها وتوثيقها من قبل التلميذ باشراف استاذه. وهناك ايضاً الشيخ ميرزا علي الغروي صاحب كتاب "التنقيحات" وهو عبارة عن تقريرات الخوئي في الفقه. والسيد مرتضى علي الخلخالي من لجنة افتاء الخوئي عمره 90 سنة وهو معتقل مع ابنه السيد مهدي الخلخالي وعدد من اولاده الآخرين والسيد علاء بحر العلوم امام صلاة الجمعة في الصحف الشريف حيث دفن علي بن ابي طالب ع. اما في ايران فالى جانب الروحاني تبرز اسماء اخرى ايضاً منها: الشيخ الوحيد الخرساني صاحب اضخم درس في حوزة قم من حيث الكم والكيف. والشيخ علي الفلسفي صاحب اهم درس في حوزة مشهد. وكل منهما يؤم صلاة الجماعة. ثم الشيخ ميرزا جواد التبريزي. ومن تلامذة الخوئي الذين ترد اسماؤهم كمراجع مرشحين في المرحلة المقبلة هناك الشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد حسين فضل الله وكلاهما من لبنان. والاخير يتوقع بعضهم ان يستعيد من خلاله مرجعية السيد محمد باقر الصدر الذي قتل في العام 1980 في النجف. وهناك على صعيد التقليد مرجعية محدودة للشيخ محمد تقي الفقيه في لبنان، ويمكن ان تتوسع اذا توافرت ظروف مناسبة. ثلاث دوائر من الصعب بعد هذا العرض الفصل بين بروز المرجعية والظرف السياسي المتصل بهذا البروز، لذلك فان ثلاث دوائر ستكون مشاركة في صنع المرجعية في المستقبل هي: الدائرتان الايرانيةوالعراقية ودائرة المقلدين في العالم، خصوصاً خارج ايرانوالعراق. وإذا كانت الحكومة الايرانية ستتجنب الصدام مع المراجع، فانها ستسعى الى ايجاد الظروف والقنوات التي تهيئ لقيام مرجع متفهم متعاون، وإن لم يكن مع الثورة تماماً وفي كل مواقفها، مع احتمال ان يكون هناك سعي ليكون المرجع بعد المرحلة الانتقالية السيد خامنئي نفسه. اما الحكومة العراقية فهي امام مهمة اشد تعقيداً، اذ انها قلقة على مصيرها قبل قلقها على من يكون المرجعية، لذلك قد يؤدي وضعها هذا اما الى اهمال مسألة المرجعية والحرص فقط على ضبطها وعدم الافساح امامها لقيادة تمرد ضد الحكومة او الخروج على سياساتها، واما ان تتعامل بضيق فتحاول ان تفرض مرجعاً كما تردد اثر وفاة الخوئي في العام الماضي. وقد يعني السلوك الأول استمرار حوزة النجف ولو في وضع قلق وحرج، اما الاحتمال الثاني فيعني القضاء على حوزة النجف وانتقال من بقي فيها الى اماكن اخرى. وهكذا قد تكون للصراع السياسي، بين تنافس تلامذة الخوئي الكلمة الفصل في مستقبل المرجعية وفي المكان الذي ستستقر فيه. قصة المرجعية بدأت قصة المرجعية عند الشيعة بعد غيبة إمامهم الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري الذي يقول الشيعة انه دخل في الغيبة الكبرى عام 329 ه بعدما غاب الغيبة الصغرى واستمرت حتى بلوغه 74 عاماً، ومارس خلالها سلطته الدينية والسياسية عليهم بواسطة اربعة سفراء كانوا صلة الوصل بينه وبينهم وينقلون اليه اموال الخُمس، ويحملون منه الرسائل والتوقيعات التي كان يضمنها رأيه في المسائل المختلفة. ويقول الشيعة الامامية، وهم الفرقة الكبرى بين باقي فرق الشيعة ان الامامة تبقى متصلة بوجود الامام الغائب الذي ينقلون عنه حديثاً عرف في اوساطهم بپ"مقبولة ابن حنظلة"، والتي يستند اليها من يعتقد بولاية الفقيه اي سلطة المرجع الذي ينوب عنه الامام الغائب في ادارة شؤون الشيعة الدينية والزمنية. وبعد دخول الامام الثاني عشر في الغيبة الكبرى اصبح له نواب متعددون كل حسب علمه واجتهاده، لكن الشيعة كانوا يجمعون على مرجع أعلى تكون مرجعيته الاشمل. وبعد الغيبة الكبرى توزعت مرجعيات الشيعة على الاقاليم التي ينتشرون فيها وظهرت مرجعيات، الى النجف، في قم والري في ايران والتي عرفت رواجاً كبيراً في الحركة العلمية وكان في قم وحدها مائتا ألف من المحدثين، اي المراجع في وقت كانت مرجعية العراق تشهد ضعفاً واختناقاً كبيرين. ويمكن القول ان الدولة البويهية الشيعية التي تأسست في ايران عام 320 ه وفرت لحركة المرجعية في ايران نشاطاً ملحوظاً استمر الى هذه الايام. ولكن ظهور الشيخ المفيد في بغداد 336 - 413 ه وتنوع نشاطه وقابلياته وتفوقه العلمي اكسب مرجعية العراق بعداً متميزاً خاصاً استمر بعد المفيد بالشريف الرضي واخيه الشريف المرتضى الذي كان في حياة ابيه ينوب عنه في نقابة الطالبيين وامارة الحج والنظر في المظالم. وبعد المرتضى تولى زعامة الشيعة تلميذه ابو جعفر محمد الطوسي 385 - 460 ه وهو ايراني من مدينة طوس في خراسان، وفي عهده ضعفت مدرسة العراق اثر سيطرة السلاجقة على ايران ثم دخولهم بغداد واحراق مدرسة الشيعة فيها. ويتولى المرجع الديني المسؤولية المباشرة في قيادة الشيعة اذ انه يبين لهم معالم الحلال والحرام في العبادات والمعاملات وتصبح شؤون حياتهم شرعية لو قلدوا واحداً من المراجع الذين تتوافر فيهم شروط التقليد. وتعتبر ولاية الفقيه، الحد الفاصل بين المراجع ونظرياتهم تجاه الحكم والقيادة السياسية، فقد اختلف العلماء في حدود هذه الولاية، وبعضهم لم يقل بها اطلاقاً. وآخرون توزعوا بين الرأيين السابقين في حدود القدرة والامكانية كالخوئي. وهناك من لم يقبل اي حديث او رواية جاءت بولاية الفقيه ومنهم السيد علي السيستاني في النجف. ومارست المرجعية الدينية خلال التاريخ المنصرم دوراً مهماً في حياة الشيعة في العراقوايران خصوصاً ولا يمكن تجاهل النفوذ السياسي للمراجع وتأثيرهم في مجريات الاحداث والوقائع الخطيرة في ثورة العشرين في العراق او في الثورة الدستورية للعلماء في ايران عام 1906 المشروطة وما تلاها من حوادث اوصلت الشيعة الى تسلم الحكم في طهران على قاعدة ولاية الفقيه التي يعتقد بها الخميني واتباعه. ولا يعين المرجع الشيعي بمرسوم، ويختلف عن غيره من علماء الدين في ان قطاعات الشيعة هي التي تسعى الى كسب تأييده واختياره بصفته المرجع الاعلى اذا توافرت فيه شروط الاعلمية والعدالة والمحافظة على سيرة من سبقوه من الفقهاء. سلسلة المرجعيات منذ منتصف هذا القرن السيد أبو الحسن الاصفهاني ت 1945 السيد حسين البروجردي ت 1961 النجف العراق السيد عبدالهادي الشيرازي ت 1962 السيد محسن الحكيم ت 1970 السيد محمود الشهرودي ت 1976 السيد أبو القاسم الخوئي ت 1992 السيد عبدالأعلى السبزواري ايران السيد أحمد الخنساري طهران ت 1986 السيد محمد هادي الميلاني مشهد ت 1975 السيد كاظم شريعة مداري قم ت 1984 السيد روح الله الخميني قم ت 1989 السيد مرعشي نجفي قم ت 1990 السيد محمد رضا الكلبايكاني قم عمره 96 عاماً السيد حسن القمي مشهد في الاقامة الجبرية عمره 80 عاماً المرشحون للمرجعية في المرحلة المقبلة من تلامذة الحكيم والخوئي السيد محسن الحكيم ابو القاسم الخوئي الشيخ محمد تقي الفقيه لبنان مشهد: الشيخ علي الفلسفي قم: الشيخ محمد الروحاني الشيخ وحيد الخراساني الشيخ ميرزا جواد التبريزي النجف: السيد علي السيستاني السيد علي البهشتي الشيخ محمد اسحق الفياض باكستاني الشيخ ميرزا علي الغروي السيد علاء الدين بحر العلوم السيد محمد رضا الخلخالي سجين لبنان: الشيخ محمد مهدي شمس الدين السيد محمد حسين فضل الله افغانستان الشيخ محمد آصف محسني